الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ط - عمومُ شريعة الإسلام
معلومٌ بالضرورة من الدين أن شريعة الإسلام جاءت شريعة عامةً داعيةً جميع البشر إلى اتباعها، لأنها لما كانت خاتمة الشرائع استلزم ذلك عمومها - لا محالة - سائرَ أقطار المعمورة، وفي سائر أزمنة هذا العالم.
والأدلة على ذلك كثيرة من نصوص القرآن والسنة الصحيحة، بحيث بلغت مبلغ التواتر المعنوي. قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (1). وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (2). وفي الحديث الصحيح: "أُعطيت خمساً لم يُعطَهن أحدٌ قبلي" فعدّ منها: "وكان الرسول يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"(3).
(1) سبأ: 28.
(2)
الأعراف: 151.
(3)
هو حديث جابر. وتمامه: "ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً. فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل. وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي. وأعطيت الشفاعة". انظر 7 كتاب التيمم، 1 باب حدثنا عبد الله بن يوسف، ح 2. خَ: 1/ 86؛ 8 كتاب الصلاة، 56 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: جُعلت لي الأرض مسجداً. خَ: 1/ 113. انظر 5 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، ح 3. مَ: 1/ 370 - 371؛ انظر كتاب الغسل والتيمم، 26 باب التيمم بالصعيد. نَ: 1/ 209 - 211 انظر 2 كتاب =
فعمومُ الشريعة معلومٌ للمسلمين بالضرورة، فلا حاجة بنا إلى الإطالة به، إذ لسنا الآن في مقام إثباته على منكريه، وإنما غرضنا الإفضاء إلى ما يترتّب عليه.
وإذ قد أراد الله بحكمته أن يكون الإسلام آخر الأديان التي خاطب الله بها عباده تعَيَّن أن يكون أصلُه الذي ينبني عليه وصفاً مشتركاً بين سائر البشر، ومستقراً في نفوسهم، ومرتاضةً عليه العقولُ السليمة منهم، ألا وهو وصف الفطرة، حتى تكون أحكام الشريعة مقبولة عند أهل الآراء الراجحة من الناس، الذين يستطيعون فهم مغزاها، فيتقبّلوا ما يأتيهم منها بنفوس مطمئنة، وصدور مثلجة، فيتبعوها دون تردد ولا انقطاع، وحتى يتسنّى لأرفعهم قدراً في الفهم محاذاةُ نظائرها وتفريعاتُ فروعها، وحتى يكون تلقّي بقيَّة طبقات الأمة الذين لم يبلغوا مستوى أهل الآراء الراجحة إياها تلقياً عن طيب نفس، ويسهل امتثالُهم لما يؤمرون به منها.
وإذ قد تعذّر أن يكون الجائي بالشريعة جماعة من الرسل من جميع أجناس البشر أو قبائلهم، إذ لا يستقيم الأمر في ذلك التعدد، اختار الله تعالى للإرسال بهذه الشريعة رسولاً من الأمة العربية، إذ هو واحد من البشر كما قال تعالى:{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} (1).
ولله تعالى حِكَمٌ جَمَّة في أن اختار لهذه الرسالة رجلاً
= الصلاة، 111 باب الأرض كلها طهور ما خلا المقبرة والحمام، ح 1396. دَي: 1/ 263.
(1)
الإسراء: 94، 95.
عربياً - ليس هذا موضع بيان ما بلغ إليه العلم من تلك الحِكَم - وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (1).
بَيْدَ أنا نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان عربياً كان بحكم الضرورة يتكلّم بلسان العرب. فلزم أن يكون المتَلَقُّون منه الشريعة بادئ ذي بدء عرباً. فالعرب هم حملة شريعة الإسلام إلى سائر المخاطبين بها، وهم من جملتهم. واختارهم الله لهذه الأمانة لأنهم يومئذ امتازوا من بين سائر الأمم باجتماع صفات أربع لم تجتمع في التاريخ لأمة من الأمم. وتلك هي جودة الأذهان، وقوة الحوافظ، وبساطة الحضارة والتشريع، والبعد عن الاختلاط ببقية أمم العالم.
فهم بالوصف الأول أهلٌ لفهم الدين وتلقينه.
وبالوصف الثاني أهل لحفظه وعدم الاضطراب في تلقّيه.
وبالوصف الثالث أهل لسرعة التخلّق به، إذ هم أقرب إلى الفطرة السليمة ولم يكونوا على شريعة معتد بها متماثلة حتى يصمِّموا على نصرها (2) *.
وبالوصف الرابع أهلٌ لمعاشرة بقية الأمم، إذ لا حزازات بينهم وبين الأمم الأخرى. فإن حزازات العرب ما كانت إلّا بين قبائلهم، بخلاف حال الفرس مع الروم، وحال القبط مع الإسرائيليين. ولا عبرة بما جرى بين بعض قبائل العرب وبين الفرس والروم في نحو
(1) الأنعام: 124. وبالجمع قرأها الجمهور (رسالاته)، وقرأها ابن كثير وحفص عن عاصم بالإفراد. ولما كان المراد الجنس استوى الجمع والمفرد. ابن عاشور. التحرير والتنوير: 8/ 1، 55.
