المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌القسم الأولفي إثبات مقاصد الشريعة واحتياج الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها ومراتبها

- ‌أ - إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع

- ‌ب - احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة

- ‌ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها

- ‌هـ - أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية

- ‌و - انتصاب الشارع للتشريع

- ‌ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية

- ‌ح - تعليل الأحكام الشرعية، وخُلو بعضها عن التعليل وهو المسمّى التعبّدي

- ‌القسم الثاني في مقاصد التشريع العامة

- ‌أ - مقاصد التشريع العامة

- ‌ب - الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية

- ‌ج - ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة

- ‌د - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها

- ‌هـ - المقصد العام من التشريع

- ‌و - بيان المصلحة والمفسدة

- ‌ز - طلب الشريعة للمصالح

- ‌ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع

- ‌ط - عمومُ شريعة الإسلام

- ‌ي - المساواة

- ‌يا - ليست الشريعة بنكاية

- ‌يب - مقصد الشريعة من التشريع تغييرٌ وتقريرٌ

- ‌يج - نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال

- ‌يد - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية

- ‌يه - التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمةَ المقصودة للشريعة

- ‌يو - سد الذرائع

- ‌يز - نوط التشريع بالضبط والتحديد

- ‌يح - نفوذ الشريعة

- ‌يط - الرخصة

- ‌يك - مراتب الوازع جبليةٌ ودينيةٌ وسلطانية

- ‌كا - مدى حريّة التصرّف عند الشريعة

- ‌كب - مقصد الشريعة تجنّبُها التفريع في وقت التشريع

- ‌كج - مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال

- ‌كد - واجب الاجتهاد

- ‌القسم الثالثفي مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس

- ‌أ - المعاملات في توجُّه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل

- ‌ب - المقاصد والوسائل

- ‌ج - مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقّيها

- ‌د - مقاصد أحكام العائلة

- ‌هـ - آصرة النكاح

- ‌و - آصرة النسب والقرابة

- ‌ز - آصرة الصهر

- ‌ح - طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث

- ‌ط - مقاصد التصرفات المالية

- ‌ي - الملك والتكسب

- ‌يا - الصحة والفساد

- ‌يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان

- ‌يج - مقاصد أحكام التبرعات

- ‌يد - مقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌يه - المقصد من العقوبات

- ‌ثَبت جملَة من المراجع

الفصل: ‌يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان

‌يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان

علمتَ ممّا قدّمناه آنفاً أن الشريعة قصدت من تشريعها في التصرّفات المالية إنتاج الثروة للأفراد ولمجموع الأمة. وقد مضى أن الثروة تتقوَّمُ من المتموَّلات، ومن العمل. فالعمل أحد أركان الثروة وآلة استخدام ركنيها الآخرين.

ونريد من العمل، في مبحثنا هذا، نوعاً من أنواع جنس العمل، وهو خصوص العمل الذي يقوم به غيرُ صاحب مال في مال غيره ليُحصَّل بعمله جزءاً من إنتاج مال استعمله صاحبه لتحصيل جزء مثله معه.

ولأجل كون القادرين على العمل والإنتاج يكثر فيهم من ليس بيده مال يستعين به على العمل المثمر المنتج، أو بيده مال لا يوازي مقدار مقدرته على الإنتاج، وكون كثير من أصحاب الأموال يُعجزهم العمل في أموالهم عملاً يوازي ما تستدعيه مقادير تلك الأموال من النتائج، لا سيما أصحاب الأموال الذين انجرَّت لهم الأموال من تلقاء غيرِهم بعطية أو ميراث، كان الأصلان العظيمان من أصول الثروة - وهما المال والعمل - معرَّضين للعوائق، وتعطيل الإنتاج في أحوال كثيرة. وذلك رزء على أصحابهما وعلى الأمة.

فكان مما اهتدى إليه أهل العقول إيجاد طرائق تتألف فيها

ص: 492

أموال أصحاب الأموال وأعمال المقتدرين على العمل ليحصل من مجموع ذلك إنتاج نافع للفريقين.

