المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع - مقاصد الشريعة الإسلامية - جـ ٣

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌القسم الأولفي إثبات مقاصد الشريعة واحتياج الفقيه إلى معرفتها، وطرق إثباتها ومراتبها

- ‌أ - إثبات أن للشريعة مقاصد من التشريع

- ‌ب - احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة

- ‌ج - طرق إثبات المقاصد الشرعية

- ‌د - طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة وتمحيص ما يصلح لأن يكون مقصوداً لها

- ‌هـ - أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية

- ‌و - انتصاب الشارع للتشريع

- ‌ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية

- ‌ح - تعليل الأحكام الشرعية، وخُلو بعضها عن التعليل وهو المسمّى التعبّدي

- ‌القسم الثاني في مقاصد التشريع العامة

- ‌أ - مقاصد التشريع العامة

- ‌ب - الصفة الضابطة للمقاصد الشرعية

- ‌ج - ابتناء مقاصد الشريعة على وصف الشريعة الإسلامية الأعظم وهو الفطرة

- ‌د - السماحة أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها

- ‌هـ - المقصد العام من التشريع

- ‌و - بيان المصلحة والمفسدة

- ‌ز - طلب الشريعة للمصالح

- ‌ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع

- ‌ط - عمومُ شريعة الإسلام

- ‌ي - المساواة

- ‌يا - ليست الشريعة بنكاية

- ‌يب - مقصد الشريعة من التشريع تغييرٌ وتقريرٌ

- ‌يج - نوط الأحكام الشرعية بمعانٍ وأوصاف لا بأسماء وأشكال

- ‌يد - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية

- ‌يه - التحيّل على إظهار العمل في صورة مشروعة مع سلبه الحكمةَ المقصودة للشريعة

- ‌يو - سد الذرائع

- ‌يز - نوط التشريع بالضبط والتحديد

- ‌يح - نفوذ الشريعة

- ‌يط - الرخصة

- ‌يك - مراتب الوازع جبليةٌ ودينيةٌ وسلطانية

- ‌كا - مدى حريّة التصرّف عند الشريعة

- ‌كب - مقصد الشريعة تجنّبُها التفريع في وقت التشريع

- ‌كج - مقصد الشريعة من نظام الأمة أن تكون قوية، مرهوبة الجانب، مطمئنة البال

- ‌كد - واجب الاجتهاد

- ‌القسم الثالثفي مقاصد التشريع التي تختص بأنواع المعاملات بين الناس

- ‌أ - المعاملات في توجُّه الأحكام التشريعية إليها مرتبتان: مقاصد ووسائل

- ‌ب - المقاصد والوسائل

- ‌ج - مقصد الشريعة تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقّيها

- ‌د - مقاصد أحكام العائلة

- ‌هـ - آصرة النكاح

- ‌و - آصرة النسب والقرابة

- ‌ز - آصرة الصهر

- ‌ح - طرق انحلال هذه الأواصر الثلاث

- ‌ط - مقاصد التصرفات المالية

- ‌ي - الملك والتكسب

- ‌يا - الصحة والفساد

- ‌يب - مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان

- ‌يج - مقاصد أحكام التبرعات

- ‌يد - مقاصد أحكام القضاء والشهادة

- ‌يه - المقصد من العقوبات

- ‌ثَبت جملَة من المراجع

الفصل: ‌ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع

‌ح - أنواع المصلحة المقصودة من التشريع

قد ثبت مما قررته في المبحثين قبل هذا أن مقصد الشريعة من التشريع، حفظ نظام العالم، وضبطُ تصرّف الناس فيه، على وجه يعصم من التفاسد والتهالك. وذلك إنما يكون بتحصيل المصالح واجتناب المفاسد على حسب ما يتحقق به معنى المصلحة والمفسدة. فحقيق عَلَيَّ أن أبين أمثالاً ونظائر لأنواع المصالح المعتبرة شرعاً والمفاسد المحذورة شرعاً، لتحصل للعالِم بعلم مقاصد الشريعة مَلَكةٌ يعرف بها مقصود الشارع. فينحو نحوه عند عروض المصالح والمفاسد لأحوال الأمة جلباً ودرءاً.

ووجهُ حاجة هذا العالِم إلى ذلك: أن المصالح كثيرة متفاوتة الآثار قوة وضعفاً في صلاح أحوال الأمة أو الجماعة، وأنّها أيضاً متفاوتة بحسب العوارض العارضة والحافة بها من مُعضَّدات لآثارها أو مُبطلات لتلك الآثار كلًا أو بعضاً. وإنّما يُعْتَبرُ منها ما نتحقق أنه مقصودٌ للشريعة، لأن المصالح كثيرة منبثة.

وقد جاءت الشريعة بمقاصد تنفي كثيراً من الأحوال التي اعتبرها العقلاء في بعض الأزمان مصالح، وتُثبِت عوضاً عنها مصالحَ أرجحَ منها. نعم إن مقصد الشارع لا يجوز أن يكون غير مصلحة، ولكنه ليس يلزم أن يكون مقصوداً منه كل مصلحة. فمن حق العالِم بالتشريع أن يَخْبُرَ أفانين هذه المصالح في ذاتها وفي عوارضها، وأن

ص: 230

يَسْبُرَ الحدود والغايات التي لاحظتْها الشريعة في أمثالها وأحوالها إثباتاً ورفعاً، واعتداداً ورفضاً، لتكون له دستوراً يُقتدَى، وإماماً يُحتذى (1)، إذ ليس له مطمع - عند عروض كل النوازل النازلة والنوائب العارضة - بأن يظفر لها بأصل مماثل في الشريعة المنصوصة ليقيس عليه، بله نصٍّ مقنع يفيء إليه. فإذا عَنَّتْ للأمة حاجةٌ وهرع الناس إليه يتطلّبون قوله الفصلَ فيما يُقدمون عليه وَجَدُوه ذكيَّ القلب صارم القول غير كسلان ولا متبلِّدٍ.

وتنقسم المصالح باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة إلى ثلاثة أقسام: ضرورية، وحاجيَّة، وتحسينية.

(1) عبارة الغزالي - في الإشارة إلى أول هذه التقسيمات - أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في مرتبة الضرورات، وإلى ما هي في مرتبة الحاجيات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات. المستصفى: 1/ 826.

وقال الشاطبي: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق. وهذه المقاصد: ضرورية وحاجية وتحسينية. الموافقات: (3) 2/ 8.

وقد تتبع هذه المسالة د/ حسين حامد حسان. ولاحظ في بيان أهمية هذه التسمية أن من الأصوليين كالغزالي من يشترط في المصالح الحاجية والتحسينية الأصل المعين الذي يمكن القياس عليه إلا أن تجري هذه المصالح مجرى الضرورات، وأن منهم مثل الشاطبي من يحكم بمجرد المصالح الحاجية ويضعها مع المصالح الضرورية في رتبة واحدة. ولا يشترط في كل منهما الأصل المعين ما دامت شروط العمل بالمصلحة قد توافرت عنده. ثم ذكر الطوفي الذي لم ير في تقسيم المصلحة إلى ضرورية وحاجية وتحسينية فائدة، وألحق به بعض الكتاب المعاصرين الذي رأى رأيه أن كل مصلحة يؤخذ بها مجردة عن الأصل المعين دون فرق بين الأقسام الثلاثة. نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي: 31، 32؛ البوطي. ضوابط المصلحة:119.

ص: 231

وتنقسم باعتبار تعلّقها بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها إلى: كلية، وجزئية.

وتنقسم باعتبار تحقق الاحتياج إليها في قوام أمر الأمة أو الأفراد إلى: قطعيّة، أو ظنيّة، أو وهميّة (1).

