المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كا - مدى حرية التصرف عند الشريعة - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌القسم الأولفي إثبات مقاصد الشريعة واحتياج الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها ومراتبها

- ‌أ - إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع

- ‌ب - احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة

- ‌ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها

- ‌هـ - أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية

- ‌و - انتصاب الشارع للتشريع

- ‌ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية

- ‌ح - تعليل الأحكام الشرعية، وخُلو بعضها عن التعليل وهو المسمّى التعبّدي

- ‌القسم الثاني في مقاصد التشريع العامة

- ‌أ - مقاصد التشريع العامة

- ‌ب - الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية

- ‌ج - ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة

- ‌د - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها

- ‌هـ - المقصد العام من التشريع

- ‌و - بيان المصلحة والمفسدة

- ‌ز - طلب الشريعة للمصالح

- ‌ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع

- ‌ط - عمومُ شريعة الإسلام

- ‌ي - المساواة

- ‌يا - ليست الشريعة بنكاية

- ‌يب - مقصد الشريعة من التشريع تغييرٌ وتقريرٌ

- ‌يج - نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال

- ‌يد - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية

- ‌يه - التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمةَ المقصودة للشريعة

- ‌يو - سد الذرائع

- ‌يز - نوط التشريع بالضبط والتحديد

- ‌يح - نفوذ الشريعة

- ‌يط - الرخصة

- ‌يك - مراتب الوازع جبليةٌ ودينيةٌ وسلطانية

- ‌كا - مدى حريّة التصرّف عند الشريعة

- ‌كب - مقصد الشريعة تجنّبُها التفريع في وقت التشريع

- ‌كج - مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال

- ‌كد - واجب الاجتهاد

- ‌القسم الثالثفي مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس

- ‌أ - المعاملات في توجُّه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل

- ‌ب - المقاصد والوسائل

- ‌ج - مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقّيها

- ‌د - مقاصد أحكام العائلة

- ‌هـ - آصرة النكاح

- ‌و - آصرة النسب والقرابة

- ‌ز - آصرة الصهر

- ‌ح - طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث

- ‌ط - مقاصد التصرفات المالية

- ‌ي - الملك والتكسب

- ‌يا - الصحة والفساد

- ‌يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان

- ‌يج - مقاصد أحكام التبرعات

- ‌يد - مقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌يه - المقصد من العقوبات

- ‌ثَبت جملَة من المراجع

الفصل: ‌كا - مدى حرية التصرف عند الشريعة

‌كا - مدى حريّة التصرّف عند الشريعة

لمَّا تحقّق فيما مضى أن المساواة من مقاصد الشريعة الإِسلامية، لزم أن يتفرّع على ذلك أن استواء أفراد الأمة في تصرّفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة وذلك هو المراد بالحريّة.

جاء لفظ الحرية في كلام العرب مطلقاً على معنيين أحدهما ناشئ عن الآخر.

المعنى الأول ضد العبودية. وهي أن يكون تصرّف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرّفاً غير متوقّف على رضا أحد آخر. وقولي: "بالأصالة" لإخراج نحوِ تصرّف السفيه سفهاً مالياً في ماله، وتصرّف الزوجين فيما يتعلّق به حقوقُ الزوجية، وتصرّف المتعاقدين بحسب ما تعاقدا عليه؛ لأن ذلك كلّه يتوقّف على رضا غير المتصرّف بتصرّفه، ولكن ذلك التوقّف ليس أصلياً بل جعلياً أوجبه المرء على نفسه بمقتضى التعاقد. فهو في التحقيق تصرّف منه في نفسه بحريّته. فهو بحريّته وضع لنفسه قيوداً لمصلحته.