(2)
* من أجل ذلك كان نصارى العرب أبعدهم عن الدخول في الإسلام، لأنهم رأوا أنفسهم على دين قويم. ومن أجله صمم اليهود بالمدينة على ملازمة دينهم إلا نفراً قليلاً. اهـ. تع ابن عاشور.
يوم ذي قار (1) ويوم حليمة (2)، لأنها حوادث نادرة. على أن العرب كانوا فيها يقاتلون انتصاراً لغيرهم من الفرس أو الروم فإحنهم معهم محجوبة بإحن من قاتلوا هم وراءهم.
ومن أعظم ما يقتضيه عموم الشريعة أن تكون أحكامها سواءً لسائر الأمم المتبعين لها بقدر الاستطاعة، لأن التماثل في إجراء الأحكام والقوانين عون على حصول الوحدة الاجتماعية في الأمة.
ولهذه الحِكمة والخصوصية جعل الله هذه الشريعة مبنيةً على اعتبار الحِكم والعلل التي هي من مُدركات العقول لا تختلف باختلاف الأمم والعوائد. وقد أجمع علماء الإسلام في سائر العصور، إلّا الذين لا يُعتدُّ بمخالفتهم، على أن علماء الأمة مأمورون بالاعتبار في أحكام الشريعة، والاستنباط منها. وجعلوا من أدلة ذلك قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3)، وقوله: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي
(1) ويوم ذي قار، هو يوم الحنو، ويوم قُراقر، ويوم الجبايات، ويوم ذات العَجرم، ويوم بطحاء ذي قار. وقد كانت هذه الوقعة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بين العرب والفرس. وقد قال يخبر أصحابه:"اليوم أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا". ابن سعد. الطبقات: 7/ 77؛ البخاري. التاريخ الكبير: 2/ 106، 8/ 313. ابن عبد ربه. العقد الفريد: 5/ 262؛ ابن حجر. الإصابة: 1/ 164. والحديث مرويٌّ بإسنادين ضعيفين، أحدهما فيه الأشهب الضبعي مجهول العين، والآخر فيه الكلبي متهم بالكذب. والخبر عنه طويل. انظر أيام العرب في الجاهلية: 6 - 39.
(2)
يوم الوقعة بين المنذر بن ماء السماء وبين الحارث الأكبر الغساني. وسمي يوم حليمة في رواية الكلبي، لأن حليمة بنت الحارث بن أبي شمْر وجّه أبوها جيشاً إلى المنذر فأخرجت لهم مِركَنا فطيبّتهم. اللسان، القَاسم بن سلام، كتاب الأمثال: 92، 206.
(3)
التغابن: 16.
الْأَبْصَارِ} (1). وهما دليلان خطابيان، ولكننا نتمسك في هذا بالإجماع وعمل الصحابة وعلماء الأمة في سائر العصور.
ومن آثار ذلك ورود الكليات الكثيرة في آي القرآن نحو قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2)، وقوله:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (3)، وقوله:{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (4)، وقوله:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} (5).
وفي الأحاديث نجد القواعد العامة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام"(6)، وقوله: "ما أسكر كثيره
(1) الحشر: 2.
(2)
البقرة: 185.
(3)
البقرة: 205.
(4)
الحديد: 25.
(5)
البقرة: 179.
(6)
ورد الحديث مطولاً بصيغ متقاربة في دواوين السنة. انظر 3 كتاب العلم، 37 باب ليبلغ الشاهد الغائب، ح 2. خَ: 1/ 35؛ 25 كتاب الحج، 132 باب الخطبة أيام منى. خَ: 2/ 191؛ 64 كتاب المغازي، 77 باب حجة الوداع، ح 8، 11. خَ: 5/ 126؛ 73 كتاب الأضاحي، 5 باب من قال الأضحية يوم النحر. خَ: 6/ 235 - 236؛ 78 كتاب الأدب، 43 باب قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} ، ح 2. خَ: 7/ 83 - 84؛ 86 كتاب الحدود، 9 باب ظهر المؤمن حمى إلا في حد أو حق. خَ: 8/ 15 - 16؛ 92 كتاب الفتن، 8 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، ح 3. خَ: 8/ 91؛ 97 كتاب التوحيد، 24 باب قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، ح 12. خَ: 8/ 185 - 186.
انظر: 15 كتاب الحج، 19 باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 147. مَ: 1/ 886 - =
فقليله حرام" (1)، وقوله: "لا ضرر ولا ضرار" (2).
وكذلك المُجملات والمُطلقات التي في القرآن معظمُها مُرادٌ إطلاقُه وإجمالُه. وللفقهاء في تَطَلُّب بيان المجمل وتقييد المطلق بحمل اللفظ المطلق في موضع على مقيد في موضع آخر - وإن لم يكونا من نوع واحد - طرائق.