فأما التقسيم الأول إلى: ضرورية، وحاجية، وتحسينية. فهذه ثلاثة أصناف:

فالمصالح الضرورية، هي التي تكون الأمةُ بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها، بحيث لا يستقيم النظامُ باختلالها، بحيث إذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش. ولست أعني باختلال نظام الأمة هلاكَها واضمحلالها، لأن هذا قد سلمت منه أعرق الأمم في الوثنية والهمجية، ولكنَّي أعني به أن تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام، بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها. وقد يُفضي بعضُ ذلك الاختلال إلى الاضمحلال الآجل بتفاني بعضها ببعض، أو بتسلط العدو عليها إذا كانت بمرصد من الأمم المعادية لها أو الطامعة في استيلائها عليها. كما أوشكت حالة العرب في الجاهلية على ذلك مثلما قال زهير:

تداركتما عبساً وذبيان بعدما

تفانوا ودقوا بينهم عِطرَ مَنشَم (2)

(1) فرق بين هذا وبين الاعتبار الأول. فالوهمية لا يمكن أن تكون لا ضرورية ولا حاجية ولا تحسينية، بل هي ناشئة عن توهم المرء أن مصلحة الناس تقتضي مثلاً حلّية تعاملهم بالربا. فهذه مصلحة وهمية تناقض المصلحة الشرعية من كل الوجوه، كما تُعارض ما قضى به كتاب الله من ضرورة إغلاق باب الربا.

(2)

البيت من المعلقة. التبريزي: 136. ابن النحاس: 1/ 105.

ص: 232

وقد مثّل الغزالي (1) - في المستصفى (2) - وابن الحاجب (3) لقرافي (4) والشاطبي (5) هذا القسم الضروري بحفظ الدين والنفوس

(1) هو حجة الإسلام أبو حامد زين الدين محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزالي 450 هـ بقصبة الطابران، - 505 هـ بها. رعاه وأخاه أحمد أحدُ الشيوخ الصوفية من أصدقاء والده. قرأ الفقه في صباه ببلده على أحمد بن محمد الراذكاني، وعلق التعليقة بجرجان عن أبي نصر الإسماعيلي، ولازم بنيسابور إمام الحرمين وبرع في المذهب، والخلاف، والجدل، والأصلين، والمنطق، وقرأ الحكمة والفلسفة حتى غدا بحراً مغدقاً. ثم خرج إلى المعسكر وبه ناظَر الأئمة، وقدم بغداد. ودرّس بالنِّظامية. وصنف في الأصول والفقه والخلاف. وتزيد مؤلفاته على الخمسمائة ومن أجَلِّ كتبه التي أولى فيها مقاصد الشريعة عناية فائقة عند تحريره للمباحث الأصولية والفقهية، والتوجيهية الوعظية والتربوية: شفاء الغليل في بيان الشَّبَه والمُخيل ومسالك التعليل، والمستصفى وهو آخر كتبه الأصولية. وفيه عني بقضية المصلحة وفصل فيها القول، وإحياء علوم الدين الذي بيّن فيه مقاصد وأسرار ومصالح العبادات والعادات من المعاملات والأخلاق والآداب. محمد حسن هيتو، مقدمة المنخول.

(2)

المصلحة المحافظة على مقصود الشرع. ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفْسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. الغزالي. المستصفى: 1/ 286 - 287.

(3)

والمقاصد ضربان: ضروري في أصله. وهي أعلى المراتب كالخمسة التي روعيت في كل ملة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ابن الحاجب. منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل: 2/ 240.

(4)

والمناسبة ما تضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة. والمناسب أقسام: ما هو من قبيل الضرورات نحو الكليات الخمس وهي: حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال، وقيل: والأعراض. القرافي. التنقيح: 391.

(5)

قال: ومجموع الضروريات خمسة. وهي: حفظ الدين والنفس والنسل =

ص: 233

والعقول والأموال والأنساب. وزاد القرافي نقلًا عن قائلٍ: حفظَ الأعراض. ونُسب في كتب الشافعية إلى الطوفي (1) *.

قال الغزالي: "وتحريمُ تفويت هذه الأصول الخمسة يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة [من الملل] وشريعة [من الشرائع] التي أريد بها إصلاح الخلق"(2). وقد علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر.

وقال الشاطبي (3) *: "وعلم هذه الضروريات صار مقطوعاً به، ولم يثبت ذلك بدليل معين بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد. فكما لا يتعين في التواتر المعنوي أن يكون المفيد للعلم خبراً واحداً من الأخبار دون سائر الأخبار، كذلك لا يتعين هنا لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على انفرادها. فنحن

= والمال والعقل. وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة. الشاطبي. الموافقات: (2) 2/ 4 = (3) 2/ 10 = (4) 2/ 20.

(1)

* في ذيل كتاب اللباب في الأنساب لأحد تلامذة السيوطي: الطوفي نسبة إلى طُوفَى قرية من أعمال صرصر بناحية بغداد. منها [نجم الدين أبو الربيع] سليمان بن عبد القوي الطوفي الفقيه الأصولي.

[حنبلي رافضي ظاهري

أشعري، هذه إحدى العبر]

ذكر في طبقات الحنابلة اهـ. 2/ 366، ع 476؛ ترجمه [ابن العماد] في شذرات الذهب، وذكر أنه توفي سنة 716. اهـ. تع ابن عاشور.

(2)

انظر الغزالي. المستصفى: 1/ 288.

(3)

* صفحة 13 جزء 1 موافقات، طبع تونس. اهـ. تع ابن عاشور.

[النقل بتصرف. متصيد في جملته من المقدمة الثالثة. الأدلة السمعية لا تفيد القطع بآحادها بل باجتماعها. الشاطبي: (2) 1/ 13 وما بعدها = (3) 1/ 38 وما بعدها = (4) 1/ 31].

ص: 234

إذا نظرنا في حفظ النفس مثلًا نجد النهي عن قتلها (1)، وجعل قتلها سبباً للقصاص ومتوعَّداً عليه ومقروناً بالشرك (2)، ووجوب سد الرمق على الخائف على نفسه ولو بأكل الميتة (3). فعلمنا تحريم القتل علم اليقين. وإذا انتظم الأصل الكلي جارياً مجرى دليل عام فاندرجت تحته جميعُ الجزئيات التي يتحقق فيها ذلك العموم" اهـ.

وقد تنبّه بعض علماء الأصول إلى أن هذه الضروريات مشار إليها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} (4) إذ لا خصوصية للنساء المؤمنات. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على الرجال بمثل ما نزل في المؤمنات كما في صحيح البخاري (5).

(1) قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} . الأنعام: 101، الإسراء:23.

(2)

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} . البقرة: 178، وقال عز وجل:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} . النساء: 93، وقال سبحانه:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} . الأنعام: 137.

(3)

قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . المائدة: 3.

(4)

الممتحنة: 12.

(5)

في التحرير والتنوير، وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضاً: 28/ 165.

ونص الحديث المشار إليه هنا هو حديث عبادة بن الصامت: "قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تُبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تَسْرِقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا البهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم =

ص: 235

قال الشاطبي: "وحفظ هذه الضروريات بأمرين:

أحدهما ما يقيم أصل وجودها.

والثاني ما يدفع عنها الاختلال الذي يعرض لها" (1) اهـ.

وأقول: إن حفظ هذه الكليات معناه حفظها بالنسبة لآحاد الأمة وبالنسبة لعموم الأمة بالأولى.