وكان من حِكمة التشريع الإِسلامي أن لا يوصد في وجوه الفريقين سلوك الطرق المثلى من تلك الطرائق بوجه عادل مع الغضَّ عمّا يتطرق ذلك من مخالفة مّا للتشريعات التي بُنيت عليها أحكامُ المعاملات المالية في المعاوضات.

إن المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان هي إجارة الأبدان، والمساقاة، والمغارسة، والقِراض، والجُعل، والمزارعة. وهي كلُّها عقودٌ على عمل المرء ببدنه وعقله، وعلى قضاء وقت من عمره في ذلك، ما عدا المغارسة، فإن فيها إحضار متموِّل قليل من جهة عاملها، وهو الأعواد المغروسة إلَّا أنّها تافهة بالنسبة إلى أهمية العمل. وكذلك ما يحصل في المساقاة بقلّةٍ من إصلاح دلو وإصلاح الحوض.

فهذه العقود لا تخلو من غرر لعسر انضباط مقادير العمل المتعاقد عليه، وعسر معرفة العامل ما ينجر إليه من الربح من جراء عمله، ولعسر انضباط ما ينجر إلى صاحب المال فيها من إنتاج أو عدمه، غير أن الشريعة ألغت هذا الغرر لأن إضرار مراعاته أشدُّ من إضرار إلغائه، لِمَا في مراعاته من حرمان كثير من الأمة فوائد السعي والاكتساب. وهي أيضاً لا تخلو من إضرار يلحق العامل في أحوال كثيرة، إذا عمل عمله في المساقاة أو المزارعة فلم يثمر الشجر، أو عمل في الجُعل فلم يحصل المجاعل عليه، أو عمل في القِراض فلم يَنضّ ربح. فيكون العامل قد أضاع الوقت وتجشم مشقة العمل ولم يحصل له شيء. وقد ألغت الشريعة هذا لأن بقاء أهل العمل بطالين أشدُّ عليهم من أضرار الخيبة في بعض الأحوال.

ص: 493

وإذ قد كان العَمَلَة في هذه العقود هم مظنّةَ الحرص على التعجل بانعقاد هذه العقود، من جراء حاجتهم إلى الارتزاق، وكونهم لا يستطيعون لذلك حيلة إلا بعمل أبدانهم، ولطالما رأيناهم يقحمون أنفسهم في التعاقد على أعمال تنوء بهم حين لم يجدوا ما يعملون فيه، فلو ضيّق عليهم الشروطَ أصحابُ الأموال الذين يمدّونهم بما يعملون هم فيه لتعطّل عليهم الارتزاق من أعمالهم، أو لأَقدموا على ذلك عند التعاقد وعجزوا عن الإيفاء بها، فتحدث بذلك الخصومات بينهم. ولكان شعور أصحاب الأموال بحاجة العَمَلَة إلى العمل مظنّةَ أن يغريَهم على الرغبة والحرص في زيادة الإنتاج لأنفسهم والإجحاف باستثمار العَمَلَة، كان مقصدُ الشريعة في هذه المعاقدات كلها الحياطة لجانب العَمَلَة لسدّ هذه الذريعة عنهم، كيلا يذهب عملهم باطلاً أو مغبوناً. ولم تر معذرة لأصحاب الأموال في هذا التضييق، لأن لهم طرائق شتى يستثمرون بها أرباح أموالهم. فهم في خيرة من استعمالها أو اكتنازها للإنفاق منها وتقتيرها، بخلاف حال العَمَلَة، فهم إن حرموا مساعدةَ أصحاب الأموال بقوا عاطلين.

ولا يظنَّنَ أحد أن الشريعة تستبيح أموال أصحاب الأموال ليأكلها العَمَلَةُ باطلاً، ولكنّها أرادت حراسة حقوقهم من الاعتداء عليها. فذلك عدل وصلاح للفريقين كليهما.