وقد وقع ذلك في عصر الصحابة في فهم عبد الله بن مسعود وهو بالكوفة قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (3) أن العقد على الأم لا يحرم البنت حتى يدخل بالأم حملاً على قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (4) حتى رجع ابن مسعود إلى المدينة فأخبر أن السنة مضت على اعتبار الإطلاق
= 892؛ 28 كتاب القسامة، 9 باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال. مَ: 2/ 1305 - 1307. انظر 34 كتاب الفتن، 2 باب ما جاء دماؤكم وأموالكم عليكم حرام، 2615. تَ: 4/ 461 - 462؛ 48 كتاب تفسير القرآن، 10 باب ومن سورة التوبة، 3087. تَ: 5/ 273 - 274؛ انظر 25 كتاب المناسك، 76 باب الخطبة يوم النحر، 3055. جَه: 2/ 1015؛ 84 باب حجة الرسول صلى الله عليه وسلم 3074. جَه: 2/ 1022 - 1027؛ 36 كتاب الفتن، 2 باب حرمة المؤمن وماله 3931. جَه: 2/ 1297؛ انظر باب خطبة يوم النحر، ح 1922، دَي: 1/ 393 - 394.
وأكثر هذه الأحاديث جاءت بلفظ: "دمائكم وأموالكم"، وبعضها بزيادة "أعراضكم"، وواحد منها بزيادة لفظ "أبشاركم".
(1)
تقدم تخريجه: 148/ 3.
(2)
تقدم: 23/ 2، 145/ 2، 149/ 1.
(3)
النساء: 23.
(4)
النساء: 23.
في أمهات نسائكم. ومن العجيب أن أهل الأصول توسّعوا في حمل المطلق على المقيد ولو كان الإطلاق في حكم والتقييد في جنسه.
وما كان من التشريعات جزئياً، وهي قضايا الأعيان، تحتمل أن يراد تعميمها، وتحتمل أن يراد تخصيصها. ولعل هذا النوع هو الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابته فقال:"لا تكتبوا عني غير القرآن"(1) خشية أن تتخذ الجزئياتُ الخاصة كلياتٍ عامة. ولذلك احتاج المسلمون إلى صدور إذن من الرسول عليه الصلاة والسلام حين أراد أبو شاة أن يكتبوا له قول رسول الله عليه الصلاة والسلام في تحديد الحرم، فقال لهم:"اكتبوا لأبي شاة"(2). ولذلك نجد بين العلماء
(1) حديث أبي سعيد الخدري. ولفظه: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحُه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". انظر 53 كتاب الزهد، 16 باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، 72. مَ: 3/ 2298 - 2299. انظر المقدمة، 42 باب من لم ير كتابة الحديث، ح 456. دَي: 1/ 98.
(2)
أبو شاة اليماني. فارسي من الأبناء الذين قدموا اليمن في نصرة سيف بن ذي يزن. ورد ذكره في الصحيحين في حديث أبي هريرة يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكتب له خطبته يوم الفتح. ولعل العلة في إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم طلبه الأمن من اختلاط القرآن بغيره في ذلك الوقت. ابن حجر. الإصابة: 4/ 100، 606.
انظر 3 كتاب العلم، 39 باب كتابة العلم، ح 2. خَ: 1/ 36؛ 45 كتاب اللقطة، 7 باب كيف تعرف لقطة أهل مكة. خَ: 3/ 94 - 95. انظر كتاب المناسك، باب تحريم حرم مكة، 2017. دَ: 2/ 518 - 521؛ 33 كتاب الديات، 4 باب ولي العمد يرضى بالدية، 4505. دَ: 4/ 645. انظر 42 كتاب العلم، 12 باب ما جاء في الرخصة فيه، 2667. تَ: 5/ 39.
اختلافاً كثيراً في الاحتجاج بقضايا الأعيان، وبأخبار الآحاد إذا خالفت القواعد أي الكليات اللفظية أو المعنوية، أو خالفت القياس، أو خالفت عمل أهل المدينة على مذاهب معروفة في أصول الفقه (1).
(1) أصل الاختلاف في العمل بأخبار الآحاد ما كان عليه الصحابة من مواقف إزاء تلك الأخبار. فهم لا يعملون بخبر الواحد إلا إذا اطمأنوا لصحته ووثقوا بصدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ثمّ كانوا بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى يتحرّون في الرواية. فمنهم من كان لا يقبله حتى يشهد اثنان بصحّته. وهذا موقف الشيخين أبي بكر وعمر؛ ومنهم من كان يستحلف الرواي أنه سمع الحديث كعلي بن أبي طالب؛ ومنهم من كان يرده ولا يعمل به لضعف ثقته بالراوي كرد علي حديث معقل بن سنان الأشجعي، أو لعلمه بأن الحديث منسوخ ومعرفة الناسخ له كرد سعد بن أبي وقاص حديث التطبيق الذي كان يرويه عبد الله بن مسعود، أو لمعارضته لما هو أقوى منه في نظره كرد ابن عباس حديث أبي هريرة في الوضوء من حمل الجنازة، وكرد عائشة حديث أبي هريرة في وجوب غسل اليدين في الوضوء قبل إدخالهما في الإناء، لمعارضته أصل رفع الحرج والضيق على الناس.
وبعد ظهور الأئمة المجتهدين وقيام المدارس أو المذاهب الفقهية بدا الاختلاف بينها في هذا الشأن. فكان فريق منها يأخذ بالاحتياط فيها، قاضياً بتحكيم القواعد العامة في التشريع، راداً ما خالفها من السنن، وفريق كان من احتياطه في الأمر عدم التساهل برد الأحاديث لمجرد عدم موافقتها للأصول العامة.