فحفظ الدين معناه حفظ دين كل أحد من المسلمين أن يدخل عليه ما يفسد اعتقادهُ وعملَه اللاحق بالدين. وحفظ الدين بالنسبة لعموم الأمة، أي دفع كل ما شأنه أن ينقض أصول الدين القطعية. ويدخل في ذلك حمايةُ البيضة والذبُّ عن الحوزة الإسلامية بإبقاء وسائل تلقي الدين من الأمة حاضرها وآتيها.

ومعنى حفظ النفوس حفظُ الأرواح من التلف أفراداً وعموماً، لأن العالَم مركب من أفراد الإنسان، وفي كل نفس خصائصُها التي بها بعضُ قِوام العالم. وليس المرادُ حفظَها بالقصاص كما مثل به الفقهاء، بل نجد القصاص هو أضعفَ أنواع حفظ النفوس، لأنه تداركُ بعضِ الفوات. بل الحفظ أهمه حفظُها عن التلف قبل وقوعه،

= ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فى الدنيا فهو كفّارة له. ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله إن شاء الله عاقبه وإن شاء عفا عنه. فبايعناه على ذلك". انظر 93 كتاب الأحكام، 49 باب بيعة النساء خَ: 8/ 125، وليس فيه وقرأ آية النساء. والجملة مثبتة في 65 كتاب التفسير، 60 الممتحنة، 3 باب إذا جاءك المؤمنات، ح 3. خَ: 6/ 61.

(1)

نقل بتصرف. الموافقات: (1) 2/ 4 = (2) 2/ 3 = (3) 2/ 8 = (4) 2/ 17.

ص: 236

مثل مقاومة الأمراض السارية. وقد منع عمر بن الخطاب الجيش من دخول الشام لأجل طاعون عمواس (1). والمرادُ النفوس المحترمة في نظر الشريعة، وهي المعبر عنها بالمعصومة الدم. ألا ترى أنه يُعاقَب الزاني المُحصَن بالرجم مع أن حفظ النسب دون مرتبة حفظ النفس. ويلحق بحفظ النفوس من الإتلاف حفظُ بعض أطراف الجسد من الإتلاف، وهي الأطراف التي يُنزَّل إتلافُها منزلة إتلاف النفس في انعدام المنفعة بتلك النفس. مثل الأطراف التي جُعلت في إتلافها خطأَ الديةُ كاملة (2).

(1) حدث الطاعون - طاعون عمواس - 17 هـ. وكان موتاناً لم ير مثله. طمع له العدو في المسلمين، وتخوفت له قلوب المسلمين. كثر موته وطال مكثه. الطبري. تاريخ الأمم والملوك: 5/ 3530، 3531.

وعدة من مات في هذا الطاعون خمسة وعشرون ألفاً. وقبلَ منع عمر الجند من دخول الشام استشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه، ثم استشار مهاجرة الفتح من قريش فلم يختلفوا عليه وأشاروا بالعَود. فنادى عمر في الناس، إني مصبح على ظهر. فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله! فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. وقد كان من ضحايا هذا الطاعون جماعة. مات فيه أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعتبة بن سهيل وعمر بن غيلان الثقفي. ابن الأثير. الكامل: 2/ 236.

(2)

تكون دية الأطراف كاملة في الجنايات التي تقع على وجه الخطأ، وتترتب عليها إزالة جنس منفعة العضو بإبانته أو بتعطيل منفعته. وذلك في كل عضو مفرد في الجسم لا نظير له. وتجب الدية كاملة في اليدين والرجلين والعينين والأذنين والشفتين والثديين والحلمتين والأنثيين والشفرين والأليتين واللحيين، وفي غير ذلك مما اتفق عليه الفقهاء.

والأصل في هذا حديث سعيد بن المسيب: "في النفس الدية، وفي اللسان الدية، وفي المارن الدية"؛ وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، وجهه =

ص: 237

ومعنى حفظ العقل: حفظُ عقول الناس من أن يدخل عليها خلل، لأن دخول الخلل على العقل مؤدٍّ إلى فساد عظيم من عدم انضباط التصرف. فدخول الخلل على عقل الفرد مفض إلى فساد جزئي، ودخوله على عقول الجماعات وعموم الأمة أعظم. ولذلك يجب منع الشخص من السكر، ومنع الأمة من تفشّي السكر بين أفرادها. وكذلك تفشّي المفسدات مثل الحشيشة والأفيون والمورفين والكوكايين والهروين، ونحوها مما كثر تناوله في القرن الرابع عشر الهجري.

وأما حفظ المال فهو حفظُ أموال الأمة من الإتلاف، ومن الخروج إلى أيدي غير الأمة بدون عوض، وحفظُ أجزاء المال المعتبرة عن التلف بدون عوض.

وليس من الضروري إلغاء بعض الأعواض عن الاعتبار كإلغاء دفع العوض على التأجيل وهو ربا الجاهلية، وإلغاء التعويض على الضمان وعلى بذل الجاه وعلى القرض، ولا حفظُ المال من الخروج

= به إلى اليمن، وفيه الفرائض والسنن والديات. ومنه: "إن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أُوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية

"؛ وحديث معاذ: "وفي اليدين والرجلين الدية". الزيلعي. نصب الراية: 4/ 369؛ الحاكم. المستدرك: 1/ 397؛ انظر 45 كتاب القسامة، 46، 47 باب ذكر حديث عمرو بن حزم في الفتوى واختلاف الناقلين له، ح 4850. نَ: 8/ 57.

وقد فصّل القول في ذلك صاحب البدائع بذكر الأعضاء التي تجب فيها الدية كاملة والتي يجب فيها ما دونها. الكاساني: 7/ 311. انظر الديات والحكومات في الأطراف. الموسوعة الفقهية: 21/ 64 - 90.

ص: 238

عن يد مالكه إلى يد أخرى من أيدي الأمة بدون رضًى، لأن هذين من الحاجي لا من الضروري. ثم إن حفظَ الأموال الفردية يؤول إلى حفظ مال الأمة. وبه يحصل حصول الكلُّ بحصول أجزائه.

وأما حفظ الأنساب - ويعبّر عنه بحفظ النسل - فقد أطلقه العلماء ولم يبيّنوا المقصود منه، ونحن نفصل القول فيه. وذلك أنه إن أريد به حفظ الأنساب أي النسل من التعطيل فظاهرٌ عدُّه من الضروري، لأن النسل هو خِلفَةُ أفراد النوع. فلو تعطل يؤول تعطيلُه إلى اضمحلال النوع وانتقاصه، كما قال لوط لقومه:{وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} (1) على أحد التفسيرين (2). فبهذا المعنى لا شبهة في عده من الكليات لأنه يعادل حفظ النفوس. فيجب أن تحفظ ذكور الأمة من الاختصاء مثلًا، ومن ترك مباشرة النساء باطراد العزوبة ونحو ذلك. وأن تحفظ إناث الأمة من قطع أعضاء الأرحام التي بها الولادة، ومن تفشّي إفساد الحمل في وقت العلوق، وقطع الثدي، فإنه يكثر الموتان في الأطفال بعسر الإرضاع الصناعي على كثير من النساء وتعذره في البوادي.

وأما إن أُريد بحفظ النسب حفظ انتساب النسل إلى أصله، وهو الذي لأجله شرعت قواعد الأنكحة، وحرم الزنا وفرض له الحد، فقد يقال: إن عَدَّه من الضروريات غير واضح، إذ ليس بالأمة من ضرورة إلى معرفة أن زيداً هو ابن عمر وإنما ضرورتها في وجود أفراد النوع وانتظام أمرهم.

(1) العنكبوت: 29.

(2)

وهو الإكراه على الفاحشة، والمراد: قطع سبيل النسل في ترك النساء وإتيان الرجال. ابن عطية. المحرر الوجيز: 12/ 217.

