الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يج - مقاصد أحكام التبرعات
عقود التبرعات قائمة على أساس المواساة بين أفراد الأمة الخادمة لمعنى الأخوة. فهي مصلحة حاجية جليلة، وأثرُ خُلق إسلامي جميل. فبها حصلت مساعفة المعوزين، وإغناء المقترين، وإقامة الجمّ من مصالح المسلمين.
وليس الذي نعمد إليه بالبحث في كتابنا هذا هو مطلق العطايا والتبرعات التي تسخو بها أيدي أولي الفضل فتضعها في أيدي العفاة، أو تتلطف بها إلى الأحبة والأقارب من صدقات يومية وعطايا موسمية. فإن تلك التبرّعات لا تتبعها نفوس أصحاب الحقوق. وهي من جملة النفقات التي جرت بها عوائد كل الناس في أحوالهم وتصرفاتهم الخاصة. وقد دخلت تلك الترغيبات الدينية وألحقت بالقربات. وإنما الذي نريده هنا هو التبرعات المقصود منها التمليك
= ما دام قادراً على الخدمة. فإن لم تكن له قدرة على خدمة الخماسة فإنه يسجن إذا لم يكن معلوم الفقر ولم تكن له حرفة ولا قدرة على الاستيجار.
الفصل 32: ليس للخماس أن يترك صناعة الخماسة إلا إذا صار فلاحاً. أما إذا لم يتيسر له أن يكون فلاحاً، وإنما ترك حرفة الفلاحة للشغل بحرفة أخرى أو لمجرد البطالة أو غير ذلك، فإن العامل (الوالي) يغصبه على التجديد إن رضي بالتجديد عند صاحبه، أو على أن يخمس عند غيره.
انظر: الرائد الرسمي التونسي عدد 12 س 15، 12 ربيع الثاني 1291 وهو عبارة عن الصحيفة الحكومية تصدرها لتنشر فيها القوانين والإجراءات ونحو ذلك].
والإغناء وإقامة المصالح المهمة الكائنة في الغالب بأموال يتنافس في مثلها المتنافسون، ويتشاكس في الاختصاص بها المتشاكسون.
فالصدقة والهبة والعارية قد تكون من الشقّ الأول داخلة في عداد النفقات، وقد تكون من الشقّ الثاني إذا كان المتبرع به ريعاً أو عقاراً أو مالاً عظيماً. والحبس والعمرى والوصية والعتق لا تقع إلا في الشقّ الثاني، فتكون غنى وتمليكاً سواء كانت لأشخاص معينين أم لأصحاب أوصاف مقصودة بالنفع أو مصالح عامة للأمة. كما يعطى لطلبة العلم والفقراء وأهل الخير والعبادة وإقامة الحصون وسدّ الثغور وتجهيز الجيوش ومداواة المرضى. فهذه تبتدئ ابتداء شبيهاً بالقربات، يدفع المرءَ إليها حبُّه الخير وسخاء نفسه بالفضل، ثم هو يعزم عزمه ويُلزم نفسَه فتصير تلك القرباتُ إلى انتقال حق المتبرع بها إلى المتبرع عليه، فتأخذ حكم الحقوق التي يتشاحُّ الناسُ في اقتنائها وانتزاعها وفي استبقائها ومنعها. فربّما عرضت ندامة المتبرّع أو كراهة وارثه أو حاجره، وربما أفرط المتبرع عليه في تجاوز حدّ ما خُوّل له. فكانت بسبب هذا العارض الكثير التطرق إليها جديرة بتسليط قواعد الحقوق ومقاصد التشريع عليها. وقد نجد في استقراء الأدلة الشرعية منبعاً ليس بقليل يرشدنا إلى مقاصد الشريعة من عقود التبرعات.
المقصد الأول: التكثير منها لما فيها من المصالح العامة والخاصة. وإذ قد كان شحّ النفوس حائلاً دون تحصيل كثير منها، دلّت أدلة الشريعة على الترغيب فيها، فجعلت من العمل غير المنقطع ثوابه بعد الموت. ففي الحديث الصحيح: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية
…
" (1) إلخ.