ولقد استقريت ينابيع السنة في هذه المعاملات البدنية على قلّة الآثار الواردة في ذلك (1) *، وتتبعت مرامي علماء سلف الأمة وخاصة علماء المدينة في شأنها، فاستخلصت من ذلك: أن المقاصد الشرعية فيها ثمانية.

(1) * لقلة أنواع المعاملات على الأبدان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كانت الثروة بسيطة. اهـ. تع ابن عاشور.

ص: 494

أحدها: تكثير المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان. وهذا مدلول لاغتفار الغرر فيها. فلولا الحاجةُ إليها لما اغتفرت الشريعة فيها ما لم تغتفره في المعاملات المالية من الجانبين. وقد رجعتْ بذلك إلى قسم المصالح الحاجية. وقد أعطى الأنصارُ حوائطهم للمهاجرين على أن يَكْفُوهم العمل ولهم نصف الثمرة. وعاملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يهودَ خيبر على أن عليهم عمل النخل، ولهم نصف الثمرة، مع العلم بأن أرض خيبر صارت للمسلمين لأنها فتحت عنوة (1).

وقد كاد أن يتفق علماء الإِسلام على مشروعية المساقاة والمزارعة (2).

(1) أقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود خيبر بقوله: "أقرّكم ما أقرّكم الله على أن الثمرة بيننا وبينكم". وهم أهل ذمّة ضربت عليهم الجزية. ابن رشد. المقدمات: 2/ 547، 549؛ ابن الخوجه. الخراج والعشر:24.

(2)

المساقاة: مفاعلة من السقي. وهي أن يدفع الرجل كرمه أو حائط نخله أو شجر تينه أو زيتونه أو سائر مثمر شجره لمن يكفيه القيام بما يحتاج إليه من السقي والعمل على أن ما أطعم الله من ثمرها يكون بينهما نصفين أو على جزء معلوم من الثمرة. ولا تجوز إلا في أصول الثمار الثابتة. ابن عبد البر. الكافي: 2/ 766؛ التسولي. البهجة في شرح التحفة: (1) 2/ 286.

وهي رخصة مستثناة من كراء الأرض بما يخرج منها، ومن بيع الثمرة والإجارة بها، ومن الإجارة المجهولة، ومن بيع الغرر. التسولي. البهجة في شرح التحفة:(1) 2/ 286.

وعللوا استثناءها من الأصول الممنوعة لضرورة النّاس إلى ذلك وحاجتهم إليه، إذ لا يمكن للنّاس عمل حوائطهم بأيديهم. ابن رشد. المقدمات: 2/ 552.

ومن ثم قال مالك بجوازها. وكذا الشافعي وأحمد بن حنبل. ودليلهم على هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم. فإنه ساقى يهود خيبر على أن لهم نصفَ الثمرة بعملهم، وأقرّهم أبو بكر على ذلك ومن بعده عمر. وعمل من بعده عثمان =

ص: 495

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= على المساقاة والخلفاءُ من بعده. وواضح أن المساقاة من الرسول حكم محكم غير مفسوخ. وهي مقبولة من جهة النظر، لأن الأصول مال لا ينمو بنفسه ولا تجوز إجارته، وإنما ينمو بالعمل عليه. ابن رشد. المقدمات: 2/ 548.

وأجازت الظاهرية المساقاة على النخيل خاصة، وشمل الجواز مع النخيل الأعناب عند الشافعي، قاله في الجديد. وهي تجوز عند المالكية في جميع الأشجار والزروع ما عدا البقول.

وخالف في ذلك أبو حنيفة لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن المخابرة. وقد ردّ على ذلك القرافي بأجوبة متعددة. الذخيرة: 6/ 93 - 95. وأجازها الصاحبان وقالا: تصح في الشجر والكرم والرطاب وأصول الباذنجان. الزيلعي. تبيين الحقائق: 5/ 284.

