الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ح - تعليل الأحكام الشرعية، وخُلو بعضها عن التعليل وهو المسمّى التعبّدي
إن الطريقة التي رسمها الفقهاء لأنفسهم في الاستدلال في الفقه وأصوله ألجأتهم بغير اختيار إلى الاقتصار على الاستدلال بألفاظ الكتاب، والسنة وبأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وسكوته، وبالإجماع.
على أن تلك الأقوال قد تفيد أحكاماً كلّية مثل قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1)، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر} (2)، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام:"ما أسكر كثيره فقليله حرام"(3)،
(1) المائدة: 1.
(2)
البقرة: 185. تقدم: 143/ 2.
(3)
الحديث رواه جابر بن عبد الله، وسعد، وعبد الله بن عمر، وعائشة، وخوّات بن جبير، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. انظر 20 كتاب الأشربة، 5 باب النهي عن المسكر 3681. دَ: 4/ 87؛ انظر 27 كتاب الأشربة، 3 باب ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام 1865. تَ: 4/ 292؛ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. انظر 51 كتاب الأشربة، 25 باب تحريم كل شراب أسكر كثيره. نَ: 8/ 300؛ وعن عبد الله بن عمر وعن جابر، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. انظر 30 كتاب الأشربة، 10 باب ما أسكر كثيره فقليله حرام 3392، 3394. جَه: 2/ 1124 - 1125؛ انظر الحديث بلفظ قريب منه عن سعد وهو: "أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره" 9 كتاب الأشربة، 8 باب ما قيل في المسكر، ح 2105. دَي: 2/ 437. =
وقوله: "لا ضرر ولا ضرار"(1).
وقد تفيد أحكاماً جزئيّة، وهو الغالب كقوله:"أمسك يا زبير حتى يبلغ الماء الجَدْر ثم أرسل إلى جارك"(2).
والفقهاء ينتزعون من كل ذلك فروعاً: إما بطريق تحقيق المناط (3) في الأحكام الكليّة، لأن المنتزعات جزئياتٌ لتلك القضايا الكليّة؛ أو بطريق القياس في الأحكام الجزئيّة، لأن المنتزعات مشابهةٌ لتلك الجزئيات في وصف آذنت به أحكامُها، على تفاوت بين الملحقات بسبب ظهور الأوصاف التي بها الشبه وخفائها لتفاوت مسالك العلة. ثم عمدوا إلى أحكام ثبت صدورُها من الشارع في علم المجتهد وخفي عنه مرادُ الشارع منها، فاتَّهم علمه وبذل جهده في جنب سعة الشريعة فسمَّوه بالتعبّدي، أي أن الشريعة تعبدتنا بذلك الحكم، ولم تشرح مرادها منه في نظر ذلك المجتهد.
روى البخاري (4) عن أبي الزناد أنه قال: "إن السُّنن ووجوهَ
= وقال ابن حجر: أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي. وصححه ابن حبان من طريق محمد بن المنكدر عن جابر. وقال الترمذي: حسن. ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه النسائي وابن ماجه وعبد الرزاق. ورفعه ابن عمر وأخرجه إسحاق والطبراني في معجميه، ومثله عن خوات بن جبير أخرجه الدارقطني والحاكم والعقيلي. الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/ 250، 991.
(1)
تقدم: 24/ 2، 145/ 2.
(2)
تقدم: 102/ 1، 112/ 3.
(3)
هو إثبات القاعدة أو العلة في بعض الصور التي تندرج تحتها. اهـ. تع ابن عاشور.
(4)
في باب ترك الصوم للحائض. [خَ: 30 كتاب الصوم، 41 باب الحائض تترك الصوم والصلاة. اهـ 2/ 239]. تع ابن عاشور.
الحق لتأتي كثيراً على خلاف الرأي، فما يجد المسلمون بدًّا من اتباعها. من ذلك: أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة" (1).
وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قال: "عجباً للعمة تُورَث ولا تَرِث"(2).