(1) هو حديث أبي هريرة ونصه كاملاً: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا =
والصدقات الجارية والأوقاف التي في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ومن أصحابه كثيرة، منها: صدقة عمر، وقد أشار عليه بها رسول الله عليه الصلاة والسلام (1). وكذلك صدقة أبي طلحة الأنصاري، فإنها كانت بإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2). وصدقة عثمان ببئر رومة، قال
= من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". انظر 25 كتاب الوصية، 3 باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، ح 14. مَ: 2/ 1255؛ انظر بلفظ ثلاثة أشياء من صدقة: 17 كتاب الوصايا، 14 باب فيما جاء في الصدقة عن الميت، ح 2880. دَ: 3/ 300؛ انظر بلفظ من ثلاث صدقة جارية: 13 كتاب الأحكام، 36 باب في الوقف، ح 1376. تَ: 3/ 660؛ وبلفظ إلا من ثلاثة: من صدقة جارية، انظر 30 كتاب الوصايا، 8 باب الصدقة عن الميت، ح 3649. نَ: 6/ 251.
(1)
استشار عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقته. فقال: يا رسول الله: إني أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس عندي، فكيف تأمر به؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها". فكتب: هذا ما تصدّق به عمر بن الخطاب صدقةً - لا تباع ولا توهب ولا تورث - على الفقراء وذوي القربى وفي سبيل الله وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف.
انظر 55 كتاب الوصايا، 28 باب الوقف كيف يكتب. خَ: 3/ 196؛ 83 كتاب الأيمان والنذور، 33 باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض؛ انظر 25 كتاب الوصية، 4 باب الوقف، ح 2015. مَ: 2/ 1255؛ انظر 17 كتاب الوصايا، 13 باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف، ح 1878. دَ: 3/ 298؛ انظر 26 كتاب الأحباس، 2 باب كيف يكتب الحبس، الأحاديث 3595، 3597، 3598، 3599. نَ: 6/ 230 - 231؛ انظر 15 كتاب الصدقات، 4 باب من وقف، ح 2396، 2397. جَه: 2/ 801؛ حَم: 2/ 12 - 13.
(2)
وخبر ذلك: "أن أبا طلحة كان أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل. وكان =
رسول الله: "من يشتري بئر رومة فيكون دلوُه فيها كدلاء المسلمين"(1) فاشتراها عثمان وتصدّق بها للمسلمين. وتصدّق سعد بن عبادة بمخراف له عن أمه تُوفّيت (2). وكانت هذه الصدقات أوقافاً ينتفع
= أحبَّ أمواله إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبلة المسجد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليّ بَيْرُحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها، يا رسول الله، حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بخْ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح. وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين". فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه".
انظر 24 كتاب الزكاة، 44 باب الزكاة على الأقارب. خَ: 2/ 126؛ انظر 12 كتاب الزكاة، 14 باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، ح 42. مَ: 2/ 693؛ انظر 58 كتاب الصدقة، 1 باب الترغيب في الصدقة، ح 2. طَ: 2/ 695 - 696.
(1)
تقدم: 460/ 1.
(2)
أورد هذا الخبر البخاري فيما رواه عكرمة عن ابن عباس أن سعد بن عبادة، رضي الله عنه، توفيت أمه وهو غائب عنها. فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها. أينفعها شيء إن تصدقتُ به عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها. 55 كتاب الوصايا، 15 باب إذا قال أرضي أو بستاني صدقة لله عن أمّي فهو جائز، وإن لم يبين لمن ذلك. خَ: 3/ 191.
قال ابن حجر: المخراف المكان المثمر، سمّي بذلك لما يخرف منه أي يُجنى من الثمرة، تقول: شجَرة مخراف ومثمار. قاله الخطابي. وفي رواية عبد الرزاق: "المخرف" بغير ألف: اسم الحائط المذكور، والحائط: البستان. انظر: الفتح: 5/ 385 - 386.