ويقابل الحرية بهذا المعنى العبوديةُ. وهو أن يكون المتصرّف غير قادر على التصرّف أصالة إلَّا بإذن سيّده. وقد نشأ هذا الوصف - أعني العبودية - عن الغلبة والقوة في أزمنة تحكيم القوة. فكان من أجلّ مظاهره وأسبابه الأسر في الحروب والغارات. فالأسير في مدّة

ص: 371

الأسر هو العاني، ثم إذا شاء الذين أسروه إبقاء حياته جعلوه عبداً يخدمهم ولا يتصرّف إلَّا على حسب إرادتهم، وجعلوا ذلك الوصف قابلاً للنقل من يد إلى يد. فكان القوم الذين يأسِرون الأسيرَ ربّما دفعوه إلى قوم آخرين لهم معه إحن وترات ليقتلوه أو يعذّبوه بالخدمة، وربّما باعوه فانتفعوا بثمنه فصار عبداً لمن دفع فيه الثمن.

المعنى الثاني ناشئ عن الأول بطريقة المجاز في الاستعمال، وهو تمكّن الشخص من التصرّف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض. ويقابل هذا المعنى الضربُ على اليد، أو اعتقالُ التصرّف. وهو أن يُجعل الشخصُ الذي يسوء تصرُّفه في المال، لعجز، أو لقلة ذات يد، أو لقلة كافٍ، أو لحاجة، بمنزلة العبد في وضعه تحت نير إرادة غيره في تصرّفه، بحيث يسلب منه وصف إباء الضيم ويصير راضياً بالهون.

وكلا هذين المعنيين للحريَّة جاء مراداً للشريعة إذ كلاهما ناشئ عن الفطرة، وإذ كلاهما يتحقّق فيه معنى المساواة التي تقرّر أنها من مقاصد الشريعة. ولذلك قال عمر رضي الله عنه:"بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"(1)، أي: فكونهم أحراراً أمرٌ فطري.

فأمّا المعنى الأول فإطلاقه في الشريعة مقرر مشهور. ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: "الشارع متشوِّف للحرية"(2). فذلك استقراؤه

(1) ابن الجوزي. مناقب عمر بن الخطاب: 98 - 99. وانظر: 383/ 1.

(2)

بيان هذه القاعدة يأتي مفصلاً فيما ذكره المؤلف إثر تقريرها من قوله: "فذلك استقراؤه" إلى نهاية الفصل في بيان أنواع الحرية، فقد أورد من تطبيقات هذه القاعدة في الإِسلام: تعطيل الشريعة الاسترقاق، ومعالجتها للرق الموجود بتكثير أسباب رفعه، والترغيب في عتق العبيد، والنهي عن =

ص: 372

من تصرفات الشريعة التي دلّت على أن من أهم مقاصدها إبطالَ العبودية وتعميمَ الحرية. ولكن دأب الشريعة في رعي المصالح المشتركة وحفظ النظام وقف بها عن إبطال العبودية بوجه عام وتعويضها بالحرية، وإطلاق العبيد من ربقة العبودية، وإبطال أسباب تجدّد العبودية مع أن ذلك يخدم مقصدها. وكان ذلك التوقّفُ من أجل أن نظام المجتمعات في كل قطر قائم على نظام الرق. فكان العبيد عَمَلةً في الحقول، وخَدَمةً في المنازل والغروس، وَرُعاة في الأنعام. وكانت الإماء حلائل لسادتهن، وداياتٌ لأبنائهم. فكان الرقيق من أكبر الجماعات التي أقيم عليها النظام العائلي والاقتصادي لدى الأمم حين طرقتهم دعوة الإِسلام. فلو جاء الإِسلام بقلب ذلك النظام رأساً على عقب لانفرط عقد نظام المدنية انفراطاً، تعسَّرَ معه عودةُ انتظامه. فهذا موجب إحجام الشريعة عن إبطال الرقّ الموجود.