والمزارعة مفاعلة من الزرع. شركة الزرع. تقدم ذكرها والتعريف بها 472/ 3 وهي عقد على الزرع ببعض الخارج. وهي على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه. وتصح بشرط صلاحية الأرض للزراعة، وأهلية العاقدين، وبيان المدة، ورب البذر وجنسه، وحظ الآخر والتخلية بين الأرض والعامل والشركة في الخارج، وأن تكون الأرض والبذر لواحد والعمل والبقر لآخر، أو تكون الأرض لواحد والباقي لآخر، أو يكون العمل لواحد والباقي لآخر. الزيلعي. تبيين الحقائق: 5/ 278.

وأجازها المالكية بشرطين عند ابن القاسم: أولاً: السلامة من كراء الأرض بما تنبت، الثاني: تكافؤ الشريكين فيما يخرجان. وأجازها ابن دينار وإن لم يتكافآ وبه جرى العمل بالأندلس، وأجازها قوم وإن وقع كراء الأرض فيها بما تنبت. فإن كانت الأرض من أحدهما والعمل من الآخر فلا بد أن يجعل رب الأرض حظه من الزريعة لئلا يكون كراء الأرض بما تنبت، وإن كانت الأرض بينهما بتملك أو كراء جاز أن تكون الزريعة من عندهما معاً، أو من عند أحدهما إذا كان في مقابلتها عمل من الآخر. ابن جزي. القوانين الفقهية:285.

ص: 496

وقال المالكية بالمغارسة وأهملها الحنفية والشافعية (1).

ولأجل هذا المقصد جَزَمنا بضعف القول بقصر المساقاة على النخيل والكروم، ورجحنا القول بجواز المساقاة في الشجر والزرع المحتاج إلى العمل على القول بتخصيصها بالشجر دون الزرع. ورجحنا ما جرى عليه العمل بالأندلس من إعطاء أرض الحبس مغارسة (2).

(1) المغارسة مفاعلة من الغرس. تقدم التعريف بها: 472/ 3 وهي على ثلاثة أوجه: الأول إجارة، إن غرس له بأجرة معلومة، والثاني جُعل، إن غرس له شجراً على أن يكون له نصيب فيما ينبت منها خاصة، الثالث أن يغرس له على أن يكون له نصيب منها كلّها ومن الأرض. وهذا الوجه أجازه أهل العلم قياساً على ما جوزته السنة من المساقاة. وهو متردد بين الإجارة والجُعل. فهو يشبه الإجارة في لزومه بالعقد، ويشبه الجُعل في أن الغارس لا يجب له شيء إلا بعد ثبوت الغرس وبلوغه الحد المشترط. ابن رشد. المقدمات: 2/ 236، 237. ويجوز الوجه الثالث بخمسة شروط، ذكرها ابن جزي. القوانين: 286. ومنع الشافعي هذا الوجه لأنه ليس شركة ولا قراضاً ولا إجارة، لعدم شروط الأقسام فلا تجوز. القرافي. الذخيرة: 6/ 138.

(2)

في البهجة شرح التحفة في المغارسة الفاسدة نقل عن شارح العمليات عند قوله: وأعط أرض حبس مغارسة، قال: وبه أفتى الفقيه أبو زيد عبد الرحمن الفاسي كما في نوازل الزياني. وفي هذا إشارة إلى الحكم في مغارسة أرض الوقف. التسولي: 2/ 200؛ وورد مثلها بعنوان: المغارسة في أرض الحُبس ماضية. المعيار: 7/ 436، وبعنوان: إعطاء أرض الحبس مغارسة: 8/ 171؛ وبعنوان: المغارسة الفاسدة إجابة لابن عتاب قال: اختلف في المغارسة والمساقاة إذا عقدت فاسدة وفاتت بالعمل. والذي أقول به أن للعامل أجر مثله فيما غرس وفيما سقى. وكذلك الأرض تعطى مغارسة وفيها أصول ثابتة. هذا المختار، وفيه أقوال كثيرة. وقال بعض شيوخ الشورى عن حكم من دفع أرضاً محبّسة على وجه =