فالأحناف يردون الخبر إذا كان مخالفاً للقياس والأصول الشرعية إلا من راو معروف بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود. وتطبيقاً لهذا المنهج لم يأخذوا بحديث المصرّاة الذي رواه أبو هريرة لكون راويه ليس معدوداً في فقهاء الصحابة، ولمخالفة الخبر أصلاً من الأصول الشرعية حيث جاء فيه الأمر برد صاع من التمر بدل اللبن، وفي ذلك مخالفة للقياس، ولقاعدة أن الضمان يكون =
إذن فمراعاةُ عوائد الأمم المختلفة هو خلاف الأصل في التشريع الإلزامي. وإنما يسعه تشريع الإباحة حتى يتمتع كل فريق من الناس ببقاء عوائدهم. لكن الإباحة لما كان أصلها الدلالة على أن المباح ليس فيه مصلحة لازمة ولا مفسدة معتبرة لزم أن يراعى ذلك في العوائد. فمتى اشتملت على مصلحة ضرورية أو حاجية للأمة كلها، أو ظهرت فيها مفسدة معتبرة لأهلها لزم أن يصار بتلك العوائد إلى الانزواء تحت القواعد التشريعية العامة من وجوب أو تحريم، ولهذا نرى التشريعَ لم يتعرّض لتعيين الأزياء والمساكن والمراكب،
= بالمثل في المثليات والقيمة في القيميات، ولقاعدة الخراج بالضمان. وربما ترك الحنفية هذا الموقف وظهرت مخالفتهم له في حالات كثيرة، كأخذهم بحديث أبي هريرة فيمن أفطر ناسياً، وخالفوا بذلك القياس والأصل. والراجح أن القائل بذلك الشرط إنما هو عيسى بن أبان أحد فقهاء الحنفية المتقدمين وهو اختيار أبي زيد الدبوسي. وهم الذين خرج أصحابهم حديث المصرّاة على وفق قولهم.
والمالكية لا يقبلون حديثاً يخالف عمل أهل المدينة. وهذا ظاهر من قول مالك في رفضه لخيار المجلس إذ قال عقبه: "وليس لهذا عندنا حد محدود ولا أمر معمول به فيه". ومثله فعل النبي صلى الله عليه وسلم عند الخروج من الصلاة يسلم سلامين؛ أحدهما عن يمينه، وثانيهما عن يساره، لم يعمل به مالك واكتفى بتسليمة واحدة استناداً إلى عمل أهل المدينة فإنهم كانوا يسلمون سلاماً واحداً. ودليل المالكية في هذا أن عمل أهل المدينة بمنزلة روايتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواية جماعة عن جماعة أولى بالتقديم من رواية فرد عن فرد. وقد ناقش ذلك الليث بن سعد في رسالته إلى مالك. ابن القيم. إعلام الموقعين: 3/ 94 - 100.
كما رده الشافعي وأصحابه في باب حكاية قول من رد خبر الخاصة. الأُم: 7/ 254 وما بعدها؛ الرسالة: 533 - 535، ف 1556 - 1559. الجويني. البرهان: 2/ 1170 - 1172، ع 1206 - 1208.
فلم يندب الناس إلى ركوب الإبل في الأسفار. ولم يمنع أهل مصر والعراق من ركوب الحمير، ولا أهل الهند والترك من الحمل على البقر. ولذلك لم يحتج المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة استعمال العجل والعربات والأرتال. وكذلك أصناف المطاعم التي لا تشتمل على شيء محرم الأكل بحيث لا يسأل عن ذلك إلّا من جاهل بالتركيب أو جاهل بكيفية التشريع.
فنحن نوقن أن عادات قوم ليست يحق لها - بما هي عادات - أن يُحمَل عليها قوم آخرون في التشريع، ولا أن يُحمل عليها أصحابُها كذلك. نعم يراعي التشريع حمل أصحابها عليها ما داموا لم يغيّروها، لأن التزامهم إياها واطرادها فيهم يجعلها مُنَزَّلة مَنْزِلَة الشروط بينهم يُحملون عليها في معاملتهم إذا سكتوا عما يضادُّها. ومثاله قول مالك رحمه الله: بأن المرأة ذات القدر لا تجبر على إرضاع ولدها في العصمة، لأن ذلك عرف تعارفه الناس، فهو كالشرط (1)، وجعل قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (2)
(1) قال ابن العربي: قال مالك: كل أم يلزمها رضاع ولدها بما أخبر الله تعالى من حكم الشريعة فيها، إلا أن مالكاً - دون فقهاء الأمصار - استثنى الحسيبة. فقال: لا يلزمها إرضاعه. فأخرجها من الآية وخصّها فيها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالمصلحة. وهذا فن لم يتفطن له مالكي. وقد حققناه في أصول الفقه. والأصل البديع فيه هو أن هذا أمر كان في الجاهلية في ذوي الحسب. وجاء الإسلام عليه فلم يغيره، وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفِع الرضعاء إلى المراضع إلى زمانه، فقال به، وإلى زماننا فحققناه شرعاً. المسألة الخامسة في تفسير 233 من البقرة. ابن العربي. الأحكام: 1/ 206.
(2)
البقرة: 233.