وأما إحجامها عن إبطال تجدّد سبب الاسترقاق الذي هو الأسر في الحروب، فلأن الأمم التي سبقت ظهور الإِسلام قد تمتّعت باسترقاق من وقع في أسرها وخضع إلى قوتها. وكان من أكبر مقاصد سياسة الإِسلام إيقافُ غُلواء تلك الأمم والانتصافُ للضعفاء من الأقوياء. وذلك ببسط جناح سلطة الإِسلام على العالم، وبانتشار أتباعه في الأقطار. فلو أن الأمم التي استقرّت لها سيادة العالم من قبلُ أمِنت عواقب الحروب الإِسلامية، وأخطرُ تلك العواقب في نفوس الأمم السائدة هو الأسر والاستعباد والسبي، لما تردّدت الأمم

= التشديد عليهم في الخدمة. ثم فيما نبه إليه من حرص على تحقيق حرية الاعتقاد والقول والعلم والتعليم والتأليف، والعمل في الإِسلام، وما وضعته الشريعة من ضوابط وأحكام لصيانة هذه المبادئ ورعايتها الرعاية اللازمة.

ص: 373

من العرب وغيرِهم في التصميم على رفض إجابة الدعوة الإِسلامية اتكالاً على الكثرة والقوة، وأمنا من وصمة الأسر والاستعباد. كما قال صفوان بن أمية (1) في مثله:"لأَنْ تَرُبْني قريشٌ خير من أن ترُبْني هوازن"(2). وكما قال النابغة:

حذاراً على أن لا تُنال مقادتي

ولا نِسْوَتي حتَّى يَمُتْنَ حرائرا (3)

فنظر الإِسلام إلى طريق الجمع بين مقصديه نشر الحرية وحفظ نظام العالم بأن سلط عوامل الحرية على عوامل العبودية مقاومة لها بتقليلها وعلاجاً للباقي منها. وذلك بإبطال أسباب كثيرة من أسباب الاسترقاق، وقصره على سبب الأسر خاصة. فأبطل الاسترقاقَ

(1) هو صفوان بن أمية بن خلف بن وهب. قتل أبوه الذي كان إليه أمر الأزلام في الجاهلية يوم بدر كافراً. وأسلمت أمه ناجية بنت الوليد بن المغيرة من المؤلفة قلوبهم. ويروى عنه قوله: لقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خلق الله خلقاً أبغض إلي منه، فما زال يعطيني حتى ما خلق الله خلقاً أحب إلى منه. وقال الترمذي: كان صفوان أحد العشرة الذين انتهى إليهم شرف الجاهلية ووصل له الإِسلام من عشر بطون. ونزل صفوان على العباس بالمدينة، وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في الرجوع إلى مكة وتوفي بها مقتل عثمان. ابن حجر. الإصابة: 1/ 181/ 4073؛ ابن عبد ربه. العقد: 1/ 277.

(2)

قالها مجيباً أبا سفيان في وقعة حنين. قال هذا الأخير: غلبت والله هوازن. وتمام قوله: بفيك الكثكث، لأن يَرُبَّني رجل من قريش أحب إلى من أنَّ يرُبَّني رجل من هوازن، بمعنى لأن يملكني. ابن منظور. اللسان: مادة رب.

(3)

البيت من قصيدته التي يمدح بها النعمان ويعتذر إليه فيها. وطالعها:

كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً

وهَمَّيِن: هَمًّا مستكناً وظاهرا

الديوان: 115.

ص: 374

الاختياري وهو بيعُ المرءِ نفسَه، أو بيعُ كبير العائلة بعضَ أبنائها. وقد كان ذلك شائعاً في الشرائع. وأبطل الاسترقاق لأجل الجناية بأن يحكم على الجاني ببقائه عبداً للمجني عليه. وقد حكى القرآن عن حالة مصر:{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} (1)، ثم قال:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} (2).

وأبطل الاسترقاق في الدَّين الذي كان شرعاً للرومان، وكان أيضاً من شريعة سُولون (3) في اليونان من قبل. وأبطل الاسترقاق في الفتن والحروب الداخلية الواقعة بين المسلمين. وأبطل استرقاق السائبة كما استرقّت السيارة يوسفَ إذ وجدوه.

ثم إن الإِسلام التفت إلى علاج الرق الموجود والذي يوجد، بروافع ترفع ضرر الرق. وذلك بتقليله بتكثير أسباب رفعه، وبتخفيف آثار حالته. وذلك بتعديل تصرف المالكين في عبيدهم الذي كان غالبه معنتاً.

