الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب - المقاصد والوسائل
المقاصد هي الأعمال والتصرّفات المقصودة لذاتها، والتي تسعى النفوس إلى تحصيلها بمساعٍ شتى، أو تُحمل على السعي إليها امتثالاً. وتلك تنقسم إلى قسمين: مقاصد للشرع، ومقاصد للناس في تصرّفاتهم.
قال الإِمام الأكبر: مقاصد الشرع فبصرك فيها حديد وعهدك بها غير بعيد، إذ سبق تفصيلها في القسمين الأول والثاني من هذا الكتاب (1). وإنّما يتفرعّ عنها ما يختصّ بهذا القسم الثالث من الكتاب، وهو معرفة المقاصد الشرعية الخاصة بأبواب المعاملات. وهي الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرّفاتهم الخاصة، كي لا يعود سعيهُم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أُسِّس لهم من تحصيل مصالحهم العامة، إبطالاً عن غفلة أو عن استزلال هوًى وباطِل شهوةٍ. ويدخل في ذلك كلُّ حكمة رُوعيت في تشريع أحكام تصرّفات الناس، مثل قصد التوثّق في عقدة الرهن، وإقامة نظام المنزل والعائلة في عقدة النكاح، ودفع الضرر المستدام في مشروعية الطلاق.
وأمّا مقاصد الناس في تصرّفاتهم فهي المعاني التي لأجلها
(1) انظر أعلاه: 35، 157، 161، 393.
تعاقدوا أو تعاطَوا أو تغارموا أو تقاضَوا أو تصالحوا. وهي قسمان:
قسم هو أعلاها، وهو أنواع التصرّفات التي اتفق عليها العقلاء أو جمهورهم لمّا وجدوها ملائمة لانتظام حياتهم الاجتماعية، مثل البيع والإجارة والعارية، وما كان من أحكام تلك الأنواع مقصوداً بها لذاته لكونه قوام ماهيتها، كالتوزيع في الإجارة، والتأجيل في السَّلَم، والمنع من التفويت في التحبيس. ويعلم هذا النوع باستقراء أحوال البشر.
وقسم هو دون ذلك، وهو الذي يقصده فريق من الناس أو آحاد منهم في تصرّفاتهم لملاءمة خاصّة بأحوال مثل العُمْرى والعريّة، ومثل الكراء المؤبّد المعروف بالإنزال عندنا في تونس، وبالحكْر في مصر، وبالنصبة في حوانيت التجارة في أسواق تونس، ويعبّر عنها بالجِلسة في المغرب الأقصى، ورهن غلة الوقف الخاص - أعني أوقاف الذرّية في بلاد الجريد التونسي -، وبيع الوفاء عند الحنفية في كروم بخارى. وهذا القسم يُتعَرَّف عليه بالأمارة والقرينة والحاجة الطارئة.
وهذه المقاصد بقسميها منها ما يدُعى بحق الله، ومنها ما هو حق للعبد.
فحقُّ الله تعالى لا يراد به ما يعطيه ظاهر هذه الإضافة، من أنه حقّ لذات الله تعالى، لأن حقّ ذات الله تعالى إنّما يدخل في العقائد والعبادات المشار إليهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً"(1) وبقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
(1) انظر حديث أنس عن معاذ: 56 كتاب الجهاد، 7 باب اسم الفرس والحمار، ح 3. خَ: 3/ 216؛ 73 باب اللباس، 101 باب إرداف الرجل =
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (1).
فذلك ليس مرادَنا هنا، بل المراد بها حقوق للأمة فيها تحصيل النفع العام أو الغالبَ أو حقُّ من يعجز عن حماية حقّه. أوصى الله تعالى بحمايتها، وحمل الناس عليها، ولم يجعل لأحد من الناس إسقاطها. فهي الحقوق التي تحفظ المقاصد العامة للشريعة، وتحفظ تصرّفات الناس في اكتساب مصالحهم الخاصة بأفرادهم أو بمجموعهم من أن تتسبب في انخرام تلك المقاصد. وتحفظ حق كلّ من يُظَنُّ به الضعف عن حماية حقه مثل حق بيت المال، والقاصر، وحضانة الصغير الذي لا حاضن له.
