الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ي - المساواة
ومن أول الأشياء التي تنشأ عن عموم الشريعة، ويتوقف النظرُ فيها على تحقيق معرفة عمومها ومواقع ذلك العموم وكيفيته، المساواةُ بين الأمة في تناول الشريعة أفرَادَها، وتحقيقُ مقدار اعتبار تلك المساواة ومقدار إلغائها.
ذلك أن المسلمين مستوون في الانتساب إلى الجامعة الإسلامية بحكم قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1). فمعنى الأخوة يشمل التساوي على الإجمال بجعل المسلمين سواءً في الحقوق المخوَّلة في الشريعة، بدون تفاوت فيما لا أثر للتفاوت فيه بين المسلمين من حيث إنهم مسلمون. فإذا علمنا أن المسلمين سواءٌ بأصل الخلقة واتحاد الدين تحققنا أنهم أحقاء بالتساوي في تعلق خطاب الشريعة بهم، لا يؤثر على ذلك التساوي مؤثرٌ من قوة أو ضعف، فلا تكون عزة العزيز زائدةً له من آثار التشريع، ولا ضعف الذليل حائلاً بينه وبين مساواته غيرَه في آثار التشريع.
وبناء على الأصل الأصيل، وهو أن الإسلام دين الفطرة، فكلُّ ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين المسلمين، يفرضُ فيه التساوي بينهم. وكل ما شهدت الفطرة بتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن
(1) الحجرات: 10.
فرض أحكام متساوية فيه. ويكون ذلك موكولاً إلى النظم المدنية التي تتعلق بها سياسةُ الإسلام لا تشريعه. ففي المقام الأول قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} (1)، وفي المقام الثاني قول الله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (2).
فالمساواة في التشريع للأمة ناظرةٌ إلى تساويهم في الخلقة وفروعها، ممَّا لا يؤثر التمايز فيه أثرًا في صلاح العالَم. فالناس سواء في البشرية "كلكم من آدم"(3)، وفي حقوق الحياة في هذا العالم بحسب الفطرة ولا أثَرَ لما بينهم من الاختلاف بالألوان والصور والسلائل والمواطن. فلا جرم نشأ عن هذا الاستواء فيما ذكر تساويهم في أصول التشريع، مثل حق الوجود المُعَبَّر عنه بحفظ النفس وحفظ النسب، وفي وسائل الحياة المعبَّر عنها بحفظ المال. ومن أول ذلك حقوق القرار في الأرض التي اكتسبوها أو نشأوا فيها مثل مواطن القبائل، وفي أسباب البقاء على حالة نافعة وهو المعبَّر عنه بحفظ العقل وحفظ العرض.
وأعظم ذلك حق الانتساب إلى الجامعة الدينية المعبَّر عنه بحفظ الدين. ووسائل كل ذلك ومكمَّلاته لاحقةٌ بالمُتوسَّل إليه وبالمكمَّل. فظهر تساوي الناس في نظر التشريع في الضروري
(1) النساء: 35.
(2)
الحديد: 10.
(3)
ويروى: "كلكم بنو آدم". والحديث حسن، يرويه البزار عن حذيفة. المناوي. فيض القدير: 5/ 37، 6368.
والحاجي، ولا نجد بينهم فروقاً في الضروري، وقلَّما نجد فروقاً في الحاجي، مثل سلب العبد أهلية التصرف في المال إلَّا بإذن سيده، وإنما تنشأ الفروق عند وجود موانع معتبرة تمنع اعتبار المساواة.
فالمساواة في التشريع أصلٌ لا يتخلّف إلَّا عند وجود مانع. فلا يحتاج إثباتُ التساوي في التشريع بين الأفراد أو الأصناف إلى البحث عن موجب المساواة، بل يكتفي بعدم وجود مانع من اعتبار التساوي. ولذلك صرّح علماء الأمة بأن خطاب القرآن بصيغة التذكير يشمل النساء. ولا تحتاج العباراتُ من الكتاب والسنة في إجراء أحكام الشريعة على النساء إلى تغيير الخطاب من تذكير إلى تأنيث ولا عكسَ ذلك (1).
وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا
…
" وقرأ آية النساء
…
الحديث (2)
…
وإن الأصل في
(1) أجمع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر. ومعناه أنه إذا اجتمع الجنسان استقل أفراد كل منهما بوصف فغلب المذكر وجعل الحكم له. فدل على أن المقصود هو الرجال، والنساء توابع. وكان التناول على طريقة التغليب ولا خلاف بين الأصوليين والنحاة أن جمع المذكر لا يتناول المؤنث بحال. وإنما ذهب بعض الأصوليين إلى تناوله الجنسين لأنه لما كثر اشتراك الذكور والإناث في الأحكام لم تقصر الأحكام على الذكور. واتفق الكل على أن الذكر لا يدخل تحت الخطابات إن وردت مقترنة بعلامة التأنيث. كتاب العموم، المسألة الحادية عشرة. الشوكاني. إرشاد الفحول: 112؛ الإسنوي. نهاية السول مع حواشيه: 2/ 262 وما بعدها؛ القرافي. التنقيح: 198.
