الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب - احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة
إنّ تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء:
النحو الأول: فهمُ أقوالها، واستفادةُ مدلولات تلك الأقوال، بحسب الاستعمال اللغوي، وبحسب النقل الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل الاستدلال الفقهي. وقد تكفَّل بمعظمه علمُ أصول الفقه.
النحو الثاني: البحثُ عمّا يعارض الأدلّة التي لاحت للمجتهد، والتي استكمل إعمالَ نظره في استفادة مدلولاتها، ليستيقن أن تلك الأدلة سالمةٌ مما يُبطل دلالتَها ويقضي عليها بالإلغاء والتنقيح (1). فإذا استيقن أن الدليل سالمٌ عن المُعارِض أعمله، وإذا ألفى له معارضاً نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً، أو رجحان أحدهما على الآخر.
النحو الثالث: قياسُ ما لم يرِد حكمُه في أقوال الشارع على حكمِ مَا ورد حكمُه فيه بعد أن يعرف علل التشريعات الثابتة بطريق من طرق مسالك العلة المُبيَّنةَ في أصول الفقه.
(1) أردت بالإلغاء النسخ أو الترجيح لأحد الدليلين أو ظهور فساد الاجتهاد. وبالتنقيح نحو التخصيص والتقييد. اهـ. تع ابن عاشور.
النحو الرابع: إعطاءُ حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة، ولا له نظيرٌ يقاس عليه.
النحو الخامس: تلقِّي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلِقِّيَ من لم يعرف عِلَلَ أحكامها ولا حكمةَ الشريعة في تشريعها. فهو يتّهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها، ويستضعف علمه في جَنْب سَعَةِ الشريعة، فيسمَّي هذا النوع بالتعبّدي.
فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلَّها.
أمّا في النحو الرابع فاحتياجه فيه ظاهر. وهو الكفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع، والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا. وفي هذا النحو أثبت مالك، رحمه الله، حجيّة المصالح المرسلة (1). وفيه أيضاً قال الأئمة بمراعاة
(1) وتعرف عند بعض الأصوليين بالاستدلال. وذكروا أن المذاهب في قبوله واعتماده ثلاثة: ردُّه أو نفيه مطلقاً، وحصر المعنى فيما استند إلى أصل، والاقتصار على اتباع كل معنى له أصل، وهو رأي الباقِلّاني وطائفة من المتكلمين؛ وقبولُه وإن لم يستند إلى أصل، بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة وقواعد الشرع الكلية، وهو رأي الشافعي وأكثر الحنفية؛ واعتماده مطلقاً، قَرُب من موارد النص أو بعُدَ إذا لم يصدَّ عنه أصل من الأصول الثلاثة. وهو مذهب مالك. الجويني. البرهان: 2/ 1114 - 1131؛ الإسنوي. شرح المنهاج: 3/ 135. فهو أول من اعتمد المصلحة المرسلة واشتهر بها. قال الشاطبي في التنويه بذلك: بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه، ولا يناقض أصلاً من أصوله. الشاطبي. الاعتصام: 2/ 132 - 133. =
الكليات الشرعية الضرورية، وألحقوا بها الحاجيّة والتحسينيّة،
= والوجه العملي في المصالح المرسلة يقوم على اعتبار أمور ثلاثة: أحدها: الملاءمة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله. الثاني: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية. الثالث: أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين. وأيضاً مرجعها إلى حفظ الضروري من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" فهي إذن من الوسائل لا من المقاصد. ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد. الاعتصام: 2/ 129 - 133. وقد ذكر الشاطبي في هذا الكتاب أمثلة عشرة للاستدلال أو للمصالح المرسلة. انظر: 2/ 115 - 129.
وتعليقاً على مثل هذا الكلام قال الشيخ محمد الخضر حسين بهامش كتاب الموافقات في هذا الغرض: إنها مصلحة يتلقّاها العقل بالقبول، ولا يشهد لها أصل خاص من الشريعة بإلغائها أو اعتبارها، وإن مالكاً يتمسك بها على شرط التئامها بالمصالح التي تشهد بها الأصول. محمد سلام مدكور. مناهج الاجتهاد: 1/ 292.