ص: 239

ولكن في هذه الحالة مضرّة عظيمة، وهي أن الشك في انتساب النسل إلى أصله يزيل من الأصل الميل الجبلي الباعث عن الذب عنه، والقيام عليه بما فيه بقاؤه وصلاحه وكمال جسده وعقله بالتربية والإنفاق على الأطفال إلى أن يبلغوا مبلغ الاستغناء عن العناية. وهي مَضَرّة لا تبلغ مبلغ الضرورة لأن في قيام الأمهات بالأطفال كفاية مّا لتحصيل المقصود من النسل. وهو يزيل من الفرع الإحساس بالمبرة والصلة والمعاونة والحفظ عند العجز. فيكون حفظ النسب بهذا المعنى بالنظر إلى تفكيك جوانبه من قبيل الحاجي. ولكنه لما كانت لفوات حفظه من مجموع هذه الجوانب عواقب كثيرة سيئة يضطرب لها أمر نظام الأمة وتنخرم بها دعامة العائلة، اعتبر علماؤنا حفظ النسب في الضروري، لما ورد في الشريعة من التغليظ في حد الزنا، وما ورد عن بعض العلماء من التغليظ في نكاح السر والنكاح بدون ولي وبدون إشهاد، كما سنبيّنه عند الكلام على مقصد الشريعة في نظام العائلة الراجع إلى حفظ حقوق الأولاد (1).

وأما حفظ العِرض في الضروري فليس بصحيح. والصواب أنه من قبيل الحاجي. وإن الذي حمل بعض العلماء - مثل تاج الدين السبكي في جمع الجوامع - على عدّه في الضروري هو ما رأوه من ورود حد القذف في الشريعة (2). ونحن لا نلتزم الملازمة بين

(1) انظر بعد: 420.

(2)

قال السبكي: والمناسب ضروري فحاجي فتحسيني. والضروري كحفظ الدين فالنفس فالعقل فالنسب فالمال والعرض. قال البناني: المشروع له حد القذف. وهذا زاده المصنف كالطوفي، وعطفه بالواو إشارة إلى أنه في رتبة المال، وعطف كلاً من الأربعة قبله بالفاء لإفادة أنه دون ما قبله في الرتبة. السبكي بحاشية البناني وتعليقات الشربيني: 2/ 293 - 294.

ص: 240

الضروري وبين ما في تفويته حد. ولذلك لم يَعدَّه الغزالي وابن الحاجب ضرورياً.

وهذا الصنف الضروري قليل التعرض إليه في الشريعة، لأن البشر قد أخذوا حيطتهم لأنفسهم منذ القدم فأصبح مركوزاً في الطبائع. ولم تخل جماعة من البشر ذات تمدن من أخذ الحيطة له. وإنما تتفاضل الشرائع بكيفية وسائله.

ولننتقلْ إلى صنف الحاجي، وهو ما تحتاج الأمة إليه لاقتناء مصالحها وانتظام أمورها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاتُه لَمَا فسد النظام، ولكنه كان على حالة غير منتظمة فلذلك كان لا يبلغ مبلغ الضروري.

قال الشاطبي: "هو ما يفتقر إليه من حيث التوسعة ورفع الحرج. فلو لم يراعَ دخَل على المكلَّفين الحرجُ والمشقةُ [على الجملة]، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد [العادي] المتوقع في المصالح العامة"(1) اهـ.

ومثّله الأصوليون بالبيوع والإجارات والقراض والمساقاة. ويظهر أن معظم قسم المباح في المعاملات راجع إلى الحاجي. والنكاح الشرعي من قبيل الحاجي. وحفظ الأنساب، بمعنى إلحاق الأولاد بآبائهم من الحاجي للأولاد وللآباء. فللأولاد للقيام عليهم فيما يحتاجون ولتربيتهم النافعة لهم، وللآباء لاعتزاز العشيرة وحفظ العائلة.

(1) النقل بتصرف. الموافقات: (1) 2/ 4 = (2) 2/ 4 - 5 = (3) 2/ 10 - 11 = (4) 2/ 20.

ص: 241

وحفظ الأعراض - أي حفظ أعراض الناس من الاعتداء عليها - هو من الحاجي، لينكف الناس عن الأذى بأسهل وسائله وهو الكلام.

ومن الحاجي ما هو تكملة للضروري، كسد بعض ذرائع الفساد، وكإقامة القضاة والوزعة والشرطة لتنفيذ الشريعة.

ومن الحاجي ما يدخل في الكليات الخمسة المتقدمة في الضروري إلّا أنه ليس بالغاً حد الضرورة. كما أشرنا إليه فيما مضى من الأمثلة. فبعض أحكام النكاح ليست من الضروري ولكنها من الحاجي مثل اشتراط الولي والشهرة. وبعض أحكام البيوع ليست من الضروري، مثل بيوع الآجال المحظورة لأجل سد الذريعة، ومثل تحريم الربا، وأخذ الأجر على الضمان، وعلى بذل الشفاعة. فإن كثيراً من تلك الأحكام تكميلية لحفظ المال، وليست داخلة في أصل حفظ المال.

وعناية الشريعة بالحاجي تقرب من عنايتها بالضروري. ولذلك رتّبت الحد على تفويت بعض أنواعه، كحد القذف (1). وفيما دونه مجال للمجتهدين. فلذلك نراهم مختلفين في حد الشرب لقليل من المسكر (2)،

(1) من أجل حفظ العرض ودفع العار على المقذوف فرضه الشارع بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . النور: 4.

(2)

حد شرب الخمر مختلف عند الحنفية عنه في بقية المذاهب. فهم يذهبون إلى أن حد الأشربة المحرمة نوعان: هما حد الشرب وحد السكر. فحد الشرب يجب بشرب الخمر خاصة، شرب قليلها أو كثيرها، ولا يتوقف وجوب الحد على حصول السكر منها، لقوله عليه السلام:"من شرب الخمر فاجلدوه". وحد السكر سبب وجوبه السكر الحاصل بشرب =

ص: 242

وفي تحريم نكاح المتعة (1).

والمصالح التحسينية هي عندي ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوباً في الاندماج فيها أو في التقرب منها. فإن لمحاسن العادات مدخلًا في ذلك سواء كانت عادات عامة كستر العورة، أم خاصة ببعض الأمم كخصال الفطرة وإعفاء اللحية. والحاصل أنها مما تراعى فيها المدارك الراقية البشرية.

قال الغزالي: "هي التي تقع موقع التحسين والتيسير للمزايا ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات، مثاله: سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته، لأن العبد ضعيف المنزلة باستسخار المالك إياه، فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة"(2) اهـ.

= ما سوى الخمر من الأشربة المعهودة المسكرة كالسكر ونقيع الزبيب والمطبوخ أدنى طبخة من عصير العنب أو التمر ونحوها. ومذهب الجمهور أنه لا فرق بين شرب الخمر وغيرها. [من السكران] في وجوب الحد لحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام". الكاساني. البدائع: 7/ 39.

(1)

هذا النكاح نوعان: متعة ومؤقت. فالأول كأن يقول لامرأة: أتمتع بك كذا مدة بكذا من المال، وهو باطل بإجماع الفقهاء خلافاً للشيعة التي عملت برأي ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين، وأما الثاني فكأن يتزوج امرأة بشهادة شاهدين عشرة أيام، وهو باطل عند الجمهور. وأجازته الشيعة، وذهب زفر إلى أنه صحيح لازم، لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة. العيني. البناية: 4/ 101.

(2)

نقل بتصرف قليل. الغزالي. المستصفى: 1/ 290 - 291.

ص: 243

ومن التحسيني سد ذرائع الفساد (1). فهو أحسن من انتظار التورّط فيه.