وحق العباد التصرّفات التي يجلبون بها لأنفسهم ما يلائمها، أو يدفعون بها عنهم ما ينافرهم، دون أن يفضي ذلك إلى انخرام مصلحة عامة أو جلب مفسدة عامة، ولا إلى انخرام مصلحة شخص أو جلب
= خلف الرجل. خَ: 7/ 68؛ 79 كتاب الاستئذان، 30 باب من أجاب بلبيك وسعديك. خَ: 7/ 137؛ 81 كتاب الرقاق، 37 باب من جاهد نفسه في طاعة الله. خَ: 7/ 189؛ 97 كتاب التوحيد، 1 باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، ح 2. خَ: 8/ 164؛ انظر 1 كتاب الإيمان، 10 باب الدليل على أنه من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، ح 48 - 50. مَ: 1/ 58 - 59؛ انظر 41 كتاب الإيمان، 18 باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، ح 2643. تَ: 5/ 76 - 77؛ انظر 37 كتاب الزهد، 35 باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، ح 4296. جَه: 2/ 1435؛ حَم: 2/ 309، 525، 535؛ 3/ 260 - 261.
انظر تفصيل القول في حق الله البخاري، كشف الأسرار: 4/ 134؛ القرافي. الفرق 22 بين قاعدة حقوق الله وقاعدة حقوق الآدميين، الفروق: 1/ 140.
(1)
الذاريات: 56 - 57.
مصلحة له، أو جلب مضرّة له في تحصيل مصلحة غيره. وحقوق العباد هي الغالب.
ويقترن الحقان - حق الله، وحق العبد - في مثل القصاص والقذف والاغتصاب، فيغلب حق الله في الغالب. وقد يغلب حق العبد إذا لم يمكن تداركُ حقِ الله، مثل عفو القتيل عن قاتله عمداً، لأن حق الاستحياء الذي حرُم لأجله القتلُ وبولغ في التهديد عليه قد فات، فرجح حقُ العبد، على أنَّ حق الله قد يبقى منه أثر قليل، فلذلك يضرب القاتل المعفو عنه مائة ويحبس عاماً (1).
(1) هذا مذهب مالك. قال خليل: وعلى القاتل المسلم عتق رقبة إذا قتل مثله معصوماً خطأ. اهـ. وعلى البالغ القاتل عمداً - إذا لم يقتص منه، لعفو ونحوه - جلد مائة وحبس سنة، سواء كان حراً أو رقيقاً، مسلماً أو كافراً، ذكراً أو أنثى، ولو كان القتيل عبده أو مجوسياً معصوماً. الدردير. الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 287.
قال مالك والليث في قاتل العمد، يعفى عنه: إنه يجلد مائة ويسجن سنة. انظر 43 كتاب العقول، 22 باب العفو في قتل العمد. طَ: 2/ 874. وبه قال أهل المدينة، وروي ذلك عن عمر. ابن رشد. البداية: 2/ 338.
وحددوا عقوبة قاتل العمد، إن عفي عنه أو صولح، بأنها: ضربه مائة جلدة، وسجنه عاماً مستقبلًا. وإن كان ضربه في أول أمره أجزأ عن إعادة الضرب عليه. وأما سجنه فيستقبل عاماً من وقت العفو عنه. ابن عبد الرفيع. معين الحكام: 2/ 872: 1726.
وخالف أحمد والشافعي وإسحاق وابن المنذر وأبو ثور في ذلك، وقالوا: إذا عفي عن القاتل لم تلزمه عقوبة. ودليلهم أنه إنما كان عليه حق واحد وقد أسقطه، فلم يجب عليه شيء آخر، كما لو أسقط الدية عن القاتل خطأ. ابن قدامة. المغني:(1) 7/ 746 = (2) 11/ 584.