وفيما رواه الإمام مالك في اعتبار المصلحة المرسلة والأخذ بها خلافُ الضحاك بن خليفة مع محمد بن مسلمة، وقضاء عمر فيه. انظر: 36 كتاب الأقضية، 26 باب القضاء في المرفق، ح 33. طَ: 2/ 746. وكذا قول مالك بضرب المتّهم بالسرقة حتى يقرّ إن كان ممن ثبتت عليه السرقة من قبل بالبينة. الحجوي. الفكر السامي (2): 1/ 98.
واعتبرت المالكية المصالح المرسلة من جملة المخصّصات. قال مالك في المرأة إذا كانت شريفة القدر: لا يلزمها إرضاع ولدها إن قَبِل ثديَ غيرها، لمصلحة المحافظة على جمالها جرياً على عادة العرب. حكى ذلك ابن العربي في ذيل المسألة السادسة، في تفسير قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} . الأحكام: 1/ 204.
وسَمُّوا الجميع بالمناسب، وهو مقرر في مسالك العلة من علم أصول الفقه (1). وفي هذا النحو هرع أهلُ الرأي إلى إعمال الرأي والاستحسان. فقامت في وجوههم ضجة علماء الأثر الذين اطلعوا على أدلة من الأثرِ والعملِ، فيها أحكامُ الأحوال والحوادث التي فاتت أهلَ الرأي معرفتُها، كما أنكر مالك على شُريح قولَه بعدم صحة الحُبس (2). وقامت أيضاً ضجّة العلماء الجامعين بين الأثر والنظر فيما أَلْفَوه من أقوال أهل الرأي مخالفاً لما دل عليه استقراءُ مقاصد الشريعة، كما أنكر مالك على القائلين من السلف بخيار المجلس في البيع. فقال في الموطأ:"وليس لهذا عندنا حدٌّ محدود ولا أمر معمول به [فيه] "(3). وفسّره أصحابه بأنه أراد أن المجلس
(1) انظر الرازي. الفصل الثالث في بيان علّية الوصف بالمناسبة: المحصول، 2/ 319 - 344.
(2)
هو أبو أمية شريح بن الحرث بن قيس الكندي، المعروف بشريح القاضي بالكوفة 78. ولي قضاء الكوفة أيام عمر وعثمان وعلي ومعاوية. وكان ثقة في الحديث، مأموناً في القضاء، ذا باع في الأدب والشعر. ابن العماد. الشذرات: 1/ 85؛ ابن سعد. الطبقات: 6/ 90؛ الأصفهاني أبو نعيم. الحلية: 4/ 132؛ الحجوي. الفكر السامي: 1/ 255 - 59. وقد عرف به المؤلف في كتابه بعد: 506.
والمسألة ذكرها عياض. قال: قال عبد الملك بن الماجشون: سأل رجل من أهل العراق مالكاً عن صدقة الحُبسُ، فقال: إذا حيزت مضت. فقال العراقي: إن شريحاً قال: لا حَبس عن كتاب الله. فضحك مالك، وكان قليل الضحك. وقال: يرحم الله شُريحاً لم يدرِ ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا. عياض. المدارك: 2/ 120.
(3)
انظر تعقيب مالك: 31 كتاب البيوع، 38 باب بيع الخيار، ح 79 طَ: 2/ 671. وأضاف ابن العربي في القبس أن المجلس مجهول المدة، ولو شرط الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعاً. فكيف يثبت حكم بالشرع بما =
لا ينضبط، وأنه ينافي مقصد الشريعة من انعقاد العقود.
وأما الأنحاء الثلاثة الأولى: فاحتياجه في النحو الأول منها إلى ذلك احتياجٌ مّا ليجزم بكون اللفظ منقولًا شرعاً مثلًا.