المسلمون بثمرتها على تفصيل في شروطها. فلا شبهة في أن مقاصد الشريعة إكثار هذه العقود.
فكيف يقول شريح (1) * بحظر التحبيس؟! وقد قال مالك لمّا أُخبر بمقالة شريح: "رحم الله شريحاً تكلّم ببلاده ولم يَرِد المدينة فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم وما حبّسوا من أموالهم. وهذه صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعُ حوائط. وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خَبراً"(2).
المقصد الثاني: أن تكون التبرعات صادرة عن طيب نفس لا يخالجه تردّد، لأنها من المعروف والسخاء، ولأن فيها إخراج جزء من المال المحبوب بدون عوض يخلفه. فتمحّض أن يكون قصد المتبرع النفعَ العام والثوابَ الجزيلَ. ولذلك كان من مقصد الشارع فيها أن تصدر عن أصحابها صدوراً من شأنه أن لا تعقبَه ندامة حتى لا يجيء ضر للمحسن من جراء إحسانه فيحذر الناس فعل المعروف، إذ لا ينبغي أن يأتي الخير بالشر كما أشار إليه قول الله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (3). فطيب النفس المقصود في التبرّعات أخص من طيب النفس المقرّر في المعاوضات.
ومعنى ذلك أن تكون مهلة لزوم عقد التبرّع عقب العزم عليه وإنشائه أوسع من مهلة انعقاد عقود المعاوضة ولزومها.
(1) * هو شريح بن الحارث الكندي من التابعين استقضاه علي على الكوفة، واستعفَى في زمن الحجاج. وتوفي سنة 79 هـ وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: استقضاه عمر.- تقدمت ترجمته: 43/ 2 - . اهـ. تع ابن عاشور.
(2)
انظر: ابن رشد. المقدمات: 2/ 418.
(3)
البقرة: 233.
وقد علمنا ذلك من أدلة في السنّة، ومن كلام علماء الأمة. ففي الحديث الصحيح:"أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغناء وتخشى الفقر، ولا تترك حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا"(1). وهذه الحالة تقتضي التأمل والعزم دون التردد إلى وقت المضيق. ويتحقق حصول مهلة النظر بأحد أمرين هما التحويز والإشهاد.
وقد كان اشتراط الحوز في التبرّعات ناظراً إلى هذا المقصد، بحيث لا يعتبر انعقاد عقد التبرع إلا بعد التحويز دون عقود المعاوضات. ولذلك كان حدوث مرض الموت قبل تحويز العطية مُفيتاً لها وناقلاً إياها إلى حكم الوصية. ففي الموطأ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إن أبا بكر الصديق كان نحلها جادّ (2) * عشرين وسقاً من ماله بالغابة. فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بُنية ما من الناس [أحد] أحبُّ إليَّ غنى بعدي منك، ولا أعزُّ عليّ فقرًا بعدي منك. وإني كنت نحلتكِ جادّ عشرين وسقاً فلو كنت جدَدْتيه واحتزْتيه كان لك. وإنما هو اليوم مال وارِث [وإنما هما أخواك
(1) حديث أبي هريرة وله طريقان عند مسلم: الأول حدّث به جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة، والثاني حدّث به ابن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة عنه: 12 كتاب الزكاة، 31 باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، ح 92، 93. مَ: 1/ 716؛ انظر 23 كتاب الزكاة، 60 باب أي الصدقة أفضل، ح 2540، 2542. نَ: 5/ 68، 69؛ 30 كتاب الوصايا، 1 باب الكراهية في تأخير الوصية، ح 3609. نَ: 6/ 237؛ انظر 22 كتاب الوصايا، 4 باب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير بعد الموت، ح 2706. جَه: 2/ 903.
(2)
* جاد بجيم ودال مهملة مشددة اسم فاعل بمعنى اسم مفعول، أي مجدود أي مقطوع. اهـ. تع ابن عاشور.