مخصوصاً بغير ذات القدر، أو جعله مسوقاً لغرض التحديد بالمدة، وليس مسوقاً لأصل إيجاب الإرضاع.
ومن معنى حمل القبيلة على عوائدها في التشريع - إذا روعي في تلك العوائد شيء يقتضي الإيجاب أو التحريم - يتضح لنا دفع حيرة وإشكال عظيم يعرض للعلماء في فهم كثير من نهي الشريعة عن أشياء لا تجد فيها وجه مفسدة بحال، مثل تحريم وصل الشعر للمرأة، وتفليج الأسنان، والوشم، في حديث ابن مسعود:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الواصلات والمستوصلات، والواشمات والمستوشمات، والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن، المغيّرات خلق الله"(1). فإن الفهم يكاد يضل في هذا إذ يرى ذلك صنفاً من أصناف التزين المأذون في جنسه للمرأة كالتحمير والخلوق والسواك فيتعجب من النهي الغليظ عنه.
ووجهه عنديَ الذي لم أر من أفصح عنه، أن تلك الأحوال كانت في العرب أماراتٍ على ضعف حصانة المرأة. فالنهي عنها نهي عن الباعث عليها أو عن التعرض لهتك العرض بسببها.
وفي القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
(1) انظر 77 كتاب اللباس، 82 - 87 من أبواب المتفلجات للحسن ووصل الشعر، والمتنمصات، والموصولة، والواشمة. خَ: 7/ 61 - 63. انظر 37 كتاب اللباس، 33 باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة، والمتفلجات والمغيرات خلق الله، ح 115، 117، 119. مَ: 2/ 1676 - 1677. انظر 27 كتاب الترجل، باب في صلة الشعر 4167 - 4170. دَ: 4/ 396 - 399. انظر 25 كتاب اللباس، 25 باب ما جاء في مواصلة الشعر 1759. تَ: 4/ 236. انظر 48 كتاب الزينة، 22 - 26 أبواب الواصلة والمستوصلة والمتنمصات والمتوشمات والمتفلجات، نَ: 8/ 145 - 149؛ انظر 9 كتاب النكاح، 52 باب الواصلة والواشمة، 1987 - 1989. جَه: 1/ 639 - 640.
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (1). فهذا شرع روعيت فيه عادة العرب. فالأقوام الذين لا يتخذون الجلابيب لا ينالهم من هذا التشريع نصيب.
والتفقه في هذا والتهمّمُ بإدراك علل التشريع في مثله يلوح لنا منه بارقُ فرق بين ما يصلح من جزئيات الشريعة لأن يكون أصلاً يقاس عليه نظيره، وبين ما لا يصلح لذلك. فليس الأمر في التشريع على سواء.
ولقد يُعدّ مما يناسب عموم الشريعة أنها أوكلت أموراً كثيرة لاجتهاد علمائها مما لم يقم دليل على تعيين حكمه وإرادة راويه. وفي الحديث: "إن الله حدَّد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها"(2). وإلى هذا يرجع ما قدمنا عن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتبوا عنه غير القرآن خشية التباس التشريع العام بالتشريع الخاص، وقد كان الصحابة يتأسون ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قضى به، ولم يرد فيه نص لفظي يقتضي الدوام لأنه ينير لهم وجوه الحق، ولأن أحوالهم كانت قريبة من الحال التي
(1) الأحزاب: 59.
(2)
نص الحديث كاملاً كما رواه مكحول عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحرّم حرمات فلا تنتهكوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها". الدارقطني. آخر كتاب الرضاع: 4/ 183 - 184، ع 42؛ الحاكم: 4/ 115. وقد حسّن إسناده الإمام النووي في الأربعون النووية، الحديث الثلاثون.
وله لفظ آخر رواه طاوس اليماني عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحد لكم حدوداً فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تكلفوها، رحمة من ربكم؛ فاقبلوها". الدارقطني. آخر كتاب السنن، باب الصيد والذبح والأطعمة: 4/ 297، ع 104.
كانت في زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام. ولذلك أمر عمر بن عبد العزيز في خلافته أو إمارته أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم (1) بكتابة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار، أَحْسَب أنه أراد أن تكون نبراساً يستضيء به علماء الأمة في تفهّم مقاصد الشريعة ومنازعها، إذ قد يضيق الوقت ويقصر النظر عن الاستنباط من أصول أدلة الشريعة مع أنهم ربما جدّدوا أحكاماً لتلك الجزئيات إذا تجدّدت الأحوال. وقد قال عمر بن عبد العزيز:"تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"(2).
ومثال هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب في شرب الخمر ضرباً غير محصور العدد ولا الآلة. وضرب أبو بكر وعمر أربعين سَوطاً، ثم ضرب عمر ثمانين برأي من علي إذ قال له:"إن السكران إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى. فأرى أن عليه حد الفرية"(3). فيه إقامة الحد مع الشك في حصول مسببه اعتباراً بالظِنَّة، وهو منزع غريب.
ومن الأمثلة في التحديد عكوف الفقهاء على ما صدر في عصر الخلفاء من تحديد مقادير الجزية والخراج والديات وأروش الجنايات، مع أن بعض تلك المقادير قد يطرأ عليه نقص القيمة أو الرواج، فلا يصلح لأن يبقى عوضاً لما عُوض به فيما مضى.