فكانت الأحكام عندهم قسمين: معلّل، وتعبّدي. وقد تفاوت المجتهدون في إثبات هذا النوع الأخير، غير أننا وجدنا الفقهاءَ الذين خاضوا في التعليل والقياس قد أوشكوا أن يجعلوا تقسيم أحكام الشريعة بحسب تعليلها ثلاثة أقسام:
1 -
قسم معلّل لا محالة. وهو ما كانت علّته منصوصة أو مومأً إليها، أو نحو ذلك.
2 -
وقسم تعبّدي محض. وهو ما لا يُهتدى إلى حكمته.
3 -
وقسم متوسّط بين القسمين. وهو ما كانت علّته خفيّة، واستنبط له الفقهاء علّة، واختلفوا فيه، كتحريم ربا الفضل في الأصناف الستة (3)، وكمنع كراء الأرض على الإطلاق عند القائلين
(1) تذييل من البخاري لترجمة الباب: 30 كتاب الصوم، 41 باب الحائض شرك الصوم والصلاة. خَ: 2/ 239.
(2)
حديث محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الرحمن بن حنظلة عن ابن مرسي. انظر 27 كتاب الفرائض، 10 باب ما جاء في العمة، ح 98. طَ: 1/ 516 - 517.
(3)
الأصناف الستة الربوية، التي لا يجوز بيع بعضها ببعض إلا مثلاً بمثل، يدًا بيد، يحرم فيها ربا النسيئة وربا الفضل. وقد وردت فيها أحاديث الباب. وهي: الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح. فإذا اختلف العوضان جنساً واتحدا في العلة جاز التفاضل وحرم النساء. وأهل الظاهر لمنعهم القياس لا يحملون عليها غيرها مما شاركها في العلّة. =
بالمنع على الإطلاق من الصحابة والتابعين (1).
وفي إثبات هذا النوع من العلل خطر على التفقه في الدين. فمن أجل إلغائه وتوقّيه مالت الظاهرية إلى الأخذ بالظواهر ونفوا القياس. ومن الاهتمام به تفنّنت أساليب الخلاف بين الفقهاء، وأنكر فريق منهم صحّة أسانيد كثير من الآثار.
ولقد نرى كثيراً من الفقهاء الذين جعلوا من أصولهم التمسكَ بظاهر لفظ الشارع، أو بالوصف الوارد عند التشريع، لم يسلَموا من
= واختلف الفقهاء في علة الربا المضافة إلى الجنس، فقالت الحنفية والحنابلة: هي القدر والمراد بالقدر: الكيل والوزن. ابن نجيم. البحر: 6/ 138؛ ابن قدامة. المغني: (2) 6/ 54، 55. وأضافت الشافعية إلى الجنس الطعم في الأصناف الأربعة، والثمنية في الذهب والفضة؛ وقالت المالكية: فيما عدا النقدين، العلة فيها الاقتيات والادخار؛ وعند العترة: الجنس والتقدير كيلاً أو وزناً، وقال ربيعة: اتفاق الجنس ووجوب الزكاة. الزيلعي. تبيين الحقائق: 4/ 85؛ الشوكاني. نيل الأوطار: 5/ 302 - 303؛ الدسوقي. حاشية الشرح الكبير: 3/ 47.
(1)
وهؤلاء أمثال الحسن وطاوس وأبي بكر الأصم، لأن المزارع إذا استؤجرت وخربت، لعلها يحترق زرعها فيردّها وقد زادت وانتفع ربها ولم ينتفع المستأجر. ومن حجتهم حديث الصحيحين:"من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها. فإن لم يفعل فليمسك أرضه". الزرقاني. شرح الموطأ، كتاب كراء الأرض: 3/ 252. أو للغرر والجهالة فإنهم كانوا يكرون الأراضي ببعض ما خرج منها. أما الذهب والورق فلم يكن يومئذ. ودليل ذلك قول ابن عمر: كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله بما على الأربعاء وشيء من التبن، وقول رافع بن خديج: كنا نكري الأرض بالناحية منها مسمى لسيد الأرض، فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض، وربما يسلم ذلك وتصاب الأرض، فنهينا. الزيلعي. نصب الراية: 4/ 180.
الوقوع فيما يشبه أحوال أهل الظاهر من الاعتبار بالتعبّد.