وأختاك] فاقتسموه على كتاب الله" (1).
وأمّا الإشهاد بالعطية فهو قائم مقام الحوز في أصل الانعقاد، وبذلك قال مالك: وأراه مأخوذاً من حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: أن النعمان بن بشير قال: إن أباه بشيراً أعطاه عطية، فقالت أمه عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أأعطيت سائر ولدك مثل هذا"؟ قال: لا، قال:"فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم" قال: فرجع فردَّ عطيته (2). فهو دليل بيَّن على أنها اعتبرت غير منعقدة قبل الإشهاد، ودليل بيِّن على أن الإشهاد في العطايا كان من المتعارف عندهم، فلذلك شرطت عَمْرة أن يكون الإشهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن المتبرع قد يخشى تأخّر الحوز، فهو يعمد إلى الإشهاد ثم يتبعه بالحوز. وهذا عندنا كاف في تحقق التبرع. فيصير المتبرَّع عليه مالكاً لِمَا تبرَّع به المتبرِّع، وله حق مطالبته بالتحويز عند المالكية (3). وقد قال كثير من العلماء - منهم: الشافعي وأبو حنيفة -
(1) وتمام رواية مالك: قالت عائشة: فقلت: يا أبت والله لو كان كذا وكذا لتركتُه. إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال أبو بكر: ذو بطن بنت خارجة. أراها جارية. 36 كتاب الأقضية، 33 باب ما لا يجوز من النحل، ح 40، طَ: 2/ 752.
(2)
تقدم: 118/ 1، 2، 3.
(3)
الأصل في ثبوت هذا الحق قول ابن أبي زيد: ولا تتم هبة ولا صدقة ولا حبس إلا بالحيازة. صالح بن عبد السلام الأبي. الثمر الداني: 552. والحيازة أو الحوز: رفع خاصية تصرف الملك فيه عن المعطي بصرف التمكن منه للمعطى أو نائبه. ووقته قبل فلس المعطي وموته ومرضه. قاله =
بأن الحوز شرطُ صحّة انعقاد التبرع، بحيث لا يلزم الوفاء بالتبرع إذا لم يحصل الحوز. ففي هذا توسعة على فاعل المعروف حتى ينضمَّ تنجيزُه إلى قوله. والحنفية قائلون بجواز الرجوع في الهبة بعد الحوز إلا في سبع صور وهو من هذا القبيل (1).
وأما الذين قالوا بانعقاد التبرع ولزومه بمجرد القول، وفيهم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، وداود الظاهري، وينسب إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، فقد عاملوه معاملةَ بقية العقود، وأغضَوْا عما في ذلك من المعروف الذي لا ينبغي أن يكون مضيَّقاً فيه على أهله خشيةَ إجفال الناس عنه، فإن في ذلك تعطيلَ مصالح جمة.
= ابن عرفة. الحدود: 2/ 544 - 546.
وبيّن الدردير الحكم بقوله: وبطلت قبل الحوز أي حوز الهبة من واهبها وإن بغير إذنه. وبيّن المانع بقوله: من إحاطة دين بالواهب، أو جنون له أو مرض اتصلا بموته. الشرح الصغير: 4/ 143.
(1)
إنما أجازت الحنفية الرجوع في الهبة بتأولهم قول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} النساء: 86، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الواهب أحق بهبته ما لم يُثَب منها"، ويقول الصحابة بذلك مثل عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وفضالة بن عبيد وغيرهم. فإذا تمت الهبة عقداً وحصل الحوز لم يمنع من الرجوع فيها غير عوارض سبعة هي:
1 -
الزيادة المتصلة بنفس الموهوب بشيء يوجب الزيادة في قيمته، 2 - موت أحد المتعاقدين، 3 - قبول الواهب عنها عوضاً ولو من أجنبي، 4 - خروج الموهوب عن ملك الموهوب له، 5 - الزوجية قبل الهبة لا العكس، 6 - قرابة الرحم المحرم، 7 - هلاك العين الموهوبة.