ومن أمثلة ذلك ما حدّد به فقهاء المالكية مقادير الآجال
(1) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري قاضي المدينة وأميرها. توفي 120 هـ عن نيف وثمانين سنة. كان قاضي المدينة وأميرها، وكانت له خبرة بالسير. الذهبي. العبر: 1/ 152.
(2)
تقدم: 25/ 1.
(3)
تقدم: 167/ 1، 217/ 1، 250/ 2.
للحجج ونحوها (1).
(1) ضرب الأجل مصروف إلى اجتهاد الحكام بحسب حسن النظر في أمر الخصمين، وليس فيه حد محدود لا يتجاوز، إنما هو الاجتهاد. والذي عليه فقهاء المالكية أنه يختلف بحسب الصور والأحوال والحقوق. فالتأجيل فيما يطول النظر فيه والإثبات، كدعوى الرباع والأصول والوراثات، شهر مختلف في توزيعه بين الفقهاء ويجمع فيه بين الأجل والتلوّم.
وقال أبو القاسم الجزيري في وثائقه: التأجيل في الأصول شهران وثلاثة، بخاصة إذا ادعى مغيب البيّنة. وإن كان التأجيل في إثبات الديون فثلاثة أيام ونحوها. وإن كان في الأعذار في البيّنات وأصول العقود فثلاثون يوماً. وإن كان الأجل في إثبات شيء مما يدعى فيه ما عدا الأصول فأقصاه أحد وعشرون يوماً، وهو جمعة فيمن يدعي الشيء على الرجل ويقيم شاهداً أو لطخاً ويدعي شاهداً آخر، وفي الشاهد على دعوى الحرية شهران أو ثلاثة، وفي العبد والأمة اليوم واليومان. وفيه تفصيل وكلام كثير، وإن كان للمديان في بيع الأصول يؤجل نحو الشهرين. وإن كان في الإعسار بالصداق يؤجل الشهر والشهرين
…
إلخ. والأجل في حق الزنادقة شهر عند الحاجة إلى دفع البيّنات. وبعض الآجال لا يدخلها اجتهاد القاضي، كأجل المعترض وهو مدة سنة، وأجل المجنون جنوناً حادثاً يعزل عن زوجته سنة، وأجل المفقود خبره إذا رفعت زوجتُه أمرَها إلى الحاكم أربع سنين، وأجل المولي تمام أربعة أشهر من يوم الحلف، وأجل وقف ميراث الحمل على الخلاف في مدة الحمل ونحو ذلك. ابن فرحون. التبصرة: 1/ 137 - 140.
وذكر ذلك ابن عاصم في التحفة:
بيع الخيار جائز الوقوع
…
لأجَلٍ يليق بالمبيع
كالشهر في الأصل وبالأيام
…
في غيره كالعبد والطعام
انظر التسولي. البهجة في شرح التحفة: 2/ 58.
وضبط الزقاق جملة من الآجال كالأجل لإثبات دعوى ما سوى الأصل =
وما ذهب إليه فقهاء المذاهب من ألفاظ الطلاق والأيمان. فتسمع ألفاظاً لم يبقَ للناس عهد بها مثل اللازمة والحرام (1) ونحو
= ولبيع الملك لقضاء الدين، ولإثبات عداوة الحاكم مع من ثبت عليه موجب الإعدام، ولإثبات مشارطة جماعة له، ولإثبات حائز الأصل بأقوى من حجة الخصم، ولإثبات أصل غير محوز ببينة غائبة، ولإثبات الدين، وللشفيع للإتيان بالثمن الحال ونحو ذلك ..
انظر: الصنهاجي. مواهب الخلاق على شرح التاودي للامية الزقاق: 1/ 168 وما بعدها.
(1)
قال ابن العطار: اليمين باللازمة يمين لم تعرف بالمشرق ولم تصل إلينا فيها رواية، إلا أن الشيوخ شبهوها بما روي عن ابن القاسم في نذور العتبية فيمن قال؛ عليّ عهد الله وغليظ ميثاقه وكفارته وأشدّ ما اتخذ على أحد. وقال ابن عبد البر: هي يمين محدثة لا أذكر لها في أمهات كتب الفقهاء والحجازيين والعراقيين مما علمت نصاً. وذكر الباجي أنه رآها في بيعة أهل المدينة ليزيد بن معاوية وما بعدها. وحكى ابن النحوي أنها كانت في أيام الحجاج في البيعة.
وقد اختلف في هذه اليمين. فقيل: لا توجب شيئاً، وقيل: توجب كفارة اليمين بالله لا غيره، وقيل: توجب كفارة واحدة لا غير، وقيل: كفارة ثلاثة أيمان، وقيل: توجب الأيمان كلها، وقيل: توجب الطلاق والعتاق والمشي والصدقة واختلف في الظهار. عياض. مذاهب الحكام في نوازل الأحكام، كتاب الأيمان بالطلاق: 286 - 298.