فهذه أنواع المصالح باعتبار آثارها في قوام أمر الأمة. ولقد تتبع العلماء تصاريف الشريعة في أحكامها فوجدوها دائرة حول هذه الأنواع الثلاثة. ووجدوها لا تكاد تفيت شيئاً منها ما وجدت السبيل إلى تحصيله حيث لا يعارضه معارض من جلب مصلحة أعظم أو درء مفسدة كبرى.

وليس غرضنا من بيان هذه الأنواع مجردَ معرفة مراعاة الشريعة إياها في أحكامها المتلقاة عنها، لأن ذلك مجرد تفقه في الأحكام. وهو دون غرضنا من علم مقاصد الشرعية، ولا أن نقيس النظائر على جزئيات تلك المصالح، لأن ذلك ملحق بالقياس وهو من غرض الفقهاء. وإنما غرضنا من ذلك أن نعرف كثيراً من صور المصالح المختلفة الأنواع المعروف قصدُ الشريعة إياها، حتى يحصل لنا من تلك المعرفة يقين بصور كلية من أنواع هاته المصالح. فمتى حلت الحوادث التي لم يسبق حلولها في زمن الشارع، ولا لها نظائر ذات أحكام متلقاة منه، عرفنا كيف ندخلها تحت تلك الصور الكلية، فنثبت لها من الأحكام أمثال ما ثبت لكلياتها، ونطمئن بأننا في ذلك مثبتون أحكاماً شرعية إسلامية.

(1) وحسم مادة الفساد بسد الذرائع دفع لها. فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة للمفسدة، فإن مالكاً يمنعه في كثير من الصور. وليس هذا خاصاً بالمالكية، فإن الذرائع ثلاثة أقسام: أحدها أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه كحفر الآبار في طريق المسلمين، وقسم أجمعت الأمة على عدم منعه وأنه ذريعة لا تسد ووسيلة لا تحسم كالمنع من زراعة العنب، وقسم اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا؟ كبيوع الآجال عند المالكية، والحكم بالعلم. وقد بلغ نحو ألف مسألة. القرافي. الفروق: 2/ 32، 3/ 266.

ص: 244

وهذا ما يسمى بالمصالح المرسلة (1).

ومعنى كونها مرسلة أن الشريعة أرسلتها فلم تُنِط بها حكماً معيناً، ولا يُلفى في الشريعة لها نظير معين له حكم شرعي فتقاس هي عليه. فهي إذن كالفرس المرسل غير المقيَّد.

ولا ينبغي التردد في صحة الاستناد إليها، لأننا إذا كنا نقول بحجية القياس الذي هو إلحاق جزئي حادث لا يُعرف له حكمٌ في الشرع بجزئي ثابت حكمُه في الشريعة للمماثلة بينهما في العلة المستنبطة، وهي مصلحة جزئية ظنّية غالباً لقلة صور العلة المنصوصة، فَلَأَنْ نقول بحجية قياس مصلحة كلية حادثة في الأمة لا يُعرف لها حكم على كلية ثابت اعتبارُها في الشريعة باستقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي أو ظني قريب من القطعي أولى بنا وأجدرُ بالقياس وأدخلُ في الاحتجاج الشرعي.

وإني لأعجب فَرط العجب من إمام الحرمين - على جلالة علمه ونفاذ فهمه - كيف تردّد في هذا المقام (2). وأما الغزالي، فأقبل

(1) تلك هي التسمية الشائعة التي انبنت المصلحة المرسلة فيها على ملاحظة مراعاة الحكم لها واقتضائه إياها، وهي الوصف المناسب عند ابن الحاجب والغزالي لتوجه النظر فيها إلى أقسام الوصف وفروعه من حيث هو مؤثر وملائم، أو غريب أو مرسل وهو ملائم المرسل، وتعرف أيضاً بالاستصلاح أو الاستدلال كما عبر بالأول الغزالي، وبالثاني إمام الحرمين. البوطي. ضوابط المصلحة: 328 وما بعدها

(2)

يظهر تردده في قبول العمل بالمصالح المرسلة أو بالمناسب المرسل أو المرسل الملائم أو الاستدلال والاستصلاح عند ذكره الاستدلال، وتقسيمه الآراء فيه ثلاثة أقسام. فهو بجانب ذكر مذهبي الإمامين مالك والشافعي إزاءه يصدر كلامه بذكر المذهب الأول الصريح في نفيه والداعي =

ص: 245

وأدبر، فلحق مرّة بطرف الوفاق لاعتبار المصالح المرسلة، ومرّة بطرف رأي إمام الحرمين إذ تردد في مقدار المصلحة (1).

= إلى الاقتصار على اتباع كل معنى له أصل. ويقول: أما القاضي فإنه احتج بأن قال: الكتاب والسنة متلقيان بالقبول، والإجماع ملتحق بهما، والقياس المستند إلى الإجماع هو الذي يعتمد حكماً وأصله متفق عليه. أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة، وليس يدل بعينه دلالة أدلة العقول على مدلولاتها، فانتفاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العَمل به. الجويني. البرهان، الكتاب الرابع، القول في الاستدلال: 2/ 1113، ف: 1127 - 1132.

(1)

بيّن علماء الأصول ما كان من إقبال الغزالي وإدباره في القول بالمصلحة المرسلة. فقال العضد في شرحه على ابن الحاجب، والكمال بن الهمام في كتابه التحرير، وغيرهما ممن جرى على طريقتهما: إن الغزالي لا يقول بالاستصلاح إلا حيث استند إلى مصلحة ضرورية قطعية كلية. وبهذا الرأي أخذ البيضاوي في المنهاج والآمدي في الأحكام. وقال السبكي في جمع الجوامع: إنما شرط الغزالي في المصلحة أن تكون قطعية ضرورية كلية لإخراجها من محل النزاع، وبيان أن مثل هذه المصلحة يؤخذ بها اتفاقاً دون خلاف، ولبيان أن ما لم تتوفر فيه هذه الشروط فهو محل الخلاف والبحث. وقال البناني في شرح جمع الجوامع: إن الغزالي قائل بالمرسل إذا لم تكن المصلحة بالصفات المذكورة. البناني: 2/ 294.

ويظهر التردد واختلاف القول في المصلحة المرسلة عند الغزالي فيما أورده في كتبه عنها. فهو في شفاء الغليل لم يحصر اعتبار المصالح المرسلة بالمصالح الضرورية فقط ودليل هذا قوله: أما الواقع من المناسبات في رتبة الضروريات أو الحاجيات فالذي نراه فيها أنه يجوز الاستمساك بها إن كان ملائماً لتصرفات الشارع، ولا يجوز الاستمساك بها إن كان غريباً لا يلائم القواعد. الغزالي:188. ونراه في المنخول لا يشترط لاعتبارها أي مرتبة من مراتب المصالح. وذلك قوله: كل معنى مناسب للحكم مطرد في أحكام الشرع لا يرده أصل مقطوع به يقوم عليه من كتاب أو سنة أو =

ص: 246

وجلبُ كلام إمام الحرمين في كتاب البرهان وكلام الغزالي في المستصفى يطول.

ثم إني أقفي على أثرهما فأقول: لا ينبغي الاختلاف بين العلماء بتصاريف الشريعة المحيطين بأدلتها في وجوب اعتبار مصالح هذه الأمة ومفاسد أحوالها عندما تنزل بها النوازل وتحدث لها النوائب. وإنه لا يترقب حتى يجد المصالح المثبتة أحكامها بالتعيين، أو الملحقة بأحكام نظائرها بالقياس. بل يجب عليه تحصيل المصالح غير المثبتة أحكامها بالتعيين، ولا الملحقة بأحكام نظائرها بالقياس. وكيف يخالف عالم في وجوب اعتبار جنسها على الجملة، وبدون دخول في التفاصيل ابتداء، ثقةً بأن الشارع قد اعتبر أجناسَ نظائرها التي ربما كان صلاحُ بعضها أضعفَ من صلاح بعض هذه الحوادث.