ويجمع ذلك قول بعضهم:
ومانع من الرجوع في الهبة
…
يا صاحبي حروف دمع خزقة
الكاساني. بدائع الصنائع: 6/ 128 - 129؛ الزيلعي. تبيين الحقائق: 5/ 98 - 101).
ولا أحسب جعل اعتصار الهبة حقاً للأب من ابنه إلا ناظراً إلى تدارك سرعة الآباء إلى عقد التبرعات لأبنائهم دون مزيد التأمل بداعي الرأفة. وتيقّن أن مال ولده مالٌ له، فإذا عرضت ندامة جعل له الشرع مندوحة للرجوع في هبته. وهو مع ذلك فيه إبقاءٌ لمعنى حقّ الأبوة بأن لا يكون الابن سبباً في التضييق على أبيه. وألحقت به الأم ما دام الأب حياً على تفصيل في ذلك محلُّه كتب الفقه.
وقال البخاري في صحيحه: "قال مالك: العريّة أن يُعْرِيَ الرجلُ الرجلَ نخلةً ثم يتأذّى بدخوله عليه. فرُخِّص له أن يشتريَها منه بتمر"(1) اهـ.
[وهكذا] فَهِمْنا أن الشريعة حريصةٌ على دفع الأذى عن المحسنِ أن ينْجر له من إحسانه، لكيلا يكره الناسُ فعلَ المعروف.
المقصد الثالث: التوسع في وسائل انعقادها حسب رغبة المتبرّعين. ووجه هذا المقصد أن التبرّع بالمال عزيزٌ على النفس. فالباعث عليه أريحية دينية، ودافع خلقي عظيم. وهو مع ذلك لا يسلم من مجاذبة شحّ النفوس تلك الأريحية. وذلك الدافع في خطرات كثيرة أقواها ما ذكره الله تعالى بقوله:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} (2). وقد تبيّن ترغيبُ الشريعة فيها في المقصد الأول. ففي التوسع في كيفيات انعقادها خدمة للمقصد الأول.
ولأجل هذا المعنى أباحت الشريعة تعليقَ العطيّة على حصول موت المعطي بالوصية وبالتدبير، مع أن ذلك مناف لأصل التصرّف في المال لأن المرء إنما يتصرّف في ماله مدة حياته. ومن أجل
(1) انظر 34 كتاب البيوع، 84 باب تفسير العرايا. خَ: 3/ 33.
(2)
البقرة: 268.
ذلك أعملت شروط المتبرّعين في مصارف تبرّعاتهم، من تعميم وتخصيص وتأجيل وتأبيد وسائر الشروط ما لم تكن منافية لمقصد أعلى، فإن الجمع بين المقاصد هو غرض التشريع. وإن كانت تفوت بذلك بعض جزئيات من المقصد الواحد فإنها لا يُعبأُ بفواتها.
والذي رجّحه نظارُ المالكية في شأن الشروط في الحبس والهبة والصّدقة إمضاؤها، مثل اشتراط الاعتصار في الصدقة والهبة (1). وكذلك مسألة اشتراط المتصدِّق أو الواهب أن لا يبيع ولا يهب (2). وقد اختلف فيها أئمة المذهب على أقوال خمسة استقصاها ابن راشد القفصي في الفائق (3)، ورجّح منها القول بمضي الشرط وبكون الصدقة والهبة
(1) الاعتصار ارتجاع المعطي عطية دون عوض لا بطوع المعطى. ويصح في الهبة والعطية والعمرى والنحلة. ويكون من الأب نحو أولاده كباراً أو صغاراً. ويكون من الجد والجدة والعم والأجنبي إن اشترطوه عند الهبة. ومن الأم نحو ولدها الصغير شرط وجود والده عند البعض ما لم تفت الهبة، والمعتمد مضيه ولو يتيماً، وتعتصر من الكبير ما وهبته مطلقاً. وكل ما يجري من العطية والنحلة والعمرى بلفظ الصدقة أو كان بلفظ الهبة أو الحبس ودلت القرائن على قصد الصّدقة والدار الآخرة فلا اعتصار فيه إلا أن يشترط ذلك المتصدَّق أو المحبِّس عند العقد فيمضي الشرط. التسولي: 2/ 246 - 247.