ص: 497

الثاني: الترخيص في اشتمالها على الغرر المتعارَف في أمثالها، وهو من لوازم الأمر الأول. فقد أشرت إلى ذلك في طالعة هذا المبحث ممّا دلّ على أن الغرر لازمٌ لحقائق هذه العقود. وأحسب أن الغرر لم يُغتفر في شيء من العقود سوى العقود على أعمال الأبدان. وينبغي أن لا تغفل عن كون الغرر المغتفر هو الغرر فيما يعسر انضباطه من العمل، ومدته، واختلاف أزمانه من حَرًّ وقر. فأما ما يتيسر فيه ذلك فلا بد من ضبطه وبيانه. مثل بيان نوع العمل، ومقدار الأجر، ومقدار رأس مال القِراض، ومقدار ما للعامل من الربح في القِراض، أو من الثمرة في المساقاة، أو من الجزء في المغارسة.

الثالث: التّحرّز عما يثقل على العامل في هذه العقود، لكي لا يستغل ربُّ المال اضطرارَ العامل إلى التعاقد على العمل. فينتهز ذلك للتجاوز في أرباح نفسه. ولذلك قالوا: لا يجوز أن يشترط على عامل المساقاة عمل كثير غير عمل بدنه إلا ما لا بال له كشد الحظيرة وإصلاح الضفيرة (1) *، ولا اشتراط نفقةٍ على العامل كنفقة الدواب وعبيد الحائط (2) *. ولا يجوز أن يشترط على عامل المغارسة

= المغارسة فغرس الرجل وأدرك الغرس: إن ذلك يمضي ولا ينقضه من جاء بعده من الحكام لأنه حَكَمَ بما فيه اختلاف. اهـ. قلت: بمثل هذا صدرت الفتوى من شيوخ تلمسان في أرض أم العلو المحبّسة على المدرسة اليعقوبية منها. الونشريسي: 8/ 174 - 175.

(1)

* الحظيرة: السياج الذي يجعل خارج الحائط لمنع الدخول إليه وهو المسمّى عندنا الطابية والتخم. والضفيرة، بضاد ساقطة: مجتمع الماء الذي يسقط من الدلو ومن الجابية. اهـ. تع ابن عاشور.

(2)

* كانوا يجعلون للحائط عبيداً لخدمته ودواب للعمل تكون متابعة للحائط. اهـ. تع ابن عاشور.

ص: 498

تكسير أرض شعراء (1) *، ولا جعل جدار للأرض المغترسة، بخلاف أن يشترط على ربّ الأرض فهو جائز ولازم.

وإنما قال علماؤنا في المزارعة - إذا أعطى ربُّ الأرض لعامل المزارعة الأرضَ محترثةً -: لا يجوز أن يشترط على العامل أن يحرثها عند انتهاء مدة المزارعة ويسلمها لربها محترثةً كما وجدها، لمراعاة هذا المقصد. وهو أن يكون ربّ الأرض بعد أن حرث أرضه احتاج إلى عامل يزرعها. وأنّ العامل لولا أنّه وجدها محترثةً لَمَا تقبّلها، فيكون الشرط عليه بأن يتركها محروثةً إلجاء له.

الرابع: أن هذه العقود لم يُعتبر لزومُ انعقادها بمجرد القول، بل جُعلت على الخيار إلى أن يقع الشروع في العمل عندنا (2). أما الجُعل والقِراض فباتفاق (3)، وأما المغارسة والمزارعة فعلى

(1) الأرض أو الروضة الكثيرة الشجر. المعجم الوسيط.

(2)

العقود في المذهب على ثلاثة أضرب: الأول ما يلزم بالقول اتفاقاً أو على الراجح وهو أربعة: النكاح والبيع والكراء والمساقاة، الثاني ما لا يلزم بالقول وهو أربعة أيضاً: الجُعل والقِراض والتوكيل والتحكيم. والضرب الثالث المختلف فيه وهو ثلاثة: المغارسة والمزارعة والشركات. التاودي. حلى المعاصم لبنت فكر ابن عاصم: 2/ 187.