والحرام موضوع جدل وخلاف. قال المازري في معلمه: كثر اختلاف الصحابة ومن سواهم من العلماء في مسألة القائل: "الحلال عليه حرام" هل هو ظهار أم يمين تكفر، أو لا يلزمه فيه شيء إلا في الزوجة كما قال مالك. والذي يلزم في الزوجة في المشهور من قوله: إنها ثلاث. وينوي في غير المدخول بها الأقل، وقيل: واحدة فيمن لم يدخل بها وثلاث في المدخول بها. وقيل: واحدة بائنة. وحكى ابن سحنون أنها واحدة رجعية. المازري. المعلم: 1/ 195 - 197؛ عياض. مذاهب الحكام: 293 - 294.
ذلك من كلمات تجري على الألسن، ولم يبق للناس علم بمدلولها. فهذه أمثلة نتأمل فيها ونحتذيها.
فعموم الشريعة ساير البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون. وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان. ولم يبيّنوا كيفية هذه الصلوحية. وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين:
الكيفية الأولى أن هذه الشريعة قابلةٌ بأصولها وكليّاتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامُها مختلفَ الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر. وشواهد هذه الكيفية ما نجده من محامل علماء الأمة أدلةً كثيرة من أدلة الأحكام على مختلف الأحوال. ولكل من أئمة الشريعة نصيب من هذه المحامل. فإذا جُمعت أنصباؤهم تَجَمَّعَ منها شيء وفير من تأويل ظواهر الأحكام على محامل صالحة لمختلف أحوال الناس. مثاله النهيُ عن كراء الأرض. قال مالك والجمهور: محملُ النهي على التورّع وقصدِ مواساة بعض المسلمين بعضاً دون جزم بنقض عقدة كراء الأرض (1)، وكالنهي عن جر السلف منفعة (2). وقد حمله جماعة من فقهاء الحنفية على ما ليس فيه
(1) هذا ما صرح به وبينه ابن عباس في روايته من إرادة الرفق والتفضيل، وأن النهي عن ذلك ليس للتحريم، ويفهم من هذا جواز الكراء. وجعل مالك النهي محمولاً على ما إذا وقع كراؤها بالطعام أو التمر لئلا يصير من بيع الطعام بالطعام. ابن حجر، الفتح: 5/ 25، 26. وقال أيضاً فيما حكاه الباجي: وفيه دليل على جواز كراء الأرض، ولا بأس أن تكرى الأرض بأرض أخرى خلافاً لأبي حنيفة في قوله لا يجوز ذلك. الباجي، المنتقى: 5/ 149.
(2)
حديث مالك أنه بلغه أن رجلاً أتى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أسلفت رجلاً سلفاً، واشترطت عليه أفضل مما أسلفته. =
ضرورة. ولذا رخّصوا في بيع الوفاء في كروم بخارى (1).
الكيفية الثانية أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلاً للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر، كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك من غير أن يجدوا حرجاً ولا عسراً في الإقلاع عما نزعوه من قديم أحوالهم الباطلة. ومن دون أن يلجؤوا إلى الانسلاخ عما اعتادوه وتعارفوه من العوائد المقبولة. [وهاتان الكيفيتان متآيلتان وقد جمعهما معاً مغزى قوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ] (2).
= فقال عبد الله بن عمر: فذلك الربا. قال: كيف تأمرني يا أبا عبد الرحمن؟ قال عبد الله: السلف على ثلاثة وجوه: سلف تسلِّفه تريد به وجه الله فذلك وجه الله، وسلف تسلَّفه تريد به وجه صاحبك، فلك وجه صاحبك، وسلف تسلِّفه لتأخذ خبيثاً بطيِّب فذلك الربا
…
انظر: 31 كتاب البيوع، 44 باب ما لا يجوز من السلف، ح 92. طَ. 2/ 681 - 682.
(1)
قال صاحب الهداية: بيع الوفاء مركب من رهن وبيع جائز باتّ. فهو رهن بالنسبة للبائع حتى يسترد العين عند قضاء ما عليه من الدين، ويضمنها له المشتري بالهلاك أو الانتقاض بضمان الرهن، وهو بيع بات صحيح بالنسبة للمشتري في حق نزله ومنافعه حتى يطيب له أكل ثمره والانتفاع به سكنى وزراعة وإيجاراً
…
وقد حمل الناس على اعتماد هذا الوجه حاجة الناس إلى بيع الوفاء وتعاملهم به. والقواعد تترك بالتعامل
…
وما ضاق على الناس اتسع. ولا بدع في إعطائه حكم عقدين، إذ كثير من العقود كذلك. بيرم الثاني، الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء: 92 - 93؛ مجلة مجمع الفقه الإسلامي، ع 7، 1412/ 1992، ج 3: 157 - 324؛ ابن قاضي سماوة. جامع الفصولين: 1/ 237؛ الزيلعي: 5/ 183 - 184.
(2)
هكذا في الأصل في ط. (1) لكن المؤلف ضرب عليها في نسخته المصحّحة. انظر ط. الاستقامة: 98.