واحتياجُه إليه في النحو الثاني أشدّ، لأنّ باعث اهتدائه إلى البحث عن المعارِض، ثم إلى التنقيب على ذلك المعارض في مظانّه، يَقوى ويضعف بمقدار ما ينقدح في نفسه، وقتَ النظر في الدليل الذي بين يديه، من أنَّ ذلك الدليل غيرُ مناسب لأن يكون مقصوداً للشارع على عِلَّاته. فبمقدار تشكُّكِه في أن يكون ذلك الدليل كافياً لإثبات حكم الشرع فيما هو بصدده يشتد تنقيبُه على المعارض، وبمقدار ذلك التشكك يحصل له الاقتناع بانتهاء بحثه عن المعارض عند عدم العثور عليه. مثاله: ما في الصحيح: أن عبد الله بن عمر، لما بلغه قولُ عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:"ألمْ تَرَيْ قَومك حين بنوا الكعبة قصُرت بهم النفقة فاقتصروا عن قواعد إبراهيم فلم يدخلوا الجَدْر في البيت؟، وهو من البيت"(1) فقال ابن عمر: "لئن كانت
= لا يجوز شرطاً في الشرع
…
والحديث مجمل ولم يصحبه ما يبيّنه من عمل فوجب الرجوع فيه إلى القواعد الشرعية، وهي أن الأصل في البيوع الانضباط وطرح الغرر. ابن عاشور. كشف المغطى: 280 - 281.
(1)
أخبر بهذا الحديث عبدُ الله بن محمد بن أبي بكر عبدَ الله بن عمر عن عائشة، ونص ذلك في الصحيح: "ألم ترَيْ أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم
…
" الحديث. خَ 25 كتاب الحج، 42 باب فضل مكة وبنيانها، ح 2، ح 2/ 156. وعن يزيد عن عائشة قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجَدر أمن البيت هو؟ قال: "نعم
…
ولولا أن قومك حديثُ عَهدُهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أَدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه بالأرض". ح 3، خَ: 2/ 156.
عائشة سمعت هذا من رسول الله، ما أُرَى رسول الله ترك استلام الركنين اللذين يليان الحِجْر إلا أن البيت لم يُتمّم على قواعد إبراهيم" (1). فعلمنا من كلامه أنه كان يرى الدليل الذي بلغه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ترك استلام الركنين، حالّاً محل الحيرة من نفسه، وكان ينقدح في نفسه أن لدلالة ذلك الدليل موجباً لم يعلمه. فلماه سمع حديث عائشة أيقن أنه الموجِب وانثلج لذلك صدره.
وأيضاً يكون الاقتناع عند وجود المعارض سريعاً أو بطيئاً بمقدار قوّة الشك في أن يكون ذلك المعارض مناسباً للمقصد الشرعي أو غير مناسب. ألا ترى أن عمر بن الخطاب لما استأذن عليه أبو موسى الأشعري ثلاثاً فلم يجبه. فرجع أبو موسى فبعث عمر وراءه. فلما حضر عتَبَ عليه انصرافه. فذكر أبو موسى أنه: سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه إذا لم يؤذن للمستأذن بعد ثلاث ينصرف. فطالبه عمر بالبيّنة على ذلك وضايقه حتى جعل أبو موسى يسأل في مجلس الأنصار عمّن يشهد له بعلم بذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له مشيخة الأنصار: لا يشهد لك إلّا أصغرنا، وهو أبو سعيد الخدري (2). فلما
(1) قول ابن عمر هذا كالاستنتاج من حديث عائشة. أثبته البخاري في ذيل الحديث المتقدم وهو الثاني في الباب.
(2)
أبو سعيد الخدري هو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي. وفاته بين 65 - 74 هـ. اسْتُصْغِرَ بِأُحُدٍ واستشهد أبوه بها، وغزا هو ما بعدها. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير، وعن الأربعة، وعن زيد بن ثابت وغيرهم؛ وعنه عدد من الصحابة كابن عباس وابن عمر وجابر ومحمود بن لبيد وأبو أمامة بن سهل وأبو الطفيل. وهو من أفقه الصحابة، ومن أفضلهم، وممن بايع الرسول على أن لا تأخذه في الله لومة لائم. ابن حجر. الإصابة: 2/ 32، عدد 3196. =
شهد بذلك عند عمر اقتنع عمر، وعلم أن كثيراً من الأنصار يعلم ذلك، لأنه كان في شك قويّ أن يكون معارض أصل الاستئذان بأن يقيّد بثلاث ويرجع بعد الثلاث، لأن في ذلك بياناً للإجمال الذي في قول الله تعالى:{فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} (1).