فمن الأول، وهو تكثير أسباب رفعه: جعل بعض مصارف الزكاة في شراء العبيد وعتقهم بنص قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} (4)،

(1) يوسف: 75.

(2)

يوسف: 76.

(3)

أحد الحكماء السبعة باليونان 640 - 558 ق م. كان رجل دولة. عرف بإصلاحاته الاجتماعية والسياسية التي كانت منطلق نهضة أثينا كما أنه واضع أسس الديمقراطية بها.

(4)

أحد المصارف الثمانية المنصوص عليها في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} التوبة: 60.

ص: 375

وجعل العتق من وجوه الكفارات الواجبة في قتل الخطأ (1)، وفطر رمضان عمداً (2)، والظهار (3)، وحنث الأيمان (4). وأمره بمكاتبة العبيد إن طلبوا المكاتبة بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} (5) أمر وجوب أو ندب على خلاف بين العلماء (6).

(1){وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} النساء: 92.

(2)

حديث أبي هريرة أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أهلكك؟ " قال: وقعت على امرأتي في رمضان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة". انظر 30 كتاب الصوم، 30 باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفّر، حديث أبي هريرة، خَ: 2/ 235 - 236؛ 51 كتاب الهبة، 20 باب إذا وهب هبة فقبضها الآخر ولم يقل: قبلت، خَ: 3/ 137؛ 69 كتاب النفقات، 13 باب نفقة المعسر على أهله. خَ: 6/ 194؛ 84 كتاب كفارات الأيمان، 3 باب من أعان المعسر في الكفارة، 4 باب يعطي في الكفارة عشرة مساكين قريباً كان أو بعيداً. خَ: 7/ 236؛ انظر 13 كتاب الصيام، 14 باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم ووجوب الكفارة الكبرى فيه، ح 8. مَ: 1/ 781 - 782؛ انظر 8 كتاب الصوم، 37 باب كفارة من أتى أهله في رمضان، ح 2390. دَ: 2/ 783 - 785؛ انظر 6 كتاب الصوم، 28 باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان، ح 724. تَ: 3/ 102 - 103؛ انظر 7 كتاب الصيام، 14 باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان، حديث أبي هريرة 1671. جَه: 1/ 534؛ حَم: 2/ 241 وبلفظ "احترقت" بدل "هلكت" في حديث عائشة. حَم: 6/ 276.

(3)

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} المجادلة: 3.

(4)

{وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} المائدة: 86.

(5)

النور: 33.

(6)

الأمر بالمكاتبة، قيل: للندب، وهو مذهب مالك، وقيل: للوجوب وهو =

ص: 376

ومن أعتق جزءاً له في عبد قوّم عليه نصيب شريكه فدفعه وعتق العبد كله (1). ومن أولد أمته صارت كالحرة فليس له بيعها ولا هبتها ولا له عليها خدمة ولا غلة، وتعتق من رأس ماله بعد وفاته (2).

والترغيب في عتق العبيد، قال تعالى:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} (3) الآية. وكان الترغيب في عتق من يتنافس فيه أقوى. ففي حديث أبي ذر: "أفضل الرقاب أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها"(4)، وفي الحديث: "ورجل له أمة فعلّمها فأحسن تعليمها، وأدّبها

= قول عطاء، قال: ذلك واجب، وهو ظاهر قول عمر لأنس بن مالك حين سأله هذا الكتابة. فقال عمر: كاتبه أو لأضربنك بالدرة. وهو قول عمرو بن دينار والضحاك. ابن عطية، المحرر الوجيز: 11/ 301.

(1)

لحديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوّم عليه قيمة العبد، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق". انظر 49 كتاب العتق، 4 باب إذا أعتق عبداً بين اثنين. خَ: 3/ 117؛ انظر 20 كتاب العتق، ح 1. مَ: 2/ 1139؛ انظر 38 كتاب العتق والولاء، 1 باب من أعتق شركاً له في مملوك. طَ: 2/ 772.