وقد جمع الأضرب الثلاثة مع التفريق بينها ابن غازي في قوله:

أربعة بالقول عقدها فرا

بيع نكاح وسقاء وكرا

لا الجُعل والقِراض والتوكيل

والحكم بالفعل بها كفيل

لكن في الغراس والمزارعة

والشركات بينهم منازعة

التاودي والتسولي. حلى المعاصم على التحفة: 2/ 187.

(3)

قال ابن عاصم: =

ص: 499

الراجح (1). ولم يُستثنَ منها إلا المساقاة، فقالوا: لزومها بالعقد (2) ، لأن في تأخير لزومها إضراراً على الأشجار والزرع.

= الجُعل عقد جائز لا يلزم

لكن به بعد الشروع يحكم

فلكل واحد من الطرفين فسخه قبل الشروع في العمل ويلزم الجاعل بعد الشروع. التسولي والتاودي: 2/ 187.

والقِراض وهو المضاربة:

إعطاء مال من به يتَّجر

ليستفيد دافع وتاجر

- وهما "ربّ المال والعامل" من ربح يحصل فيه - جزءاً معلوماً. وهو من العقود الجائزة التي تلزم بالشروع في العمل لا قبل الشروع فيه. التسولي والتاودي: 2/ 217.

(1)

المغارسة تلزم بالعقد على الراجح نبّه على ذلك ابن عاصم بقوله:

الاغتراس جائز لمن فعل

ممن له البقعة أو له العمل

وفي لزوم المزارعة بالعقد خلاف. فالقائلون بهذا ابن الماجشون وسحنون وابن القاسم. وبه قال ابن زرب وابن الحارث وابن الحاج، وبه أفتى ابن رشد وصححه في الشامل حيث قال: عقد المزارعة لازم قبل البذر على الأصح، ومن القائلين بأنها لا تلزم إلا بالشروع في العمل ابن كنانة في المبسوط وابن رشد في فتواه بقرطبة أنها تلزم فيما بذر. وذهبت طائفة إلى أنها لا تلزم بالعقد ولا بالشروع بل بالبذر للعمارة، وهو قول ابن القاسم في المدونة وعليه عوّل خليل، إذ قال: لكلًّ فسخ المزارعة إن لم يبذر. التسولي والتاودي: 2/ 196، 204.

(2)

قال ابن رشد: والمساقاة من العقود اللازمة تنعقد باللفظ وتلزم به. المقدمات: 2/ 552. وهذا هو القول المعتمد، وإياه عنى ابن عاصم بقوله:

إن المساقاة على المختار

لازمة بالعقد في الأشجار

وقيل: إنما تلزم بالشروع. وقال ابن عرفة بالحوز في الأشجار. التسولي والتاودي: 2/ 190. وحكى الرصاع في شرح حد المساقاة لابن عرفة أن الشيخ رأى أنها عقد لازم بالقول على قول أكثر أهل المذهب بخلاف القِراض. الرصاع. شرح حدود ابن عرفة: 2/ 508.

ص: 500

وعندي أنه ينبغي أن تكون جميعُ العقود المشتملة على عمل البدن غيرَ لازمة بمجرد القول، بل تلزم بالشروع في العمل.

وحيث كان معنى ذلك آيلاً إلى خيار العامل كان الوجه أن يُضرَب للعامل في هذه العقود آجالٌ لابتداء العمل، كشأن بيع الخيار بما ينفي المضرة عن صاحب المال، مثل إبّانَ ابتداء الخدمة في المساقاة، وإبان الحراثة في المزارعة، وإبان ابتداء الغرس لذلك العام في المغارسة، كي لا يضيع بالتأخير على صاحب المال عام كامل.

الخامس: إجازة تنفيل العَمَلة في هذه العقود بمنافع زائدة على ما يقتضيه العمل بشرط دون تنفيل رب المال. فقد قال أئمتنا: يجوز أن يشترط عامل المساقاة على رب الحائط الانتفاع ببياض من الأرض لنفسه. ولا يجوز اشتراط ذلك لرب الأرض ويوجب الفسخ (1).