ومستند الإِمام مالك في ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلاً قتل عبده عمداً، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحا =
وأما الوسائل فهي الأحكام التي شرعت لأن يتمّ بها تحصيل أحكام أخرى. وهي غير مقصودة لذاتها بل لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل، إذ بدونها قد لا يحصل المقصدُ، أو يحصل معرّضاً للاختلال والانحلال. فالإشهادُ في عقد النكاح وشهرتُه غيرُ مقصودين لذاتهما، وإنما شُرعا لأنهما وسيلة لإبعاد صورة النكاح عن شوائب السفاح والمخادنة. والحَوز للرهن ليس مقصوداً لذاته ولكنه شرع لتحقيق ماهية الرهن وحصول التوثّق الأمّ، حتى لا يرهنه الراهن مرّة أخرى عند دائن آخر فيفوت الرهن الأول.
وتنقسم الوسائل - كانقسام المقاصد - إلى ما هي حقوق الله تعالى مثل منع الرشوة عن ولاة الأمور. فهي حقّ الله تعالى ليس مقصوداً لذاته، ولكنه شرع لقصد تحقّق إيصال الحقوق إلى أصحابها من أهل الخصومات، وتحقّق أهلية من تُسنَد إليهم الولايات.
والتنجيز في العطايا وسيلةٌ لإتمامها خشية حصول مانعها. وهي من حقوق الله تعالى، لئلا تكون العطايا إبطالاً للمواريث، أو توسعاً في الإيصاء بأكثر من الثلث.
وكون العقود لازمة بالعقد أو بالشروع في العمل وسيلة لعدم
= سهمه من المسلمين، ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبة". وهذا تعزير من الإِمام. قال ابن الماجشون: روي ذلك عن أبي بكر وعلي.
قال القاضي أبو محمَّد: وقد كان يلزمه القتل فلما لم يقتل وجب تأديبه، وألحق بالزاني يقتل مع الإحصان. فإذا لم يقتل لعدم الإحصان ضرب مائة وحبس سنة. وقال أيضاً: إنه لما عفا عنه من له العفو وبقيت لله عقوبة جعلناها كعقوبة الزنى من البكر جلد مائة وحبس سنة. الباجي. المنتقى: 7/ 124.
نقضها. وهي حق الله تعالى ليحصل مقصد الشريعة من رفع الخصومات بين الأمة.
ويدخل في الوسائل الأسبابُ المعرَّفات للأحكام، والشروط، وانتفاء الموانع. ويدخل أيضاً ما يفيد معنى كصيغ العقود، وألفاظ الواقفين في كونها وسائل إلى تعرف مقاصدهم فيما عقدوه أو شرطوه.
وقد اتضح أن الوسائل مجعولةٌ في الدرجة الثانية من المقاصد. فلذلك كان من قواعد الفقه أنه إذا سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة (1) * ومن الأمثلة الصالحة لهذا مسألةُ النكاح في المرض فإنه مفسوخ، وفسخه وسيلة إلى مقصد حفظ حقوق الميراث. فإذا لم يفسخ حتى برئ المريض فقد رجع مالك إلى عدم فسخه وأمَرَ بمحو ما كان قاله في فسخه (2).
وكذلك تزوّج الحاضنة بأجنبي يُسقِط حقَّها في الحضانة. فإذا لم يقم وليُّ المحضون حتى طلقت الحاضنة فالأظهر أنه لا ينتزع منها المحضون، لأن ذلك الانتزاع وسيلة لمقصد عدم ضيعة المحضون. فلما سقط اعتبار الضيعة بعد طلاق الحاضنة لم يبق وجه لاعتبار الوسيلة. وكذلك حكمُ استعمال بعض صيغ العقود في غير ما وُضعت له إذا قرن بها ما يصرفها إلى مقصود، مثل استعمال لفظ "وهبتُ" في عقد الإنكاح إذا قرن بلفظ "صداق"، وكذلك لفظ "مَلكتُكَها".
(1) * انظر: الفرق الثامن والخمسين [بين قاعدة المقاصد وقاعدة الوسائل] من كتاب الفروق لشهاب الدين القرافي [2/ 32 - 34]. اهـ. تسع ابن عاشور.
