الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يد - أحكام الشريعة قابلة للقياس باعتبار العلل والمقاصد القريبة والعالية
لا أحسب لمن يتطرّقه شك في قبول الأحكام للقياس حساباً من سعة النظر في الشريعة، ولا أعدّه إلَّا عاكفاً على تلقي الجزئيات المأثورة دون شعور بجهات الاتحاد بين متماثلها في الأحكام، ولا أحسبه إلَّا متحيّراً عند تطلب أحكام لصور وأعمال غير ثابتة في الآثار أحكامٌ لها، وأنه لا يلبث إلَّا أن يجد نفسه مضطراً للقياس، وإذا افتقد نفسه وجد نفسه قد قاس. فإن استقراء الشريعة في تصرّفاتها قد أكسب فقهاء الأمة يقيناً بأنها ما سوّت في جنس حكم من الأحكام جزئيات متكاثرة إلا ولتلك الجزئيات اشتراك في وصف يتعيّن عندهم أن يكون هو موجب إعطائها حكماً متماثلاً. ومن ثمّ استقام لهم من عهد الصحابة إلى هلم جرًا أن يقيسوا بعض الأشياء على بعض، فينوطوا بالمقيسة نفس الأحكام الثابتة بالشرع للمقيس عليها في الأوصاف التي أنبئوا أنها سبب نوط الحكم، وأنها مقصود الشارع من أحكامه. فإن كانت تلك الأوصاف فرعيَّة قريبة سميناها عللاً مثل الإسكار، وإن كانت كليات سميناها مقاصد قريبة مثل حفظ العقل، وإن كانت كليات عالية سميناها مقاصد عالية، وهي نوعان مصلحة ومفسدة. وقد تقدّم ذلك كله.
وإنما هرع الفقهاء في التشريع والتفريع إلى القياس على النظائر
والجزئيات، ولم يعمدوا إلى الفحص عن المعاني الكليات القريبة، ولا إلى الفحص عن إثبات وجود الكليين العاليين وهما المصلحة والمفسدة، لأنهم رأوا دلالة النظير على نظيره أقربَ إرشاداً إلى المعنى الذي صرّح الشارع باعتباره في نظيره، أو أومأ إلى اعتباره فيه، أو أوصل الظنُ بأن الشارع ما راعى في حكم النظير إلا ذلك المعنى. فإن دلالة النظير على المعنى المرعي للشارع حين حكم له بحكم مَّا دلالة مضبوطة ظاهرة مصحوبة بمثالها. فقد قال بعض أساطين علمائنا (1) *:"ولاستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق"(2). فتكفي الفقيه مؤونة الانتشار في البحث عن المعنى من أجناسه العالية. ثم بما فيها من التمثيل والضبط تنتقل بالمجتهد إلى المعنى الذي اشتمل عليه النظير غير المعروف حكمُه، فَيُلْحقُه في الحكم بحُكم كلياته القريبة، ثم بحكم كلياته العالية، إذ لا يعسر عليه ذلك الانتقالُ حينئذ فتتجلى له المراتب الثلاث انجلاء بيِّنًا.
ولم يزل من طرق الاستدلال لدى ذوي العقول من الحكماء والرياضيين الوصول إلى الأشياء الدقيقة السامية بواسطة الأشياء الواضحة القريبة. فكذلك نعدّ الفقهاء في عدادهم إذ هي طريقة مثلى لجميع أهل المدارك العالية.
(1) * هو العلامة الزمخشري في تفسيره المعروف بالكشاف عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ} البقرة: 26. اهـ. تع ابن عاشور.
(2)
ينظر المؤلف إلى قول الزمخشري في تفسيره: ضرب المثل أن التمثيل يصار إليه لما فيه من كشف المعنى ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب وإدناء المتوهم من المشاهد
…
الزمخشري. الكشاف: (1) 1/ 54 = (2) 1/ 263.
فإذا تقرّر عندك هذا علمتَ أن الأصل في الأحكام الشرعية كلها قبولُ القياس عليها، ما قامت منها معان ملحوظة للشارع. فيجب أن تكون أنواعُ الأحكام التي لا يجري في مثلها القياس قليلةً جداً. من أجل ذلك اختلف أئمة الفقه في جريان القياس في الحدود والكفارات والرُّخَص (1)، وفي الأسباب والشروط والموانع (2). ومن أجل ذلك اتفقوا على امتناع القياس في إثبات أصول العبادات (3).
وقد قاس أبو بكر وعمر رضي الله عنهما الجدة للأب على الجدة للأم في الميراث، فجعل أبو بكر السدس بينها وبين الجدة للأم.
ففي الموطأ: "جاءت الجدتان إلى أبي بكر. فأراد أن يجعل
(1) قال الشافعي: القياس يجري في الشرعيات حتى الحدود والكفارات لعموم الدلائل. ومنعه أبو حنيفة فيهما وفي الرخص والتقديرات لأنها لا يدرك المعنى فيها، ولأن التقديرات التي اشتملت عليها الحدود لا تعقل بالرأي. وأجيب بأنه يدرك في بعضها، وبأن عدم معقولية التقادير ابتداء مسلم ولا يضر. السبكي. جمع الجوامع. شرح البناني وتعليقات الشربيني: 2/ 214؛ الأُسنوي. نهاية السول بحاشية محمد بخيت المطيعي: 4/ 35 وما بعدها.
(2)
دليل القائلين بالمنع فيها أن القياس فيها يخرجها عن أن تكون كذلك، إذ يكون المعنى المشترك بينها وبين المقيس عليها هو السبب والشرط والمانع، لا خصوص المقيس عليه أو المقيس. وأجيب بأن القياس لا يخرجها عما ذكر، والمعنى المشترك فيه كما هو علة لها يكون علة لما ترتب عليها. السبكي. جمع الجوامع: 2/ 215 - 216.
(3)
نسب السبكي منع القياس في أصول العبادات إلى قوم. ودليلهم أن الدواعي تتوافر على نقل أصول العبادات وما يتعلق بها. والمراد من أصول العبادات أعظمها وأدخلها في التعبد كالصلاة بخلاف الكفارة. السبكي. جمع الجوامع: 2/ 216.
السدس للتي من قبل الأم، فقال له رجل من الأنصار: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث، فجعل أبو بكر السدس بينهما" (1) اهـ. فهذا قياس بطريق إعمال دلالة الفحوى نبّهه إليه كلام الأنصاري، وجعله السدس بينهما تحقيقُ مناطٍ، كشأن كل ذوي فرض إذا تعدّدوا مع انعدام النص على توفير الفرض عند التعدد.
وفي الموطأ: "جاءت الجدة أم الأب إلى عمر تسأله ميراثها من ابن ابنها، فقال: ما لكِ في كتاب الله شيء، وما كان القضاء الذي قضي به إلَّا لغيرك - يعني ما قضى به أبو بكر باستناد إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في حديث الموطأ - وما أنا بزائد في الفرائض شيئاً، ولكنه ذلك السدس فإن اجتمعتُما فهو بينكما وأيكما خَلَت به فهو لها"(2) اهـ. فقاس في الاشتراك في السدس، وأمسك عن القياس بزيادة الفرض بأن يجعله عند التعدد الثلث قياساً على الإخوة للأم.
(1) انظر 27 كتاب الفرائض، 8 باب ميراث الجدة، ح 5. طَ: 2/ 513 - 514.
(2)
انظر 27 كتاب الفرائض، 8 باب ميراث الجدة، ح 4. طَ: 2/ 513.