(2)

قال عمر بن الخطاب: "أيما وليدة ولدت من سيدها، فإنه لا يبيعها ولا يعصبها ولا يورثها، وهو مستمتع بها. فإذا مات فهي حرة". انظر 38 كتاب العتق والولاء، 5 باب عتق أمهات الأولاد، 6. طَ: 2/ 776. وحديث: "أيما رجل ولدت أمته منه فهي معتقة". انظر 19 "كتاب العتق، 2 باب أمهات الأولاد، 2515. جَه: 2/ 841؛ انظر 18 كتاب البيوع، 38 باب في بيع أمهات الأولاد، ح 2577. دَي: 2/ 570.

(3)

البلد: 11 - 12.

(4)

انظر 49 كتاب العتق، 2 باب أي الرقاب أفضل. حديث أبي ذر: "قال: قلت: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله. قال: قلت: أيّ الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها =

ص: 377

فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوّجها فله أجران" (1). وأحسب أنَّ من حكمة هذا أن ما كان من العبيد بهذا الوصف يكون بقاؤه في الرق تعطيلاً لانتفاع المجتمع به انتفاعاً كاملًا، ويكون إدخاله في صنف الأحرار أفيد لهم.

ومن الثاني النهي عن التشديد على العبيد في الخدمة. ففي الحديث: "لا يكلّفه من العمل ما يغلبه، فإن كلّفه فليعنه"(2). والأمر بكفاية مؤنتهم وكسوتهم. ففي حديث أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عبيدكم خولكم (3) * إنّما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم. فمن جُعل أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس"(4). والنهي عن ضربهم الضرب الخارج عن الحد اللازم، فإذا مثل الرجل بعبده عتق عليه (5).

وفي الحديث: "النهي عن أن يقول الرجل: عبدي أو أمتي.

= ثمناً

". خَ: 3/ 117؛ انظر 1 كتاب الإيمان، 36 باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، 136. مَ: 1/ 89، وبلفظ: "أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً". انظر 19 كتاب العتق، 4 باب العتق، 2523 جَه: 2/ 843؛ انظر 38 كتاب العتق والولاء، 9 باب فضل عتق الرقاب، 15. طَ: 2/ 779 - 780؛ حَم: 2/ 388؛ 5/ 150، 171، 265.

(1)

انظر 3 كتاب العلم، 31 باب تعليم الرجل أمته وأهله. خَ: 1/ 32 - 33.

(2)

تقدم: 111/ 1.

(3)

* الخول: الذين يتخولون الأمور، أي يصلحونها. وذلك بيان لمزيتهم. اهـ. تع ابن عاشور.

(4)

تقدم: 111/ 1.

(5)

تقدم الحديث مع بيان حكمه: 187/ 2.

ص: 378

وليقل: فتاي وفتاتي، والنهي عن أن يقول العبد لمالكه: سيدي وربِّي. وليقل: مولاي" (1).

فمن استقراء هاته التصرّفات ونحوها حَصَلَ لنا العلم بأن الشريعة قاصدة بثَّ الحرية بالمعنى الأول.

وأما المعنى الثاني فله مظاهرُ كثيرة هي من مقاصد الإِسلام. وهذه المظاهر تتعلق بأصول الناس في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم. وبجمعها أن يكون الداخلون تحت حكم الحكومة الإِسلامية متصرفين في أحوالهم التي يخوّلهم الشرعُ التصرف فيها غيرَ وجلين ولا خائفين أحداً. ولكل ذلك قوانين وحدود حدّدتها الشريعة لا يستطيع أحد أن يحملهم على غيرها. ولذلك شدّد اللهُ النكيرَ والتقبيح على قوم أشارت إليهم آية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2)، فشمل قولُه:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} تحريمَ المباحات الذي صُدِّرت الآية بالاستفهام عنه استفهام إنكار.