وبعكس ذلك نجده لما تردد في أخذ الجزية من المجوس فقال له عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله يقول: "سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب"(2) قبله ولم يطلب شهادة على ذلك لضعف شكّه في
= وحديث الاستئذان رواه له البخاري. ولفظه عنده: "كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور. فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت. وقال رسول الله: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع. فقال: والله لتقيمن عليه البينة. أفيكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أُبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم. فكنت أصغر القوم فقمت معه، فأخبرت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك". 79 كتاب الاستئذان، 13 باب التسليم والاستئذان ثلاثاً خَ: 7/ 130؛ مَ: 38 كتاب الآداب، 7 باب الاستئذان، خ 33، 34. مَ: 2/ 1694 رواه مَ. وفي الباب روايات أخرى كثيرة: ودَ: 35 كتاب الآداب، 138 باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان، ح 5180، 5182. 5/ 371؛ وفي 33 كتاب الأدب، 17 باب الاستئذان، ح 3706؛ جَه: 2/ 1221 مَ: وفي 19 كتاب الاستئذان، 1 باب الاستئذان ثلاثاً، ح 2632. وفي 2/ 585.
وهي روايات متعددة مختلفة اللفظ في خصوص ما ورد بها من التعقيب على موقف عمر. وفي حديث الاستئذان هذا إشكال أورده المؤلف وأجاب عنه. ابن عاشور. كشف المغطى: 362 - 364.
(1)
النور: 28.
(2)
الحديث أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمورهم؟! فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم =
المعارض. بخلاف حاله في قضية استئذان أبى موسى.
وأَمَّا احتياجه إليه في النحو الثالث فلأنّ القياس يعتمد إثباتَ العلل، وإثباتُ العلل قد يحتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة كما في المناسبة (1)، أي: تخريج المناط، وكما في تنقيح المناط (2)،
= يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". انظر: 17 كتاب الزكاة، 24 باب جزية أهل الكتاب والمجوس، ح 42. طَ 1/ 278؛ وفي أول الباب: حديث ابن شهاب قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين. ط 1/ 278. وزاد في البخاري أن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس فارس، وأن عثمان بن عفان أخذها من البربر. خ: 57 كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة، وعن بجالة أن عمر كان لا يأخذ الجزية من المجوس حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر. ت: 19 كتاب السير، 31 باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس. الجزء الرابع: 1586 - 1588، ص 146 - 147.
(1)
المناسبة: معنى في عمل من أعمال الناس يقتضي وجوبَ ذلك العمل أو تحريمه أو الإذن فيه شرعاً. وذلك المعنى وصفٌ ظاهر منضبط يحكم العقل بأنّ ترتب الحكم الشرعي عليه مناسب لمقصد الشرع من الحكم.
ومقصد الشرع: حصولُ مصلحة أو دفع مفسدة. فالوصف مثل حكم القصاص من القاتل عدواناً. فالقصاص مناسب لمقصد الشريعة. والمقصود منه: مجازاة المعتدي بمثل ما اعتدى به، وانزجار غير المعتدي عن أن يعتدي بمثله. ومثل حكم الإسكار في شرب الخمر، فالإسكار وصف تترتب عليه مفاسد تقتضي تحريم ارتكابه.
واستخراج المجتهد للوصف المناسب يسمى تخريج المناط. اهـ. تع ابن عاشور.
(2)
وتنقيح المناط: هو إلغاء بعض الأوصاف أو الأحوال التي يشتمل عليها الفعل عن أن يكون علةً للحكم، وجعل مناط الحكم ما عدا ذلك الملغَى، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركاً له في عَبد فكان له مال يبلغُ ثمن =
وإلغاء الفارق (1). ألا ترى أنهم لمّا اشترطوا أن العلّة تكون ضابطاً
= العبد، قُوِّم عليه قيمةَ عدل فأعطي شركَاؤُه حصَصُهم، وعتق عليه العبدُ، وإلا فقد عَتق منه ما عَتق". فلفظ "عبد" يقتضي أن هذا العتق لا يجري إلا في الذكور، والإجماع على أن ذلك جارٍ في الأمة بطريق تنقيح المناط. اهـ. تع ابن عاشور.