مثاله ما وقع لبعض الفقهاء من القول في آية القتل العمد الموجبة للقَود. فقد نُقِل عن بعضهم أنه أخذ بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خطأٌ إلا السيف"(1).
وعندي أنه أخذ بالصفة التي كانت الغالبة على آلات القتل في الزمن الذي ورد فيه حكم القود وهي السيف. ثم ألحق بالسيف كل آلة محدّدة بطريق القياس في وصف الأصل، ثم ألحق الخنق المزهق للروح، والحرق بالنار، والذبح بالقصب بطريق القياس أيضاً. وَوَقف عند ذلك. فنَفى القصاص في القتل برمي صخرة صماء من علو على جالس تحته، والقتل بضرب الرأس بدبوس، والإغراق مكتوفاً، والتجويع أياماً متوالية. وما ذلك إلّا لأنه جعل أصله في هذا الحكم اللفظ أو الوصف دون المقصد (2).
وأنت إذا نظرت إلى أصول الظاهرية تجدهم يوشكون أن ينفوا عن الشريعة نوط أحكامها بالحكمة، لأنهم نفوا القياس والاعتبار
(1) هو حديث النعمان بن بشير، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش". رواه سفيان الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي عازب عنه. انظر حَم: 4/ 272. وبإسناد آخر حَم: 4/ 275؛ البيهقي. السنن الكبرى: 8/ 42 بأسانيد ثلاثة؛ الزيلعي. نصب الراية: 4/ 333.
وبهذا الحديث فسر بعضهم العمد في الآية، وقال: كل ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب الأغلب منه أنه يقتل. الطبري. التفسير: 9/ 59.
(2)
المتعمد: القاصد. ويعرف التعمد بكونه فعلاً لا يفعله أحد بأحد إلا وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه، بما تزهق به الأرواح في متعارف الناس. ابن عاشور. التحرير والتنوير: 5/ 163، النساء:93.
بالمعاني، ووقفوا عند الظواهر فلم يجتازوها. ولذلك ترى حِجاجَهم وجدَلَهم لا يعدو الاحتجاجَ بألفاظ الآثار وأفعال الرسول وأصحابه. ويتجلّى ذلك واضحاً إذا طالعت كتاب "الإعراب عن الحيرة والالتباس الواقعين في مذاهب أهل الرأي والقياس"(1) لابن حزم. فقد كان هذا الأصل محورَ مناظراته مع أصحاب القياس.
على أن أهل الظاهر يقعون بذلك في ورطة التوقف عن إثبات الأحكام فيما لم يُروَ فيه عن الشارع حكم من حوادث الزمان. وهو موقف خطير يُخشى على المُتردّي فيه أن يكون نافياً عن شريعة الإسلام صلاحَها لجميع العصور والأقطار.
ورحم الله أبا بكر بن العربي (2)، إذ قال في كتاب العارضة - عند الكلام على حديث افتراق الأمة، وذَكَر مذهب الظاهرية، فأنشد فيهم أبياتاً، منها قوله -:
قالوا: الظواهرُ أصل لا يجوز لنا
…
عنها العدولُ إلى رأي ولا نظر
إن الظواهر معدودٌ مواقعُها
…
فكيف تحصي بيانَ الحكم في البشر (3)!
ولذلك كان واجب الفقيه عند تحقق أن الحكم تعبّدي أن يحافظ على صورته، وأن لا يزيد في تعبديتها، كما لا يُضيع أصل التعبدية.
(1) توجد من هذا الكتاب قطعة في مجموع بالعاشورية: 1599، ولم تذكره فهرسات الكتب المشهورة. وطبع في الستينات بدمشق تلخيص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل - بتحقيق سعيد الأفغاني - وليس هو. وقد أشار المحقق إلى الأصل في الخزانة العاشورية.
(2)
تأتي ترجمته: 367/ 1، تبعاً لما جرى عليه المؤلف.
(3)
البيتان هما الأول والرابع من قصيدة لابن العربي يرد فيها على أهل الظاهر. انظر آخر أبواب الإيمان. عارضة الأحوذي: 10/ 112.