السادس: التعجيل بإعطاء عوض عمل العامل بدون تأخير ولا نظرة ولا تأجيل، لأن العامل مظنّة الحاجة إلى الانتفاع بعوض عمله، إذ ليس له في الغالب مؤثل مال. وفي الحديث القدسي قال الله تعالى:"ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة" - فذكر - "ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره"(2). وهذا صادق بتأخير إعطائه

(1) الأصل في ذلك قول مالك: إذا ساقى الرجلُ النخلَ وفيها البياضُ، فما ازدرع الرجلُ الداخلُ في البياض فهو له. قال: وإن اشترط صاحب الأرض أنه يزرع في البياض لنفسه، فذلك لا يصلح لأن الرجل الداخل في المال يسقي لرب الأرض. فذلك زيادة ازدادها عليه. الموطأ: 2/ 704.

(2)

حديث أبي هريرة انظر 34 كتاب البيوع، 106 باب إثم من باع حراً. ونصه: "قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطي بي ثم غدر، =

ص: 501

أجرَه وبحرمانه منه بالكليّة، وإن كان الثاني أشدَّ، فجعلَه كحق لله تعالى. ولذلك قال:"أنا خصمهم" أي دون صاحب الحق. وهذا تنويه عظيم بهذا الحق، وزجر شديد عن التهاون به.

وفي حديث ابن عمر وجابر وأنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه"(1) *. ولذلك كان تأجيل خدمة المغارسة جائزاً تحديدُه بقدر تبلغه الأشجار أو مدّة أو إثمار، ولا يجوز أن يكون التأجيل إلى مدة تتجاوز إبان الإثمار (2). وهو من موجبات فساد العقد.

السابع: إيجاد وسائل إتمام العمل للعامل فلا يُلزَمُ بإتمامه بنفسه.

= ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره". خَ: 3/ 41؛ 37 كتاب الإجارة، 10 باب إثم من منع أجر الأجير. خَ: 3/ 50؛ انظر 16 كتاب الرهون، 4 باب أجر الأجراء، ح 2442. جَه: 2/ 816.

(1)

* رواه ابن ماجه عن ابن عمر، ورواه الطبراني في أوسطه عن جابر. ورواه الحكيم انظر في نوادر الأصول عن أنس. وطرقه كلها ضعيفة لكنها متعاضدة. اهـ. تع ابن عاشور.

(2)

قال ابن رشد: وأما إن كان الحد فوق الإطعام فلا يجوز. المقدمات: 2/ 283.

وذكر التسولي أن عمل الغارس يكون بالسنين لمدة لا يثمر النخل ولا يطعم الشجر قبلها، فإن سميا أجلاً تثمر الأشجار قبله لم يجز، أو يكون التحديد بالمقدار. فإن كانت تطعم قبل بلوغها القدر فسدت لأن العامل تكون له الثمرة إلى أن يبلغ الشجر الأجل ثم يكون له نصف الشجر بأرضه، فكأنه أجر نفسه بثمر لم يبد صلاحه وبنصف الأرض وما ينبت فيها، ويكون أيضاً بالإثمار. وتفسد المساقاة إن شرطا زيادة عليه. كذا قال التاودي: وتفسد إن كان فوق الإطعام اتفاقاً. التسولي والتاودي: 2/ 196 - 197.

ص: 502

ولذلك قالوا في عامل المساقاة - إذا عجز عن الإتمام -: إنه يأتي بعامل آخر لا يضر بصاحب الحائط ولو كان دون العامل الأول في الأمانة. وإذا لم يجد من يخلفه في العمل فإن له أن يبيع حظه في الثمار إذا بدا صلاحُها، ويستأجر من يُكمِل العملَ، ويكون للعامل الأول ما فضل. وقال المالكية في عامل المغارسة: إن له أن يبيع حقَّه في العمل لآخر يقوم مقامَه (1). وهي مسألة من غُرر مسائل الفقه المالكي.