(1) انظر 49 كتاب العتق، 17 باب كراهية التطاول على الرقيق، ح 3. خَ: 3/ 124؛ انظر 40 كتاب الألفاظ، 3 باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد، ح 13، 14، 15. مَ: 2/ 1764، 1765؛ انظر 35 كتاب الأدب، 83 باب لا يقول المملوك ربي وربتي، 4975، 4976. دَ: 5/ 256، 257؛ حَم: 2/ 316، 319، 423، 463، 484، 491، 508.

(2)

الأعراف: 32، 33.

ص: 379

فحرية الاعتقادات أسّسها الإِسلام بإبطال المعتقدات الضالة التي أَكره دعاةُ الضلالة أتباعَهم ومريديهم على اعتقادها بدون فهم ولا هدى ولا كتاب منير، وبالدعاء إلى إقامة البراهين على العقيدة الحق، ثم بالأمر بحسن مجادلة المخالفين وردهم إلى الحق بالحكمة والموعظة وأحسن الجدل، ثم بنفي الإكراه في الدين. وقد بسطتُ القول في ذلك في كتاب أصول نظام الاجتماع الإِسلامي (1). ولولا أن من أصول الشريعة حرية الاعتقاد ما كان عقاب الزنديق الذي يسرّ الكفر ويظهر الإيمان غير مقبولة فيه التوبة إذ لا عذر له فيه.

وأما حرية الأقوال فهي التصريح بالرأي والاعتقاد في منطقة الإذن الشرعي. وقد أمر الله ببعضها في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(3).

(1) ابن عاشور. أصول النظام الاجتماعي في الإِسلام: 171 - 173.

(2)

آل عمران: 104.

(3)

انظر 1 كتاب الإيمان، 20 باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، 78. مَ: 1/ 69؛ انظر 31 كتاب الملاحم، 17 باب الأمر والنهي، 4340. دَ: 4/ 511؛ انظر 34 كتاب الفتن، 11 باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب، 2172. تَ: 4/ 469 - 470؛ انظر 47 كتاب الإيمان، 17 باب تفاضل أهل الإيمان. نَ: 8/ 111 - 112؛ انظر كتاب إقامة الصلاة، 155، باب ما جاء في صلاة العيدين، 1275. جَه: 1/ 406؛ 36 كتاب الفتن، 20 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، 4013. جَه: 2/ 1330؛ حَم: 3/ 10، 20، 49، 52، 53.

ص: 380

ومنها حرية العلم والتعليم والتأليف. ولقد ظهرت هذه الحرية في أجمل مظهر في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإِسلام، إذ نشر العلماء فتاواهم ومذاهبهم، واحتج كل فريق لرأيه، ولم يكن ذلك موجباً لمناوأة ولا لحزازات. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها. فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه"(1). وهذا هو المقام الذي تحقق فيه مالك بن أنس حين قال له أبو جعفر الخليفة: إني عزمت أن أكتب كُتُبك يعني الموطأ نسخاً، ثم أبعث إلى كل مصر من الأمصار نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدّوها إلى غيرها. فقال الإِمام:"لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم [وعملوا به ودانو له] من اختلاف أصحاب رسول الله وغيرهم، وإنّ ردهم عما اعتقدوه شديد. فدع الناس وما هم عليه [وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم] (2) ".

ولولا اعتبار حرية الأقوال لما كانت الإقرارات والعقود والالتزامات وصيغ الطلاق والوصايا مؤثّرةً آثارها. ولذلك يسلب عنها التأثير متى تحقق أنها صدرت في حالة الإكراه.

وأما حرية الأعمال فهي تكون في عمل المرء في خويصته، وفي عمله المتعلّق بعمل غيره. فأما الحرية الكائنة في عمل المرء في الخويصة فهي تَدْخل في تناول كل مباح. فإن الإباحة أوسع ميدان لجولان حرية العمل، إذ ليس لأحد أن يمنع المباح عن أحد، إذ لا يكون أحد أرفق بالناس من الله تعالى.

(1) تقدم تخريجه: 139/ 1.

(2)

عياض. ترتيب المدارك: 2/ 72.