ومثال ذلك كله يتّضح في مسألة العول في الميراث. فمقادير الفرائض مثبتة بنصّ القرآن، متلقاةٌ عند الأمة بتلقّي التعبّدي، لأن الله أمر بذلك في قوله:{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1). فلم يُسِغ لنا زيادة في المقدار ولا نقصٌ على حسب زيادة النفع أو البر أو الصلة وقلّة ذلك. ثم لما نزل بالمسلمين حادثُ ميراثٍ كانت فرائض أصحاب الفرائض فيه أكثر من المال الموروث، وكان ذلك في زمن عمر، لم يتأخّر عمر عن استشارة الصحابة، وعن إعمال الرأي والتعليل في تلك المقادير بطريقة العول.
وتلك قضية امرأة ماتت وتركت زوجها وأمّها وأختها. فأشار العباس أو علي بن أبي طالب وقال: "أَرَأيتَ لو أن رجلاً مات وعليه لرجال سبعة دنانير، ولم يخلف إلّا ستة دنانير. أليس يُجعلُ المالُ سبعة أجزاء ويدخل النقص على جميعهم؟ "(2). فصوّبه عمر ومن حضر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فها هنا نراهم قد احتفظوا على معنى التعبد في أصل إعطاء الجميع على نسبة واحدة، وفي عدم إهمال البعض من الورثة، ولكنهم لم يحتفظوا على معنى التعبّد في المقادير لتعذّر ذلك، فأدخلوا التعليل في هذا المكان خاصة.
(1) النساء: 11.
(2)
وممن ذكروا في الإشارة على عمر بالعول: العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت. والظاهر أنهم جميعاً، بدأ أحدهم ووافقه الآخرون، كما هو الشأن في هذه الأحوال. والأصل في العول أحاديث، منها: حديث ابن عباس: البيهقي. السنن الكبرى: 6/ 253؛ الحاكم. المستدرك: 4/ 340؛ ابن حزم. المحلى: 9/ 262 - 263. وحديث زيد بن ثابت: البيهقي. السنن الكبرى: 6/ 253. وحديث علي بن أبي طالب: البيهقي. السنن الكبرى: 6/ 253، ابن حجر. التلخيص الحبير: 3/ 90.
وكان عبد الله بن عباس يرى خلاف ذلك ويقول: من باهلني باهلته، إن الذي أحصى رملَ عالِج عدداً (يعني الله تعالى) لم يجعل للمال نصفاً ونصفاً وثلثاً، أي لم يجعل في الأجزاء نصفين وثلثاً. وقال: إن النقص يدخل على الأخت من مقدار فرضها لأنها أضعف من الزوج، ومن الأم؛ لأنها قد تنتقل من أن تكون ذاتَ فرض إلى أن تكون من العصبة، أي مع البنات. فأبى ابن عباس من إدخال التعليل، ومن نقص فرضي الأمّ والزوج، وجعل الأخت تأخذ البقية بطريقة أن المال قد نفد. فلم يُعمِل التعليل هنا، ولكنه أعمل شيئاً من الترجيح بالتنظير (1).
وكان حقاً على أئمة الفقه أن لا يساعدوا على وجود الأحكام التعبّدية في تشريع المعاملات، وأن يوقنوا بأن ما ادُّعي التعبّد فيه منها إنما هو أحكام قد خفيت عللُها أو دقت. فإن كثيراً من أحكام المعاملات التي تلقاها بعض الأئمة تلقيَ الأحكام التعبدية قد عانى المسلمون من جرائها متاعب جمّة في معاملاتهم، وكانت الأمة في كبد على حين، يقول الله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2).
(1) يقدم ابن عباس في تقسيم التركة مَن ينقل من فرض مقدر إلى فرض مقدر كالأم والزوجين، ومن لا يتغيّر فرضه كالجدة وأولاد الأم، ويرى إدخال النقص على بعض أصحاب الفروض، وهم: الذين ينقلون من فرض مقدر إلى نصيب غير مقدر، وهن البنات والأخوات؛ حيث ينقلن من الإرث بالفرض إلى الإرث بالتعصيب. محمد مصطفى شلبي. أحكام المواريث بين الفقه والقانون: 256 - 257؛ زكريا البري. الوسيط في أحكام التركات والمواريث: 191 - 197 ف 117 - 119.