وهذا الحديث الذي أوردَه المؤلف هنا في تعليقه، أخرجه في 47 كتاب الشركة. 5 باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل. واللفظ عنده:"من أعتق شقصاً له من عبد أو شركاً - أو قال نصيباً - وكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق، وإلا فقد عتق منه ما عتق" خَ: 3/ 111؛ وأخرجه في 47 كتاب الشركة، 14 باب الشركة في الرقيق، وهو حديث ابن عمر:"من أعتق شركاً له في مملوك وجب عليه أن يُعتِق كله إن كان له مال قدر ثمنه يقام قيمة عدل ويُعطى شركاؤُه حصتهم، ويخلّى سَبيل المعتق". خَ: 3/ 113؛ وأخرجه أيضاً في 49 كتاب العتق، 4 باب إذا أعتق عبداً بين اثنين، أو أمة بين الشركاء. وهو حديث عمرو عن سالم عن أبيه، ولفظه:"من أعتق عبداً بين اثنين، فإن كان موسراً قوِّم عليه ثم يعتق"، وحديث ابن عمر:"من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّم العبد قيمةَ عدل فأعطَى شركاءَه حصَصَهم وعَتَقَ عليه، وإلا فقد عتق منه ما عتق". خَ: 3/ 117 - 118.
وفي 20 كتاب العتق، ح 1 مَ: 2/ 1139؛ وأخرجه أيضاً في 28 كتاب الأيمان، 12 باب من أعتق شريكاً له في عبد، ح 47، 49. مَ: 2/ 1286؛ وفي دَ، 23 كتاب العتق، 6 باب فيمن روى أنه لا يستسعى، ح 3940. دَ: 4/ 256؛ وفي 13 كتاب الأحكام، 14 باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه، ح 1346. تَ: 3/ 629؛ وفي 19 باب العتق. 7 باب من أعتق شركاً له في عبد، ح 2528؛ جَـ: 2/ 844 - 845؛ وأخرجه حَم: 2/ 15.
(1)
إلغاء الفارق: طريق من طرق تنقيح المناط، كما في مثال:"من أعتق شركاً له في عبد". اهـ. تع ابن عاشور.
لحكمة كانوا قد أحالونا على استقراء وجوه الحكم الشرعية التي هي من المقاصد (1).
وبعد هذا فالفقيه محتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة في قبول الآثار من السنة، وفي الاعتبار بأقوال الصحابة والسلف من الفقهاء، وفي تصاريف الاستدلال. وقد أبى عمر من قبول خبر فاطمة ابنة قيس في نفقة المعتدة (2)، وأبت عائشة من قبول خبر ابن عمر في أن
(1) ذلك أن دلالة الاستقراء على تعليل الأحكام بالمصالح، مستفادة من نصوص الكتاب والسنة التي وردت معلّلة بالأوصاف المناسبة المشتملة على الحِكَم المقصودة للشارع من شرع الأحكام، والتي لا تخرج عن جلب المصالح ودرء المفاسد. انظر تفصيل ذلك وبيانه في: حديث المؤلف عن الطريقين: الأول طريق استقراء الأحكام المعلّلة واستقراء عللها من طرق إثبات المقاصد الشرعية، والثاني طريق استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة واحدة. المقاصد: 56 - 62.
(2)
أخرجه: 27 كتاب الطلاق، 7 باب الرخصة في ذلك، نَ: 6/ 144؛ 72 باب نفقة البائنة. نَ: 6/ 210؛ حَم: 6/ 373، 417؛ وأخرجه مَ: 18 كتاب الطلاق، 6 باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، ح 6، عن أبي إسحاق قال:"كنت مع الأسود بن يزيد جالساً في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي. فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة. ثم أخذ الأسود كفاً من حصى فحصبه به. فقال: ويلك تحدث مثل هذا! قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت". لها السكنى والنفقة. قال الله عز وجل: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} مَ: 2/ 1118 - 1119؛ وفي حديث 40 من الباب، وقال عروة: إن عائشة أنكرت ذلك على فاطمة بنت قيس، وفي الحديث 52 من الباب: قالت عائشة: ما لفاطمة بنت قيس خيرٌ في أن تذكر هذا الحديث: مَ: 2/ 1120.