ص: 381

ونريد بالمباح هنا المأذون فيه ولو بالعموم فيدخل المكروه. ومن تناول المباح الاحتراف بأنواع الحرف المباحة، والنزول بالمَوَاطن المأذون في نزولها، وتناول ما أبيح للناس من الماء والكلأ، والتصرف في المكاسب بالوجوه المباحة، واختيار المطاعم والملابس والمساكن، وتناول الشهوات المأذون فيها. ولذلك كان تصرف الزوجة في مالها غير موقوف على رضي زوجها على اختلاف في مقدار ذلك (1).

وأما الحرية الكائنة في عمل المرء المتعلّق بعمل غيره فالأصل فيها أنها مأذون فيها، إذا لم تكن تضر بغيره. (وهذا المقام يتحقّق فيه معنى الجمع بين فرعين من مقاصد الشريعة: وهما حرية العمل الذي لا يتجاوز عاملَه، وحرية العمل الذي يؤثر في عمل غيره تأثيراً لا إضرار فيه. والإضرار يتحقّق بتعطيل حقًّ مأذونٍ فيه لمستحقه، أو إتلاف ذلك

(1) للمرأة الرشيدة التصرف في مالها كله بالتبرع والمعاوضة. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور من روايته. ابن قدامة. المغني: (2) 4/ 513 - 514.

والأصل في هذا حديث جابر: "يا معشر النساء تصدقن

فجعلن يتصدقن من حُلَّيهنَّ يُلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن". ابن دقيق العيد. إحكام الأحكام: 2/ 129 - 130، وحديث زينب امرأة عبد الله قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن". انظر 12 كتاب الزكاة، 14 باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين وإن كانوا مشركين، ح 45، 46. مَ: 2/ 694. وذهب المالكية إلى أن المرأة إذا تزوجت يحجر زوجها عليها في تبرع يزيد على ثلث مالها. فإن تبرعت بزائد مضى تبرعها حتى يرده الزوج، وإن لم يعلم به حتى تأيّمت أو مات أحدهما مضى تبرعها. الدردير. الشرح الصغير بحاشية الصاوي: 3/ 402.

ص: 382

الحق، ويترتب على ذلك غُرْم ما أتلفه. وفيه تفاصيل طويلة) (1).

ومن حرية الأعمال المتعلقة بأعمال الغير ما يلزم المرء نفسه بموجب حرية تصرّفه من العقود والالتزامات لمصلحة يراها. فإن إلزامه نفسَهُ بها أثرٌ من آثار حرية العمل أوجب به حقاً لغيره عليه على التفصيل في العقود التي تجب بمجرد التعاقد القولي والتي لا تجب إلَّا بالشروع في العمل.

ثم إن للشريعة حقوقاً على أتباعها تُقيَّد حريةُ تصرّفاتِهم بقدرها، وذلك في صلاحهم في الحال أو في المستقبل. مثل إلزامهم بإقامة المصالح العامة كفروض الكفايات، أو بإقامة مصالح مَن جعلت الشريعة مصالحَهم موكولةً إلى شخص معين كنفقة القرابة. ومتى تجاوز المرء حدود حريته في هذا النوع أوقف عند الحد الشرعي بالغرم مثل ضمان التفريط، أو العقوبة بدون قبول توبة كالحرابة، أو بعد الاستتابة كالردة، وأمثلة ذلك لا تعوزك.

واعلم أن الاعتداء على الحرية نوع من أنواع الظلم. ولذلك لزم أن يكون تمحيص مقدار ما يخول للمرء من الحرية في نظر الشارع موكولاً إلى ولاة الأمور المنصوبين لفصل القضاء بين الناس. فلذلك كان انتصاف المعتدى عليه لنفسه بنفسه ظلماً يستحق التعزير. قال الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (2). ولذلك سمّى عمرُ رضي الله عنه بعض هذا الانتصاف استعبادًا في قضية ابن عمرو بن العاص مع الذي وطئ ثوبه

(1) التغيير في هذه الجملة من عمل المؤلف في نسخته المصحّحة من ط. (1) حذف الجملة المثبتة أولاً وهي قوله: من يمارس عمله إلى: العقوبة. ط. الاستقامة: 144 - 145. ويتلوها قوله: ومن حرية الأعمال كما هو هنا.