ثم لا أحسب أن عالماً يتردّد - بعد التأمل - في أن قياس هذه الأجناس، - المحدثة على أجناس نظائرها الثابتة في زمن الشارع أو

= إجماع فهو مقول به، وإن لم يشهد له أصل معين. الغزالي. المنخول:364. ورأيه أنه ليس ثمة ما يمنع من الأخذ بها ما دامت المصلحة داخلة في مقاصد الشارع. البوطي. ضوابط المصلحة: 394 - 395. والقدر المشترك فيما كتبه الغزالي عن الاستصلاح في كتبه الثلاثة: هو اعتبار المصالح المرسلة ما دامت داخلة في مقاصد الشارع ملائمة لتصرفاته. أما اشتراط الضرورية والقطعية والكلية فهو شيء لم يرد إلا في المستصفى. ولا سبيل لفهم مجموع كلامه بشكل منسجم إلا باتباع ما قاله السبكي: من أن هذه الشروط الثلاثة إنما أوردها للإشارة إلى الأمكنة التي لا يمكن إلا أن تجتمع فيها آراء المسلمين على اعتبارها والأخذ بها. أما نفي ما وراء ذلك فمجال بحث واجتهاد. القرافي. نفائس الأصول، المسألة التاسعة في المصالح المرسلة: 9/ 4082 - 4087.

ص: 247

زمان المُعتَبَرين من قدوة الأمة المجمعين على نظائرها - أولى وأجدر بالاعتبار من قياس جزئيات المصالح عامها وخاصها بعضها على بعض، لأن جزئيات المصالح قد يطرق الاحتمال:

1 -

إلى أدلة أصول أقيستها.

2 -

وإلى تعيين الأوصاف التي جُعلت مشابهاتها فيها بسبب الإلحاق والقياس، وهي الأوصاف المسماة بالعلل.

3 -

وإلى صحة المشابهة فيها.

فهذه مطارق احتمالات ثلاثة، بخلاف أجناس المصالح. فإن أدلة اعتبارها حاصلة من استقراء الشريعة قطعاً أو ظناً قريباً من القطع، وأن أوصاف الحكمة قائمة بذواتها غير محتاجة إلى تشبيه فرع بأصل، وإنها واضحة للناظر فيها وضوحاً متفاوتاً لكنه غير محتاج إلى استنباط ولا إلى سلوك مسالكه.

أفليست بهذه الامتيازات أجدرَ وأحقَّ بأن تقاس على نظائر أجناسها الثابتة في الشريعة المستقراة من تصاريفها. فإن كان بعض تلك المصالح مصالح محضة بحيث لا تعارضها مصالح أخرى ولا تخالطها مفاسدٌ، فلا يحسنُ بأهل النظر في الشرع أن يختلفوا في تحصيلها. وإن كانت تعارضها مصالحُ أخرى أو تخالطُها مفاسد، فهي حينئذ يُرجَع بها إلى حكم تعارض المصالح والمفاسد المشروح في المبحث قبل هذا (1). وإنه مجال للاجتهاد بحسب قوة آثار المصالح المجتَلبَة وقوة ما يعارضها من المصالح والمفاسد، وبحسب تفاوت مراتب العلم بقوتها، فتلحق بنظائر أجناسها الثابت بالاستقراء

(1) انظر أعلاه: 223 - 226.

ص: 248

كونُها مقصودةً للشارع في تحصيل الراجح وإهمال المرجوح، وفي اعتبار عموم الحاجة إلى التحصيل وخصوصها. ويشبه أن يكون المخالف في تحصيلها بدون تردّد ملحقاً بنفاة القياس.

على أنك إذا افتقدت أحوال تحصيل المصالح ودرء المفاسد تجدها مختلفة. فليس أحوال إجراء العدل بين الناس في حقوقهم الخاصة والاجتماعية التي هي قوام المدنية في حالة السِّلم بمماثلة لأحوال مختلف إجراء المصالح الجندية والسياسية الحربية في حال الحرب والخوف عند مواجهة العدو، لأن أوقات الحروب ليس فيها متَّسع للتأمل والنظر في جزئيات المصالح، بل هي ساعات مُكنَة أو خروج من ضيقة تقتضي البدار إلى تحصيل أو دفع ما عنَّ من الفرص بقطع النظر عما عسى أن يلحقها من الأضرار الجزئية اللاحقة أو المصالح الجزئية الفائتة. على أنك تجد فرقاً واضحاً بين حالة دفع جيش العدو النازل وبين حالة قصدنا إلى بلاد العدو من حيث ما يتسع من التأمل لموازنة المصالح.

ونحن إذا افتقدنا إجماع سلف الأمة، من عصر الصحابة فمن تبعهم، نجدهم ما اعتمدوا في أكثر إجماعهم - فيما عدا المعلوم من الدين بالضرورة - إلّا الاستناد إلى المصالح المرسلة العامة أو الغالبة بحسب اجتهادهم الذي صير تواطؤَهُم عليه أدلة للظنية قريبة من القطع. وإنهم قلّما كان مستندهم في إجماعهم دليلاً من كتاب أو سنة، ولأجل ذلك عدّ الإجماع دليلاً ثالثاً، لأنه لا يدرى مستنده. ولو انحصر مستنده في دليل الكتاب والسنة لكان ملحقاً بالكتاب والسنة ولم يكن قسيماً لهما.

مثاله: جمع القرآن في المصحف. قد أمر به أبو بكر بطلب من

ص: 249

عمر، وتبعه بقية الصحابة. روى البخاري أن زيد بن ثابت قال:"أرسَلَ إليّ أبو بكر مَقتلَ أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك. وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله؟ قال أبو بكر: هو والله خير"(1).

فقول عمر: "هو والله خير"، ثم انشراح صدر أبي بكر، نعلم منه أنه من المصالح، لأن الخير مراد به الصلاح للأمة. وقول أبي بكر وزيد بن ثابت:"لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم "، نعلم منه أنه مصلحة مرسلة ليس في الشريعة ما يشهد لاعتبارها. وقد أجمع الصحابة على اعتبار ذلك.

وكذلك إجماعهم على جعل حد شارب الخمر ثمانين جلدة في خلافة عمر، وتبعه الخلفاء وقضاة الإسلام (2). وتدوين ديوان

(1) انظر أعلاه: 214/ 1.

(2)

لم يكن حد الشرب مقدراً في الشرع، بل "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بشارب، فأمر به فضرب بالنعال وأطراف الثياب وحثي عليه التراب". ولما آل الأمر إلى أبي بكر قدر الجلد بأربعين، ورآه قريباً مما كان يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم بذلك عُمر مدة، ثم توالت عليه الكتب من أطراف البلاد، بتتابع الناس في الفساد وشرب الخمر واستحقار هذا القدر من الزجر، فجرى ما جرى في معرض الاستصلاح تحقيقاً لزجر الفساق. الغزالي. شفاء الغليل: 216 - 217. =

ص: 250

العطاء (1). وترك عمر قسمة المغانم من أرض سواد العراق (2)، لتكون عُدة لنوائب المسلمين إذا قلَّتْ الفتوح، وكتابة حديث

= وهكذا فإن عبد الرحمن بن عوف - وقيل: علي بن أبي طالب - أشار - أو أشارا - على عمر بأخفّ الحدود وهو حد القذف ثمانون جلدة. وإليه ذهب عمر وعثمان وعلي. وهذا الحد هو المجمع عليه. وقيل: الحد أربعون كما ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي وأبو ثور وداود وأهل الظاهر وآخرون، لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين، وأن للإمام أن يرقى به إلى الثمانين أو ما دونها تعزيراً إن رأى ذلك. النووي. شرح مسلم: 11/ 215 - 221.