(2)
تقدم: 235/ 5.
الأفعال الصادرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها مشروعة للأمة حتى يدلَّ دليل على الخصوصية.
وموانع المساواة هي العوارض التي إذا تحقّقت تقتضي إلغاءَ حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة في ذلك الإلغاء، أو لظهور مفسدة عند إجراء المساواة. وأعني بالعوارض اعتباراتٍ تلوح في أحوال معروضات المساواة، فيصير إجراءُ المساواة في أحوال تلك المعروضات غير عائد بالصلاح في بابه، ويكون الصلاح في ضدّ ذلك، أو يكون إجراء المساواة عندها - أي عند تلك العوارض - فساداً راجحاً أو خالصاً.
وليست تسميتُها بالعوارض مراداً منه أنها أمور عارضة مؤقتة، لأن هذه العوارض قد تكون دائمةً أو غالبةَ الحصول. وإنما تسميتُها بالعوارض من حيث أنها تبطل أصلاً منظوراً إليه في الشريعة نظراً أول فجعلت لأجل ذلك أموراً عارضة إذ كانت مُبطِلةً أصلاً أصيلاً، لأننا بيَّنا أن المساواة هي الأصل في التشريع.
وقاعدة اعتبار هذه الموانع واعتبار تأثيرها في منع المساواة أنَّ اعتبارها يكون بمقدار تحقّقها وبمقدار دوامها أو غلبة حصولها، وأنّ اعتبارها موانعَ للمساواة يكون في الغرض الذي من حقّها أن تمنع المساواة فيه لا مطلقاً. فالفضائل مثلاً تمنع مساواة الفاضل للمفضول في الجزاء والمنح، ولا تمنع مساواتَهما في الحقوق الأخرى.
والمرجِع في معرفة تقدير ما تمنع هذه الموانعُ التساويَ فيه هو إما المعنى الذي اقتضى المنع، وإما قواعد التقنين. فمعرفة مساواة العالِم بعلم مّا لمن ليس بعالِم به في آثار ذلك العلم ترجع إلى المعنى. وكذلك معرفةُ عدم مساواة غير المسلمين من أهل ذمّة
الإسلام للمسلمين في بعض الحقوق، مثل ولاية المناصب الدينية، ترجع إلى المعنى، لأن صلاح الاعتقاد من أصول الإسلام. فيكون اختلالُ اعتقاد غير المسلم موجباً انحطاطه في نظر الشريعة عن الكفاءة لولاية أمور المسلمين، لأن ذلك الاختلال لا ينضبط عندنا، فلا ندري مقدار ما ينجزُ للجامعة من تصرفاته إذا أُسندت إليه. ولذلك اتفق العلماء على منع ولاية غير المسلم في كثير من الولايات، واختلفوا في بعضها مثل الكتابة والحسابة (1).
(1) ذكر الونشريسي في تقييد له أن الولايات في العهود الإسلامية الأولى التي تجري فيها الأحكام على أيدي أصحابها كثيرة. وقد جعل أولاها وأهمها الولاية الكبرى أو الإمامة العظمى. ثم ذكر جملة من الولايات: ولاية الوزارة، وولاية القضاء، وولاية الشرطة، وولاية الإمارة على البلد، وولاية الإمارة على الغزو، وولاية المظالم، وولاية الحسبة، وولاية الرد، وولاية المدينة، وولاية عقود الأنكحة وفسوخها، وولاية التحكيم، وولاية السعاية، وجباية الصدقة، وولاية الخرص، وولاية صرف النفقات والقروض المقدرة لمستحقيها، وإيصال الزكاة إلى أصنافها، وقسمة الغنائم، وإيصال أموال الغائبين إليهم، وولاية القسم والكتب والترجمة والتقويم، وولاية الحَكَمين في جزاء الصيد، وولاية الحكمين في الشقاق. واستدركوا عليه ولايات أخر منها: النظر في الأحباس، وولاية أبي الموارث على حيازة مال من مات من غير وارث أصلاً أو لا يحاط بجميع ماله ليوصله إلى بيت المال، وولاية وكيل الغياب، وولاية النقابة على الأشراف والمرابطين، وولاية شيخ الجماعة على العلماء. اهـ.