(2)
الزيادة من ط. الاستقامة: 48، وقد عدل عنهما المؤلف وضرب عليها. والآية: الحج: 78.
وعلى الفقيه أن يجيد النظر في الآثار التي يتراءى منها أحكام خفِيت عللُها ومقاصدها، ويمحّص أمرها. فإن لم يجد لها محملاً من المقصد الشرعي نظر في مختلف الروايات، لعله أن يظفر بمسلك الوهم الذي دخل على بعض الرواة، فأبرز مرويه في صورة تُؤذن بأن حكمه مسلوبُ الحكمة والمقصد.
وعليه أيضاً أن ينظر إلى الأحوال العامة في الأمة التي وردت تلك الآثار عند وجودها.
مثال ذلك في الأمرين حديث رافع بن خديج وأنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، أي كراء المزارع (1).
فقد حمله ابن عباس على أن رسول الله لم ينه عنه، ولكنه قال:"لأنَ يمنح أحدُكم أخاه خيرٌ له من أن يأخذ خراجاً معلوماً"(2).
(1) في المحاقلة - وهي استكراء الأرض بالحنطة واشتراء الزرع بالحنطة - تقدم حديث رافع بن خديج: 67/ 3. وحديث أنس بن مالك: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمحاقلة". انظر 24 كتاب البيوع، 82 باب بيع المزابنة، وهي بيع التمر بالثمر وبيع الزبيب بالكرم، وبيع العرايا. خَ: 3/ 31؛ 93 باب بيع المخاضرة، ونص الحديث عن أنس:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة". خَ: 3/ 35. ومثلهما حديث أبي سعيد الخدري. انظر 31 كتاب البيوع، 13 باب ما جاء في المزابنة والمحاقلة، ح 24. طَ: 2/ 625. وكذا حديث سعيد بن المسيب في النهي عن المزابنة والمحاقلة. قال ابن عبد البر: وقد روى النهي عنهما (عن المزابنة والمحاقلة) جماعة، منهم: جابر وابن عمر وأبو هريرة ورافع بن خديج. الزرقاني على الموطأ: 3/ 158.
(2)
تقدم: 68/ 1.
وحمله مالك وابن شهاب وابن المسيَّب على تفسير أبي سعيد الخدريّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة. والمحاقلة: كراء الأرض بالحنطة. ولذلك ترجم هذا الحديث مع غيره في الموطأ بترجمة المزابنة والمحاقلة. فلم يَرَ للمحاقلة معنى غير هذا (1).
وسلك بعض الصحابة والأئمة مسلك النظر إلى الحالة التي هي مورد النهي، وهي ما ورد في حديث رافع بن خديج في صحيح البخاري، قال:"كنا أكثر أهل المدينة مُزدَرعاً فكنا نكري الأرض بالناحية منها مسمًّى لسيد الأرض (أي بالزرع الذي يحصل في الناحية المعيّنة) فممّا يصاب من ذلك وتسلمُ الأرض (أي بقيتها)، وممّا تصاب الأرض ويسلم ذلك (أي ما في الناحية المعيّنة لرب الأرض) فنُهينا عن ذلك. وأما الذهب والورِق فلم يكن يومئذ (2)، وفي رواية: فلربّما أَنبتَت هذه ولم تُنبت الأخرى"(3) اهـ.
ولذلك قال الليث بن سعد: "كأنّ - بتشديد النون - الذي نهي عنه من ذلك - أي من كراء الأرض - ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه، لما فيه من المخاطرة". رواه عنه البخاري في كتاب المزارعة (4).
(1) تقدمت الإشارة إلى ذلك: 69/ 1. انظر كلام الإمام في تفصيل القول في المزابنة. طَ: 2/ 625 - 627.
(2)
تقدم في حديث البخاري. انظر 71/ 1.
(3)
وفي رواية أخرى: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول: هذه القطعة لي وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم. انظر 41 كتاب الحرث، 12 باب ما يكره من الشروط في المزارعة. خَ: 2/ 69.