(1)

أول من وضع الديوان في الإسلام للعطاء الخليفة عمر بن الخطاب، ورتب الناس فيه وقدّر الأعطيات بعد مشاورته الصحابة. وقد تفرعت هذه المؤسسة إلى دواوين منها ديوان الجند لمعرفة ما يخص الجنود من العطاء، وإلى ديوان الخراج لمعرفة ما يرد إلى بيت المال، وما يفرض لكل مسلم من العطاء. وكان ذلك عندما كثر الناس وجبيت الأموال وفرضت الأعطيات وتأكدت الحاجة إلى ضبطهم. الخزاعي، تخريج الدلالات:237.

(2)

وطول حد السواد: من لدن تخوم الموصل، مادًّا مع الماء إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة. وعَرْضُه حده منقطع الجبل من أرض حلوان إلى منتهى طرف القادسية المتصل بالعُذَيْب من أرض العرب. فهذه حدود السواد، وعليه وقع الخراج. أبو عبيد. الأموال: 72؛ الماوردي. الأحكام السلطانية: 165؛ صبحي الصالح. النظم الإسلامية: 348.

وقد عدل عمر عن تقسيم هذه الأرض بين الغزاة المحاربين وجعلها أرض خراج. كتب بهذا إلى القواد، حتى تكون الأراضي التي فتحها المسلمون وقفاً للأمة بجميع أجيالها لأنها فيء محبوس لا ملك موروث. وقد كان على رأي عمر في ذلك أكابر المهاجرين: علي وعثمان وطلحة ومعاذ. صبحي الصالح. النظم الإسلامية: 346؛ ابن الخوجة. الخراج والعشر: 5 وما بعدها، 20 - 45.

ص: 251

رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن عبد العزيز (1). وقول عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور"(2). فقد تبعه على جعله أصلاً كثيرٌ من العلماء، منهم مالك بن أنس (3)،

(1) مما ورد في ذلك عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز قوله: قيدوا العلم بالكتاب. ابن عبد البر. جامع بيان العلم وفضله: 1/ 86، 91 - 92؛ الرامهرمزي. المحدث الفاصل: 365، 368.

وكتابه إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. ابن حجر. فتح الباري: 1/ 204؛ ابن سعد. الطبقات: 2/ 134، 8/ 353؛ الخطيب. تقييد العلم: 105 - 106.

وأمر عمر بن عبد العزيز ابن شهاب الزهري على رأس المائة بتدوين العلم.

(2)

تقدم في: 25/ 1.

(3)

اعتُمد هذا الأصل من كلام عمر بن عبد العزيز المقتدى به، في القول والفعل، في استنباط عدد من الأحكام وفي الاجتهاد فيما لا نص فيه، مراعاة للمصلحة وتحقيقاً للعدالة.

وبعد أن كانت الإجراءات الشرعية في مجال التقاضي والقضاء بسيطة أيام السلف، تغيّرت وتشعّبت بقدر تعقد الأحوال وتطور المجتمعات، وتقدم الزمان، وما تبع ذلك من نزوع إلى الشر ورغبة فيما بأيدي الناس عن طريق المغالطة والتحيل، أحدث الأئمة والفقهاء والقضاة جملة من الضوابط والشروط تقتضيها الأوضاع الجديدة، وتسايرها بحسب الأمكنة والأزمنة، صيانة منهم للحريات وحماية للحقوق.

ولأهمية هذا الأمر الذي ظل يزداد استكناهاً للأحوال، وتقديراً للأعراف، ودقة في طرائق الحكم، نبّه المؤلف رحمه الله عليه بعد في الفصل الذي عقده للحديث عن مقاصد أحكام القضاء والشهادة، فقال أولاً: "ولم يزل الفقهاء يضيفون إلى أحكام المرافعات ضوابط وشروطاً

" 522، وقال ثانية معللاً أسباب ذلك ومبيناً نتائج تلك التصرفات: "ثم إن الناس =

ص: 252

وكذلك ما أحدثه قضاة الإسلام وأئمته من أساليب المرافعات، وضرب الآجال، واستفسار الشهود، والسجن للمُلِدٍّ عن الجواب، وإحداث يمين القضاء لمن أثبت لنفسه حقًّا بالحجة على ميت أو غائب ونحو ذلك.

ولننتقل الآن إلى التقسيم الثاني للمصالح. وذلك باعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعتها أو أفرادها. فتنقسم بهذا الاعتبار إلى كلية وجزئية. ويراد بالكلية في اصطلاحهم ما كان عائداً على عموم الأمة عوداً متماثلاً، وما كان عائداً على جماعة عظيمة من الأمة أو قطر، وبالجزئية ما عدا ذلك.

فالمصلحة العامة لجميع الأمة قليلة الأمثلة، وهي مثل حماية البيضة، وحفظ الجماعة من التفرق، وحفظ الدين من الزوال، وحماية الحرمين حرم مكة وحرم المدينة من أن يقعا في أيدي غير المسلمين، وحفظ القرآن من التلاشي العام أو التغيير العام بانقضاء حفاظه وتلف مصاحفه معاً، وحفظ علم السنة من دخول الموضوعات، ونحو ذلك مما صلاحُه وفسادُه يتناول جميعَ الأمة وكلَّ فرد منها، وبعض صور الضروري والحاجي مما يتعلق بجميع الأمة.

وأما المصلحة والمفسدة اللتان تعودان على الجماعات العظيمة، فهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات المتعلقة بالأمصار والقبائل والأقطار على حسب مبلغ حاجاتها، مثل التشريعات القضائية لفصل النوازل، والعهود المنعقدة بين أمراء

= اجترؤوا على الحقوق تدريجياً وابتكروا التحيلات، فأضيفت، إلى ما سبق التنويه به، ضوابط كثيرة مفصلة في كتب النوازل". 538 - 540.

ص: 253

المسلمين وبين ملوك الأمم المخالفة في تأمين تجار المسلمين بأقطار غيرهم إذا دخلوها للتجارة، وتأمين البحار التي تحت سلطة غير المسلمين لتمكين المسلمين من مخرها آمنين إذا مروا بأسْماتِ شطوط غير المسلمين، والعقود المنعقدة مع تجار غير المسلمين إذا دخلوا إلى مراسي الإسلام على عُشُر أثمان ما يبيعونه ببلاد الإسلام من السلع والطعام أو على نصف العُشُر إذا جلبوا الطعام إلى الحرمين خاصة (1).

والمصلحة الجزئية الخاصة، هي مصلحة الفرد أو الأفراد القليلة. وهي أنواع ومراتب. وقد تكفلت بحفظها أحكام الشريعة في المعاملات.

وأما التقسيم باعتبار تحقّق الحاجة إلى جلبها أو دفع الفساد عن أن يحيق بها، فتنقسم بذلك إلى: قطعية، وظنية، ووهمية.

(1) قالت الحنابلة: إذا دخل منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر. وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ منهم شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئاً فنأخذ منهم مثله، ولا يؤخذ منهم شيء حتى يبلغ ما يحملونه النصاب.