(2)
ورد في المدونة في كتاب الهبة: من وهب لرجل هبة على أن لا يبيع ولا يهب لم يجز إلا أن يكون صغيراً أو سفيهاً فيشترط ذلك عليه ما دام في ولاية فيجوز. وإن شرط ذلك عليه بعد زوال الولاية لم يجز، كان ولداً للواهب أو أجنبياً. قال القابسي: الهبة جائزة وهي كالحبس المعين. لو وهب هبة لسفيه أو يتيم، أو شرط أن تكون يده مطلقة عليها، وأنه لا نظر لوصيه فيها، نفذ ذلك الشرط. الحطاب. مواهب الجليل: 6/ 50.
(3)
هو أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله ابن راشد البكري القفصي. الإِمام الفقيه =
بمنزلة الحبس (1). وهذا الأصل الذي أصّلناه هنا يوضّح ترجيحه بخلاف
= الأصولي 736 بتونس. رحل إلى المشرق وأخذ عن أعلام، كابن الغماز وابن التنسي وابن العلاف والشمس الأصفهاني وابن المنيّر وابن دقيق العيد، وعنه ابن مرزوق الجد وعفيف الدين المصري. له الشهاب الثاقب شرح مختصر ابن الحاجب الفقهي، والمذهب في ضبط قواعد المذهب، والفائق في الأحكام والوثائق، والنظم البديع في اختصار التفريع، وتحفة اللبيب في اختصار كتاب ابن الخطيب، ونخبة الواصل في شرح الحاصل. مخلوف: 1/ 207، ع 722.
(1)
ونص ما ورد بالفائق لابن راشد: وقال أحمد بن حنبل وأبو ثور: الهبة والصدقة جائزة لازمة بالقول لا يفتقر إلى حيازة كالبيع. وسنذكر دليل ذلك في الحيازة في اللواحق وما يتعلق بها إن شاء الله تعالى. وإن اقترن بها شرط فلا يخلو أن ينافي مطلق العقد أو لا ينافيه. فإن نافى مطلق العقد ففيه خلاف. فمن ذلك أن يهبه أو يتصدّق عليه على أن لا يبيع ولا يهب. ففي الواهب خمسة أقوال:
أحدها: أن الهبة والصدقة لا تجوز، إلا أن يشاء الواهب أو المتصدَّق أو يُبطل الشرط ويمضي الهبة والصّدقة، فإن مات الواهب أو الموهوب له أو المتصدَّق أو المتصدَّق عليه بطلت الهبة والصدقة. وهو ظاهر قول مالك في العتبية، وفي سماع أصبغ في رسم الكراء والغصب
…
فالهبة على هذا القول على الردّ ما لم يجزها الواهب ويمضيها بترك الشرط.
ثانيها: أن الواهب مخيّر بين أن يسترد هبته أو يترك الشرط وورثته بعده. فهي على هذا على الجواز ما لم يردها الواهب. وهو قول أصبغ من رواية في رسم القضاء والأكرية من سماعه.
وثالثها: أن الهبة جائزة والشرط باطل. وهو قول مالك في رواية ابن وهب في سماع سحنون.
ورابعها: أن الشرط عامل والهبة ماضية لازمة. وتكون الصّدقة بيد المتصدَّق عليه بمنزلة الحبس لا يبيع ولا يهب حتى يموت. فإذا مات ورث ذلك عنه على سبيل الميراث. وهو قول عيسى بن دينار في العتبية وقول مطرف في الواضحة. =
المعاوضات. فأما اشتراط عدم التحويز فسيجيء القولُ فيه عقب هذا.