(4)
تقدم: 68 - 71.
واعلم أن أبا إسحاق الشاطبي ذكر في المسألتين: الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من النوع الرابع من كتاب المقاصد كلاماً طويلاً في التعبد والتعليل معظمه غير محرر ولا متجه (1). وقد أعرضت عن ذكره
(1) الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني؛ وكل ما ثبت فيه اعتبار التعبد فلا تفريع فيه، وكل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلا بد فيه من اعتبار التعبد. الشاطبي. الموافقات:(1) 2/ 190 - 201 = (2) 2/ 211 - 223 = (3) 2/ 300 - 320 = (4) 2/ 513.
ومن ضعف التحرير في الفصلين أن الشاطبي، في الاستدلال أولاً بالاستقراء على قاعدته التي جعلها عنوان الفصل، جاء قوله: فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها، وينقض الاستقراء طهارة الثوب والبدن والمكان من الأخباث فإنها لا تتعدّى.
وقوله: أكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة الخصوص كقوله: سها فسجد. فإنا لم نقف على لفظ هذا الحديث. وفي الباب أحاديث كثيرة تدل على سهو النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده لذلك.
وقوله ناقلاً من تعريف أبي زيد للمناسب: وأكثر ما علل به في تشريع باب العادات أنه إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وهذا لا يمكن إثباته في المناظرة. وكان الأحسن به أن يقول في تعريفه: إنه وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء. وهو حصول مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها.
وفي أول المسألة التاسعة عشرة قال: كل ما ثبت فيه اعتبار المعاني دون التعبد فلا تفريع فيه، يريد أن يثبت التعبد. وليس الغرض أن يثبت اعتبار عدم التعبد، وإلا لتناقض الكلام. وقوله: قال: فلا بد فيه من اعتبار التعبد؛ ليس المراد به هنا التعبد بالمعنى الخاص الذي يجب ألا يدخله القياس والتفريع، بل المراد أن يكون لله فيه حق إذا قصده المكلف بالفعل أثيب، وتكون مخالفته قبيحة يستحق العقاب عليها. انظر تع عبد الله دراز. الموافقات:(3) 2/ 300، 302، 306، 310.
هنا لطوله واختلاطه فإن شئت فانظره وتأمّله ثم اعرضه على ما ذكرتهُ لك هنا.
وجملة القول أن لنا اليقين بأن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشارع، وهي حكم ومصالح ومنافع. ولذلك كان الواجب على علمائها تعرّفُ علل التشريع ومقاصده ظاهرها وخفيها فإن بعض الحكم قد يكون خفياً، وإن أفهام العلماء متفاوتة في التفطُّن لها. فإذا أعوز في بعض العصور الاطلاع على شيء منها فإن ذلك قد لا يعوز من بعد ذلك؛ على أنّ من يعُوزه ذلك يحقّ عليه أن يدعو نظراءه للمفاوضة في ذلك مشافهة ومراسلة، ليمكن لهم تحديد مقادير الأحكام المتفرعة من كلام الشارع. فإن هم فعلوا ذلك فاستمر عوزُ الكشف عن مراد الشارع وجب عليهم أن لا يتجاوزوا المقدار المأثور عن الشارع في ذلك الحكم، ولا يفرّعوا على صورته، ولا يقيسوا فلا ينتزعوا منه وصفاً ولا ضابطاً، لأن فوارق الأحوال المانعة من القياس تخفى عند عدم الاطلاع على العلة، ومن الفوارق مؤثر وغير مؤثر. وإذا جاز أن نثبت أحكاماً تعبّدية لا علّة لها ولا يُطلع على علّتها فإنّما ذلك في غير أبواب المعاملات المالية والجنائية. فأمّا هذان فلا أرى أن يكون فيها تعبّدي، وعلى الفقيه استنباط العلل فيها. ولذلك جزم مالك وأبو حنيفة والشافعي بالقياس على الأصناف الستة الربوية باستنباط علّة لتحريم ربا الفضل فيها، إلّا أن جميعهم إنّما استنبط لها علّة ضابطة، ولم يبينوا لها حكمة.
القسم الثاني
في
مقاصد التشريع العامة