فلا يجدر بحال أن يكون معنى صلوحية التشريع للبشر أن الناس يُحملون على اتّباع أحوال أمة خاصة مثل أحوال العرب في زمان التشريع، ولا على اتباع تفريعات الأحكام وجزئيات الأقضية المراعى فيها صلاح خاص لمن كان التشريعُ بين ظهرانيهم، سواءً لاءم ذلك أحوالَ بقية الأمم والعصور أم لم يلائم، فتكون صلوحيتهُم مشوبةً بحرج ومخالفةً ما لا يستطيع الناس الانقطاعَ عنه. وَيُعلَّل معنى الصلوحية بأن يعمل الناسُ بها في كل عصر فلا يهلكوا ولا يُعنَتوا، إذ لو كان هذا هو معنى صلوحية الشريعة لكل زمان ومكان لما كان هذا من مزايا شريعة الإسلام وخصائصها، إذ لا نجد في شريعة من الشرائع المتّبعة أحكاماً، لو حُمِل الناس عليها لهلكوا أو صاروا فوضى. إذن يكون في مستطاع أهل كل شريعة أن ينحلوا شريعتهم وصف الدوام.
فتعين أن يكون معنى صلوحية شريعة الإسلام لكل زمان أن تكون أحكامها كليات ومعاني مشتملةً على حِكَم ومصالح، صالحةً لأن تتفرع منها أحكام مختلفةُ الصور متحدةُ المقاصد. ولذلك كانت أصول التشريع الإسلامي تتجنب التفريع والتحديد كما قال الله تعالى:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} (1) ولم يذكر ضرباً ولا رجماً.
وورد في القرآن والسنة النهي عن كثرة السؤال عن الأحكام. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا
(1) النساء: 16.
بِهَا كَافِرِينَ} (1). وفي الحديث: "وسكتَ (أي الله) عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها"(2)، وفي الحديث:"إن شر الناس من سأل عن شيء فحُرِّم من أجل مسألته"(3).
[وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يكتبوا عنه غير القرآن، لأنه كان يقول أقوالاً، ويعامل الناس معاملة هي أثر أحوال خاصة قد يظن الناقلون أنها صالحة للاطراد مثل حديث: "قضى بالشفعة للجار". قال علماؤنا لا حجة فيه لاحتمال خصوصية لذلك الجار. أي بأن صادف كونه شريكاً وجاراً فظن الراوي أن القضاء له لأجل الجوار](4).
وكان مالك يكره افتراض النوازل للتفقّه، ويقول لمن يسأله عن حادثة مفروضة الوقوع: دعها حتى تقع (5).
غير أن القرآن لما أنزل في أحوال مختلفة الصور، وكان المقصد منه إرشاد الأمة إلى طرق من الإرشاد كثيرة، وكان المقصد من لفظه الإعجاز، نجده قد اشتمل على أنواع من أساليب التشريع. ففيه التشريع العام الكلِّي، وفيه التشريعات الجزئية النازلة في صورة أحكامٍ
(1) المائدة: 101 - 102.
(2)
تقدم: 270/ 2.
(3)
هو حديث ابن أبي وقاص. وورد بلفظ: "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يُحرّم فحُرِّم من أجل مسألته". انظر: 96 كتاب الاعتصام، 3 باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ح 1. خَ: 8/ 142؛ انظر 43 كتاب الفضائل، 37 باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، ح 132، 133. مَ: 2/ 1831؛ انظر 34 كتاب السنة، 6 باب لزوم السنة، 4610، دَ: 5/ 16 - 17.
(4)
الإضافة من ط. الاستقامة: 99 لكن المؤلف ضرب عليها بخطه.
(5)
وكان ذلك منه لكثرة خوفه من الله تعالى والحياء منه أن يراه يفتي بغير مراده سبحانه. الراعي. انتصار الفقير السالك: 186.
لنوازلَ حلَّت، وهي أيضاً بمنزلة الأمثلة والنظائر لفهم الكليات.
ففي القرآن جزئيات تساوي الجزئيات التي وردت في السنة مثل قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1)، وقوله:{فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (2)، وفيه التشريعات المنسوخة تماماً (3) لكن الغالب على أنواع التشريع منه هو النوع الكلّي.
وأما السنة فقد أحصاها العلماءُ من الصحابة، ومن تلقّى منهم. واختلفت الدواعي للإحصاء، كما اختلفت الشروط في القبول. فكان في معظمها تشريعاتٌ جزئية لأنّها في قضايا عينية، وكان فيها تشريعات كلية واضحة صالحة لأن تكون أساسَ التشريع. فمن أجل ذلك لم يكن للمجتهدين غُنية عن تقسيم التشريع إلى قسميه، وعن صرف جميع الوُسع من النظر العقلي في تمييز ما اشتمل عليه الكتاب والسنة من موارد التشريع، وإلحاق كلّ نصّ بنوعه. وهذا عمل عظيم ليس بالهيّن. وقد بذل فيه سلف علمائنا غاية المقدور، وحصلوا من البصيرة فيه على شيء غير منزور.
(1) النور: 2.
(2)
النساء: 34.
(3)
مثاله قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} النساء: 15، فإن هذا الحكم وهو الحبس في البيوت لم يبق حداً للزنى. وقوله:{مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} البقرة: 240، فإن عدة الوفاة لم تبق حولاً. وقوله:{فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} المجادلة: 12، نسخ حكمها قوله تعالى:{فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} المجادلة: 13، وقوله:{وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} البقرة: 184، حيث نسخ حكم التخيير بين الصوم والفدية بقوله:{فَلْيَصُمْهُ} . السرخسي. أصول: 2/ 80.