الثامن: الابتعاد عن كل شرط أو عقد يشبه استعباد العامل، بأن يبقى يعمل طول عمره أو مدة طويلة جداً بحيث لا يجد لنفسه مخرجاً، ولأجل هذا نجد علماءنا يقولون بفساد المساقاة في الشجر الذي لا ينقطع إثماره في وقت من السنة كشجر الموز وكالقضب (2). وكذلك ما تطول مدة إثماره لصغره كالمساقاة على وَدِيِّ النخل ونشء شجر الزيتون.

وقد قال علماء إفريقية: إن تلقيحَ الشجر الذي لا يُنتفع به كجبوز الزيتون العتيق في جبل وسلات بقرب القيروان يجري مجرى المغارسة لا مجرى المساقاة.

وعندي أن تأجيل مدة المساقاة في الشجر المخلف للأثمار كالموز أجلاً يحصل فيه الانتفاعُ للعامل خير من إبطال المساقاة في

(1) وهذا مفاد التنبيه السادس الذي أورده التسولي في المسألة حيث قال: إذا عجز الغارس قبل تمام العمل أو أراد سفراً فله أن يأتي بمن هو مثله يُكمل عمله بأقل من الجزء الذي دخل عليه أو بمساو له. البهجة في شرح التحفة: 2/ 199.

(2)

إذا كان الشجر مما يخلف لم تصح مساقاته حيث كان لا يقطع. أما ما يخلف مع كونه يقطع كالسدر فتصح. الزرقاني شرح خليل: 6/ 236.

ص: 503

مثله، لِمَا علِمتَ من المقصد الأول أن تكثير هذه المعاملات مقصودٌ للشريعة. ولأجل هذا كانت المزارعة المسماة عندنا في تونس بشركة الخماس (1) * - التي كان معظم مزارعات تونس جارياً عليها - هي شركة منافية لمقصد الشريعة لا محالة، وإن كانوا يزعمون أن الضرورة دعت إليها.

(1) * الخماس شريك المزارعة بخُمُس ما يخرج من الزرع. انظر: الفصول: 25، 29، 30، 32 من ترتيب 25 صفر عام 1291. اهـ. تع ابن عاشور. [وهذه الشركة جائزة وهو قول سحنون. وتكون الأرض والبذر والبقر على صاحب الأرض، والعمل على الخماس، وقيل: غير جائزة لأنه أجير، وهو قول ابن القاسم. وعلى جوازها للضرورة درج في العمليات إذ قال:

وأجرة الخماس أمر مشكل

وللضرورة بها تساهل

التسولي: 194، 206. والفصول من الترتيب المشار إليها أعلاه هي:

الفصل 25: الخماس شريك بالخمس في مقابلة عمله. فيستحقه من القدر الخارج من الصابة بعد إخراج العشر وعلف الدواب اللازمة لخدمة الفلاحة في الصيف المعتادة. وأما علف دواب ركوب الفلاح فعلى الفلاح.

الفصل 29: إذا أراد الخماس الفسخ وذمته عامرة بمال لصاحب الفلاحة، ولم يندرس إلا بعض الصابة، وباقيها مندر، وطلب من صاحب الفلاحة أن يدفع له جميع خمسه مما اندرس من غير انتظار الدرس، أو ينظره بما له بذمته إلى تمام الدرس، ولا يأخذ منابه من الصابة ولا يدفع له المال، فليس له إلا خمس الطعام المندرس، وباقي ماله يأخذه عند تمام الدرس. ولا يفسخ العقد إلا بدفع المال لصاحب الفلاحة قبل حلول اشتنبر ويتمم الخدمة اللازمة. وإن دخل اشتنبر فليس له فسخ العقد كما بالفصل 27.

الفصل 30: إذا أراد الخماس ألا يجدد عقد المزارعة على مقتضى الفصل 28، وكانت ذمته عامرة للفلاح من جراء الخماسة، أو بمال آخر، أو بهما معاً، فعليه أن يدفع ما عمرت به ذمته للفلاح، أو يعطي في ذلك ضامناً ملياً يرضي الفلاح. فإن لم يجد المال ولا الضامن فإنه يجبر على تعاطي حرفته =

ص: 504