(2)
قال خليل: ومرض أحد الزوجين مانع من العقد فيفسخ إلا لصحة قبله. والمرض من أحدهما مانع. اهـ. فإن صح المريض قبل الفسخ أمضي نكاحه. الشيباني. تبيين المسالك: 3/ 23.
ومنه تعارُضُ لفظ الواقف مع مقصده إذا قام على مقصده دليل غيرُ لفظه، وكان لفظه يخالف ذلك. ولذلك قال الفقهاء: إذا استقامت المعاني فلا عبرة بالألفاظ.
وقد تتعدد الوسائلُ إلى المقصد الواحد، فتعتبر الشريعةُ في التكليف بتحصيلها أقوى تلك الوسائل تحصيلاً للمقصد المتوسَّل إليه بحيث يحصل كاملاً، راسخاً، عاجلاً، ميسوراً، فتُقدِّمها على وسيلة هي دونها في هذا التحصيل.
وهذا مجال مُتسِّع ظهر فيه مصداقُ نظر الشريعة إلى المصالح، وعصمتها من الخطإ والتفريط. ولم أر من نبّه على الالتفات إليه. وأحسب أن عظماء المجتهدين لم يغفلوا عن اعتباره. ويجب أن يكون تَتبع أساليب مراعاة الشريعة لهذا الأصل من أكبر ما يهتم به المجتهدون والفقهاء في الاستنباط والتشريع وتعليل الشريعة، وما يهتمُ به القضاة والولاة في تنفيذ الشريعة، فإنه متشعب متفنن.
فإذا قدَّرنا وسائلَ متساويةً في الإفضاء إلى المقصد باعتبار أحوالِه كلِّها سوّت الشريعةُ في اعتبارها، وتخيَّر المكلّفُ في تحصيل بعضها دون الآخر، إذ الوسائل ليست مقصودة لذاتها، مثاله قوله تعالى:{فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} (1). فهذا خطاب للناس والمقصود منه حصول هذا العقاب. فإذا قام به وليُّ المرأة أو قام به زوجها أو قام به القاضي كان ذلك سواء. فإذا عرضت أحوالٌ في الناس أضعفت سلطةَ ولي المرأة أو سلطة الزوج، كان تكليفُ القضاة بمباشرة ذلك متعيّناً، لأنه أوقعُ في دوام ذلك الإمساك وتعجيله وعدم اختلاله. فإنا نجد في الأزمان التي بلغ فيها نظام القضاة أقصى حدِّه
(1) النساء: 15.
قد لا يستطيع وليُّ المرأة أن يمسكها مثلما يمسكها حكم القاضي، وبالعكس نجد في أزمان الحياءَ وسذاجة الناس مباشرةَ وليَّ المرأة ذلك أيسر وأسرع وأمكن.
هذا كله بالنسبة إلى الوسائل التي يُطلب تحصيلُها لتحصيل المقصد، أعني التي يتعلق بها خطاب التكليف. فأمّا الوسائل باعتبار تسبُّبها في حصول المقصد، إذا حصل ذلك التسبب، وترتب عليه حصولُ أثره، فلا التفات إلى تفاوتها في كيفية تحصيل المقصد المتُوسَّل إليه وفي ترتُّب آثاره عليه. ولذلك كان الراجحُ اعتبارَ حكم شرب خمر العنب ونبيذ التمر وغيره من الأنبذة المسكرة حكماً متحداً في التحريم، وإقامة الحدِّ إثباتاً أو نفياً، إذ لا فرق بينها عند حصول الأثر المتوسَّل إليه.
وكذلك كان الراجحُ اعتبارَ حكم القصاص عن القتل العمد العدوان إذا حصل بآلة من شأنها القتلُ إذا توجهت إلى المصاب بها. ولا التفات إلى الآلات ذات الوصف المذكور في سرعة تحصيل القتل أو كثرة الاستعمال، فيستوي القصاصُ في القتل العدوان إن حصل بسيف، أو بجعبة الرصاص النارية، أو برمي صخرة من عل، أو بوضع المقتول تحت أرجل الفيلة، أو إلقائه إلى السباع.