(2)

الإسراء: 33.

ص: 383

فضربه ابن عمرو، فلما شكاه إلى عمر قال له عمر:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". فإن ابن عمرو جرى عليه اعتداء خطأ بوطء ثوبه، إذ ربما اتسخ الثوب أو هلهل. ولكنه لما باشر الانتصافَ لنفسه بنفسه تجاوز عن حدِّ الحق فعامل غيرَه معاملةَ عبد له، ثم أذن عمر المعتدى عليه بأن يقتص من ولد عمرو بن العاص فضربه ضربات بمقدار ما ضربه ابن عمرو (1). ومن أجل هذا كان السجن موكولاً للحكام. وليس لغيرهم السجن، لما فيه من التسلط على الحرية، وكذلك التغريب.

وقد حاطت الشريعة في كثير من تصاريفها حرية العمل بحائط سدِّ ذرائع خرم تلك الحرية. كما منعت وكالة الاضطرار، وهي توكيل المدين ربَّ الدين على بيع ونحوه عند محل الأجل (2)، وكما منعت

(1) ونص خبر عمر مع المصري كما أخرجه ابن عبد الحكم عن أنس بن مالك: "أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذاً. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه، فقدم. فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضربه. فجعل يضربه بالسوط. ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب. والله لقد ضربه ونحن نحبّ ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه. ثم قال للمصري: ضع على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر: ومُذْ كم تعبَّدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني". منتخب كنز العمال: 4/ 420؛ الكاندهلوي. حياة الصحابة: 2/ 97.

(2)

أشار الدردير إلى هذه المسألة في باب الرهن عند قوله: وللأمين، الذي وضع الرهن تحت يده، بيعه إن أذن له كالمرتهن بعده. وقال: إن للأمين بيع الرهن في الدين إذا أذن له الراهن في بيعه، ولو في عقد الرهن سواء =

ص: 384

كثيراً من الشروط الواقعة من رب المال على العامل في القراض والمزارعة والمغارسة والمساقاة ونحو ذلك. كما سنبينه في موضعه من المقاصد الخاصة بأنواع المعاملات (1)، وبعضُه ذُكر في مبحث سدّ الذرائع (2).

= أذن له في بيعه قبل الأجل أو بعده لأنه وكيل عن ربه حينئذ. ويجوز للمرتهن بيع الرهن إن أذن له الراهن بعده أي بعد العقد الصادق ببعد الأجل لا في حال العقد. ومحل الجواز إن لم يقل الراهن لواحد منهما: إن لم آت بالدين، وإلا بأن قال ذلك أو أذن للمرتهن في صلب العقد، قال: أو لم يقل، لم يجز البيع. قال الصاوي: قوله: إن أذن له بعده، أي وأما إن أذن الراهن للمرتهن في حال العقد فيمنع ابتداء لأنها وكالة اضطرار. الدردير. الشرح الصغير على أقرب المسالك بحاشية الصاوي: 3/ 332.

وإنما منع ابتداء لأن الشرط في العقد يخالف سنة الرهن، ولتهمة استغلال حاجة المدين عند استقراضه أو شرائه بالدين لاضطراره لهذه الوكالة. انظر البناني: 5/ 252.

وقال ابن غازي بعد نقل كلام التوضيح: والذي لابن رشد في رسم شك من سماع ابن القاسم من كتاب الرهون أن مذهب المدونة والعتبية أن ذلك لا يجوز ابتداء لأنها وكالة اضطرار لحاجته إلى ابتياع ما اشترى أو استقراض ما استقرض. الحطاب: 5/ 21 - 22؛ ابن رشد. البيان: 11/ 18.

(1)

انظر بعد: 468.

(2)

تقدم أعلاه: 244 - 255، 335.

ص: 385