المقصد الرابع: أن لا يُجعل التبرع ذريعة إلى إضاعة مال الغير من حق وارث أو دائن. وقد كانت الوصايا في الجاهلية قائمةً مقام المواريث، وكانوا يميلون بها إلى حرمان قراباتهم وإعطائها كبراء القوم لحبّ المحمدة والسمعة. قال القاضي إسماعيل بن إسحاق (1):"لم يكن أهل الجاهلية يعطون الزوجة مثل ما نعطيها ولا يعطون البنات ما نعطيهن، وربما لم تكن لهن مواريث معلومة يعملون عليها".
فلما أمر الله بالوصية للوالدين والأقربين ثم شرع المواريث كان خيال الوصية الجاهلية لم يزل يتردّد في نفوسهم. فمن أجل ذلك قصرت الوصية على غير الوارث وجعلت في خاصة ثلث المال. كما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "الثلث والثلث كثير. إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس"(2). وقد مضى آنفاً قول أبي بكر لعائشة: "وإنما هو
= وخامسها: أنه يكون حبساً على الموهوب له أو المتصدَّق عليه لا شرط من أنه لا يبيع ولا يهب. وهو قول سحنون. فإذا مات المتصدَّق عليه على هذا القول رجع ذلك إلى المتصدِّق أو إلى ورثته أو إلى أقرب الناس إليه، على اختلاف قول مالك فيمن حبّس على معين.
وأظهر هذه الأقوال القول الرابع للرجل أن يفعل في ماله ما شاء: إن شاء بتته للموهوب له من الآن، وإن شاء أعطاه المنافع خاصة ليستربح الانتفاع بما وهبه ويرى أثر هيأته عليه.
وورد مثل هذا الكلام منقولاً عن ابن رشد. البيان والتحصيل: 17/ 540 - 542. والأقوال الخمسة في مواهب الجليل، انظر: الحطاب: 6/ 50.
(1)
تقدمت ترجمته: 344/ 4.
(2)
تقدم: 136/ 3، 454/ 2، 474/ 2
الآن مالُ وارث" (1). فعلمنا أن كثيراً من الناس يجعلون الوصية والتبرع وسيلةً إلى تغيير المواريث أو رزية لمال داين، ظنًّا أن ذلك يحللهم من إثمها لأنهم غيروا معروفاً بمعروف. فكان من سدّ هذه الذريعة لزوم كون صورة التبرع بعيدة عن هذا القصد. ولم يقع الاكتفاء بالإشهاد في دفع هذه التهمة لظهور أنه غير مقنع، لكثرة احتمال أن يتواطأ المتبرِّع والمتبرَّع عليه على الإشهاد مع إبقاء الشيء المعطى في تصرّف المتبرع لحرمان الوارث والدائن. فللحوز في هذا المقصد أثر غير أثره المذكور في المقصد الثاني. ومن هنا أيضاً يعلم أن المروي عن مالك وهو بطلان الحبس المجعول فيه التحبيس على البنين دون البنات لأنه من فعل الجاهليّة هو أرجح من حيث الأدلة، وإن كان المعمول به بين علماء المالكية مضيَّه بكراهة أو حرمة أخذاً برواية المغيرة عن مالك (2).
ومن أجل هذا منع المريض مرضاً مخوفاً من التبرع ولم يمنع من المعاوضة بالبيع ونحوه؛ لأن في البيع أخذ عوض بخلاف التبرع، فالتهمة في تبرع المريض قائمة.
(1) تقدم: 508/ 1.
(2)
يشير إلى هذا قول صاحب المقدمات: كره إخراج البنات من الحبس لأنه من أفعال الجاهلية. قال الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} الأنعام: 139، ولما فيه أيضاً مما نهى عنه من تفضيل بعض الولد على بعض في العطية. ومن مذهب مالك أنهن يدخلن فيه، وإن نصَّ المحبِّس على إخراجهن منه ما لم يفت الأمر. ابن رشد: 2/ 431.