الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أ - المعاملات في توجُّه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل
هذا الباب هو المدخل لتمييز الأحكام الشرعية المنوطة بتصرفات الأمة ومعاملاتها، ليعرف ما هو منها في رتبة المقصد، فهو في المرتبة الأولى في محافظة الشرع على إثباته وقوعاً ورفعاً، وما هو في رتبة الوسيلة فهو في المرتبة الثانية تابع لحالة غيره. وهو مبحث مهمّ لم يفِ المتقدّمون بما يستحقه من التفصيل والتدقيق، واقتصروا منه على ما يرادف المسألة الملقبة بسدّ الذرائع، فسمّوا الذريعة وسيلة والمتذرع إليه مقصداً. ونحن قد قضينا حق البحث في سدّ الذرائع. وجعلنا مبحث المقاصد والوسائل متطلعاً إلى ما هو أعلى من ذلك. ولم أر من سبق إلى فرض هذا في غير بحث سدّ الذرائع سوى ما ذكر في كتاب القواعد لعز الدين بن عبد السلام (1)، وما زاده شهاب الدين القرافي في الفرق الثامن والخمسين (2)، وأنا أجمع بين كلاميهما لعدم استغناء أحدهما عن الآخر وهو هذا:
(1) ابن عبد السلام. القواعد، بحث في بيان وسائل المصالح ووسائل المفاسد: 1/ 123 - 129.
(2)
القرافي. الفرق 58 الفرق بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل، الفروق: 2/ 32 - 34.
"انقسام المصالح والمفاسد إلى الوسائل والمقاصد:
فموارد الأحكام ضربان: أحدهما مقاصد، والثاني وسائل.
فالمقاصد هي المتضمّنة للمصالح والمفاسد في أنفسها. والوسائل هي الطرق المفضية إليها.
والوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل. وإلى [ما هو متوسط](1). ثم تترتب الوسائلُ بترتب المصالح والمفاسد. فمن وفّقه الله للوقوف على ترتب المصالح عرف فاضلها من مفضولها، ومقدمها من مؤخرها. وقد يختلف العلماء في بعض رتب المصالح فيختلفون في تقديمها عند تعذر الجمع. وكذلك من وفّقه الله لمعرفة رتب المفاسد فإنه يدرأ أعظمها بأخفَّها عند تزاحمها. وقد يختلف العلماء في بعض رتب المفاسد فيختلفون فيما يُدرَأُ منها عند تعذر دفع جميعها. والشريعة طافحة بما ذكرناه" (2) اهـ.
ثم قال عز الدين - في أثناء كلام في فصل بيان رتب المصالح -: "وجعل الجهاد تلو الإيمان في الحديث لأنه ليس بشريف في نفسه وإنما وجب وجوب الوسائل"(3). وقال: "ولا شك أن نصب القضاة والولاة من الوسائل إلى جلب المصالح [العامة والخاصة]. وأما نَصب أعوان القضاة [والولاة] فمن وسائل الوسائل، وكذلك تحمُّلُ الشهادات وسيلةٌ إلى أدائها، وأداؤها وسيلة إلى الحكم بها، والحكم بها وسيلة إلى جلب المصالح ودرء المفاسد"(4).
(1) القرافي. التنقيح: 449.
(2)
ابن عبد السلام. القواعد، فصل انقسام المصالح والمفاسد إلى الوسائل والمقاصد: 1/ 53 - 54.
(3)
ابن عبد السلام. القواعد، فصل في بيان رتب المصالح: 1/ 54.
(4)
ابن عبد السلام. القواعد، فصل في تقسيم المصالح 1/ 58.
وأنت ترى كلامهما مقتصراً على تخصيصها بمبحث المصالح والمفاسد، فغرضنا نحن أوسع، والفقيه إليه أحوج.
إن الأحكام المنوطة بتصرّفات الناس في معاملاتهم الصالحة والفاسدة، وإن كانت قد توجد متماثلةً في الرتب المعبَّرِ عنها في الفقه وأصوله بأقسام الحكم الشرعي، هي في الاعتبار الشرعي متفاوتةٌ بحسب كون مناطِها من التصرّفات مقصداً أو وسيلة في نظر الشرع، أو في نظر الناس. فلذلك تعين أن نبحث عن بيان هاتين المرتبتين من التصرفات.