وقد بيّن النووي الخلاف بين العلماء في حكم النفقة والسكنى للمطلقة =
الميت يعذب ببكاء أهله عليه (1)، وقرأت قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ
= البائن الحائل. فقال عمر بن الخطاب وأبو حنيفة وآخرون: لها السكنى والنفقة لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الطلاق: 6، وتجب عليه النفقة لأنها محبوسة عليه. وقال ابن عباس وأحمد: لا سكنى لها ولا نفقة؛ لأن السكنى والنفقة إنما تجب لامرأة لزوجها عليها الرجعة. وقال مالك والشافعي وآخرون: تجب لها السكنى ولا نفقة لها، وقالوا: لأن الذي في كتاب ربنا إنما هو إثبات السكنى. النووي. شرح مسلم: 10/ 95؛ ابن قدامة. المغني: (2) 10/ 66 - 67، المسألة 1182.
(1)
الحديث متفق عليه من رواية عمر وعبد الله بن عمر. انظر 33 كتاب الجنائز، 37 باب ما جاء في عذاب القبر، قوله صلى الله عليه وسلم:"يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"، ح 3؛ وفي 45 باب البكاء عند المريض، ح 1 خَ: 2/ 80، 85؛ وانظر: 11 كتاب الجنائز، 9 باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ح 16 مَ: 1/ 638 - 641، وانظر 15 كتاب الجنائز، 19 باب النوح، ح 3129. دَ: 3/ 494؛ وفي 8 كتاب الجنائز، 24 باب ما جاء في كراهية البكاء، ح 1002؛ وفي 25 باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت، ح 1004، تَ: 3/ 326 - 327؛ وفي كتاب الجنائز، 14 باب النهي عن البكاء على الميت، نَ: 4/ 15.
قال ابن قدامة: وأنكرت عائشة رضي الله عنها حمل هذه الأخبار على ظاهرها، ووافقها ابن عباس. قالت: يرحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله قال:"إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه". وقالت حَسْبكم القرآن: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الأنعام: 164. وقال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكى. وذكر ذلك ابن عباس لابن عمر حين روى حديثه، وحمله قوم على من كان النوح سنتَه. المغني:(2) 3/ 493 - 494.
وبإثر هذا الحديث من سنن دَ بالهامش نقلٌ مختصرٌ عن ابن القيم: قال: هذا أحد الأحاديث التي روتها عائشة واستدركتها، ووهّمت فيه ابن عمر. والصواب فيه مع ابن عمر. فإنه حفظه ولم يُتَّهم فيه. وقد رواه عن =
وِزْرَ أُخْرَى} (1).
وأما احتياجه إليه في النحو الخامس، فلأنّه بمقدار ما يستحصل من مقاصد الشريعة ويستكثر مما حصل في علمه منها، يقلّ بين يديه ذلك النحوُ الخامس الذي هو مظهرُ حيرة.
وليس كل مكلف بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة، لأن معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم. فحقّ العامي أن يتلقّى الشريعة بدون معرفة المقصد، لأنه لا يُحسن ضبطه ولا تنزيلَه. ثم يتوسع للناس في تعريفهم المقاصد بمقدار ازدياد حظهم من العلوم الشرعية، لئلا يضعوا ما يُلقَّنون من المقاصد في غير مواضعه، فيعود بعكس المراد. وحقُّ العالم فهمُ المقاصد. والعلماء - كما قلنا - في ذلك متفاوتون على قدر القرائح والفهوم.
= النبي صلى الله عليه وسلم أبوه عمر. وهو في الصحيحين. وقد وافقه من حضره من جماعة الصحابة. كما أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر قال: لما طعن عمر أغمي عليه فصيح عليه، فلما أفاق قال: أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي"، اهـ. باختصار. دَ: 3/ 495.
(1)
الأنعام: 164؛ الإسراء: 15؛ فاطر: 18.