وقال الشافعي: إن دخل إلينا بتجارة لا يحتاج إليها المسلمون لم يأذن له الإمام إلا بعوض يشرطه عليه، ومهما شرط جاز. ويستحب أن يشرط العشر ليوافق فعل عمر، وإن أذن مطلقاً من غير شرط لا يؤخذ منهم شيء لأنه أمان من غير شرط فلم يستحق منهم شيء كالهدنة. ويحتمل أن يجب العشر إن كان على ذلك العرف، والعرف في هذا ينزل منزلة الشرط. وإذا دخلوا في نقل ميرة للناس بها حاجة أذن لهم في الدخول بغير عشر يؤخذ منهم.

وذهب المالكية إلى أخذ نصف العشر منهم ليكثر الحمل إلى المدينة فيخفف عنهم، وقضوا بالترك أيضاً إذا رأوا المصلحة. ويؤخذ نصف العشر من كل ذمي تاجر. وقال الحنابلة: وكذلك يجب العشر أو نصفه في مال النساء. ولا يعشرون في السنة إلا مرة، ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير. وقال بعض أصحاب الشافعي: يعشر الحربي كلما دخل إلينا. ابن قدامة. المغني: 13/ 234 - 236.

ص: 254

فالقطعية هي التي دلت عليها أدلةٌ من قبيل النصّ الذي لا يحتمل تأويلاً نحو: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1)، وما تظافرت الأدلّةُ الكثيرةُ عليها مما مُستَندُه استقراء الشريعة، مثل الكليات الضرورية المتقدمة. أو ما دل العقل على أن في تحصيله صلاحاً عظيماً، أو في حصول ضدّه ضر عظيم على الأمة، مثل قتال مانعي الزكاة في زمن أبي بكر (2) رضي الله عنه في الضروري.

وأما الظنية فمنها ما اقتضى العقلُ ظنَّه، مثل اتخاذ كلاب

(1) آل عمران: 97.

(2)

في هذا سنة ثابتة صريحة عن ابن عمر وأبي هريرة. قال عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإن فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". ولما تمردت قبائل شتى من العرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على أداء الزكاة. واجهها أبو بكر بموقفه الحازم وقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها. وخالفه عمر في ذلك في الأول ثم وافقه وقال: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.

وفي المجموع: إذا منع واحد أو جمع الزكاة وامتنعوا بالقتال، وجب على الإمام قتالهم لما ذكره المصنف. وثبت في الصحيحين من رواية أبي هريرة أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا أولاً في قتال مانعي الزكاة. ورأى أبو بكر رضي الله عنه قتالهم واستدل عليهم. فلما ظهرت لهم الدلائل وافقوه فصار قتالهم مجمعاً عليه. النووي. المجموع: 5/ 334.

وفي قتال مانعي الزكاة جحوداً صونٌ للدين وحفاظ على أركان الشريعة جميعها، وضمانٌ لحقوق الفقراء والمساكين والفئات الضعيفة في المجتمع. القرضاوي. فقه الزكاة: 1/ 78 - 84.

ص: 255

الحراسة في الدور في الحضر في زمن الخوف في القيروان (1): كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد اتخذ كلباً بداره فقيل له: إن مالكاً كره اتخاذ الكلاب في الحضر. فقال: لو أدرك مالك مثل هذا الزمن لاتخذ أسداً على باب داره (2)؛ أو دلّ عليه دليلٌ ظنِّيٌ من الشرع، مثل حديث:"لا يقضي القاضي وهو غضبان"(3).

(1) المذهب أنه لا يتخذ كلب في الدور في الحضر، ولا في دور البادية، إلا لزرع أو ماشية يصحبها في الصحراء ثم يروح معها، أو لصيد يصطاده لعيشه لا للهو. ابن أبي زيد:106.

والأصل فيه حديث ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان". رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي. ومثله حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان. ابن الصديق: 431.

وقد تفرقت الأقوال في بيع الكلب بين الجواز والكراهة والمنع وهو أشهرها. وعند الضرورة حين وقعت الفتنة بين الشيعة والسنة جوّز المالكية اتخاذ الكلاب في الحضر للحراسة كما أجازوا بيعها.

واتفقوا أن كلاب الماشية

يجوز بيعها ككلب البادية

وعندهم قولان في ابتياع

كلاب الاصطياد والسباع

والاتفاق المنوه به هنا هو اتفاق الفقهاء المتأخرين المستدل عليه بقول ابن أبي زيد الذي أورده المؤلف هنا. التسولي. البهجة شرح التحفة: 2/ 46.

(2)

زروق. شرح الرسالة: 2/ 413 - 414؛ علي بن خلف المنوفي. كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 4/ 441 - 442. التسولي، البهجة شرح التحفة: 2/ 46.

(3)

ورد الحديث بألفاظ مختلفة. أخرجه البخاري من رواية أبي بكرة: 93 كتاب الأحكام، 13 باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، ح 1. خَ: 8/ 108. انظر 30 كتاب الأقضية، 7 باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان، ح 16. مَ: 2/ 1342 - 1343. انظر 23 كتاب الأقضية، 9 باب =

ص: 256

وأما الوهمية فهي التي يُتَخَيَّل فيها صلاحٌ وخيرٌ، وهو عند التأمل ضر:

إما لخفاء ضُرّه، مثل تناول المخدرات من الأفيون والحشيشة والكوكايين والهروين. فإن الحاصل بها لمتناوليها ملائِم لنفوسهم، وليس هو بصلاح لهم.

وإما لكون الصلاح مغموراً بفساد، كما أنبأنا عنه قوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1).

هذا جماعُ القول في المصالح المُعتَبَرة شرعاً. ولإطالة الكلام في ذلك فائدة عظيمة، ليتعلّمَ مزاولُ هذا العلم أن طريق المصالح هو أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك. وأنه إن لم يتبع هذا المسلكَ الواضح والمحجةَ البيضاءَ فقد عطَّل الإسلام عن أن يكون ديناً عاماً وباقياً. [ولم يأمن أن يسلك وادياً أخوف إلا ما وفى الله ساريا](2).

وللمصالح والمفاسد تقسيم آخر باعتبار كونها حاصلةً من

= القاضي يقضي وهو غضبان. دَ: 4/ 16، انظر 13 كتاب الأحكام، 7 باب ما جاء لا يقضي القاضي وهو غضبان، ح 1334. تَ: 3/ 620 - 621. انظر 49 كتاب القضاة، 32 باب النهي عن أن يقضي في قضاء بقضاءين، ح 5418. نَ: 8/ 247؛ انظر 13 كتاب الأحكام، 4 باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، ح 2316. جَه: 2/ 776؛ حَم: 5/ 52.

(1)

البقرة: 219.

(2)

الإضافة من ط. الاستقامة: 91. لكن المؤلف ضرب عليها بقلمه في ط (1).

ص: 257

الأفعال بالقصد، أو حاصلةً بالمآل. وهو تقسيم يسترعي حذق الفقيه. فإن أصول المصالح والمفاسد قد لا تكاد تخفى على أهل العقول المستقيمة. فمقام الشرائع في اجتلاب صالحها ودرء فاسدها مقام سهل، والامتثال إليه فيها هيَّن، واتفاق علماء الشرائع في شأنها يسير. فأما دقاق المصالح والمفاسد وآثارها ووسائل تحصيلها وانخرامها فذاك المقام المرتبك. وفيه تتفاوت مدارك العقلاء اهتداء وغفلة، وقبولاً وإعراضاً، فتطلع فيه الحيل والذرائع. وفيه التفطن للعلل وضدُّه، وفيه ظهر تفاوت الشرائع، وفازت شريعة الإسلام فيه بأنها الصالحة للعموم والدوام.

وسيظهر ذلك في مبحث الحيل (1)، ومبحث سد الذرائع (2).

(1) انظر: 317 وما بعدها.

(2)

انظر: 335 وما بعدها.

ص: 258