وقد حصرها ابن سهل في ستة خطط تتصل سلطتها بالحكم، وهي القضاء وأجلها قضاء الجماعة، والشرطة الكبرى، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى، وولاية المظالم، وصاحب الرد، وصاحب مدينة، وصاحب سوق. الصنهاجي: 1/ 62 - 66.
ودليل كون أكثر الولايات العامة لا تسند لغير المسلم قوله تعالى: =
وأما معرفة عدم مساواة غير المسلم للمسلم في بعض الأحكام في المعاملات مثل منع مساواة غير المسلم لقريبه المسلم في إرث قريبهما المسلم باتفاق العلماء (1)، ومثل منع مساواة غير المسلم للمسلم في القصاص له من المسلم (2)، وفي قبول الشهادة على
= {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} آل عمران: 28، وقوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} آل عمران: 118. ومن السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع فلن أستعين بمشرك". وقد نهى عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري من اتخاذ الذمي كاتباً وأمره بعزله.
وقد كان المسلمون كما قال عمر بن عبد العزيز يستعينون في أمر الخراج بالعجم. وتجوزوا في بعض الولايات. واشترطوا الإسلام في وزراء التفويض لا في وزراء التنفيذ، ولم يشترطوه في الكتابة والحسابة.
والحق أن الولايات في الإسلام لا ترتبط بالأشخاص والأفراد بقدر خضوعها لسيادة الشريعة وعدالتها التي ينبغي أن يخضع لها الأفراد والجماعات، ولأن الذميين لا يخلصون النصيحة ولا يؤدون الأمانة وبعضهم أولياء بعض. انظر الخزاعي. كتاب تخريج الدلالات السمعية، باب النهي عن استعمال غير المسلمين من الكفار وغيرهم وعن الاستعانة بهم:779.
وقد حكم تعالى أن من تولاهم فإنه منهم. ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية إعزاز فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبداً، والولاية صلة فلا تجامع معاداة الكافر أبداً. ابن القيم. أحكام أهل الذمة: 1/ 242.
(1)
وذلك بمنع التوارث بين المسلم والكافر لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: "لا توارث بين أهل ملتين، ولا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". انظر 85 كتاب الفرائض، 26 باب لا يرث المسلم الكافر. خَ: 8/ 11.
(2)
وهذا لحديث: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرُدّ مشدّهُم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم. لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده". =
اختلاف بين العلماء في ذلك (1)، فترجع إلى قواعد التقنين من فروع الشريعة. وهي من نظر الفقيه في الدين.
وأما معرفة مساواة غير المسلم للمسلم في معظم الحقوق في المعاملات الثابتة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"(2)،
= انظر 15 كتاب الجهاد، 147 باب في السرية ترد على أهل العسكر، ح 2751. دَ: 3/ 183.
(1)
ولا تقبل شهادة كافر غير ذمي على مسلم مطلقاً لنفي الولاية الذي اقتضاه قول الله سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} النساء: 141. وتقبل شهادة الذمي في الوصية أو الإيصاء لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} المائدة: 106. أي من غير أهل دينكم. وبهذا قال جمع من المفسرين.
وقال جماعة من الفقهاء وهم الأحناف: ولا تقبل من أهل الأهواء ولا من كافر على مسلم إلا في الوصاية والنسب إذا ادعي حق على الميت على خصم حاضر. ويشهد لهذا حديث ابن عباس الذي يروي قصة رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء واحتكامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. الشوكاني. نيل الأوطار: 9/ 204؛ ابن عاشور. التحرير والتنوير: 8/ 79 وما بعدها؛ ملا خَسْرُو. درر الحكام في شرح غرر الأحكام: 2/ 378.
(2)
لا يقاتل الكفار حتى يُدعَوا إلى الإسلام أو تجدد لهم الدعوة لكَون دعوة البيان أهون من دعوة البنان إلا أن يكونوا مشركين أو مرتدين. فإن استجابوا كَفُّوا عنهم القتال، وإن أبوا الإجابة دعوا إلى الذمة، فإن أجابوا كُفَّ عن قتالهم: "فإن قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين
…
". الكاساني. البدائع: 7/ 100.
وهذه المقالة مأخُوذة من كلام علي رضي الله عنه؛ منها: من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا ودينه كديننا. عبد الكريم زيدان. أحكام الذميين والمستأمنين (2): 70 وما بعدها.
فتلك حاصلة من العلم بأصل المساواة بين الخاضعين لحكومة واحدة فلا يحتاج إلى التعليل. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ذلك تنبيهاً على أن ذلك الأصل مقرر ثابت. ومن موانع المساواة ما ليس في الحقيقة بمانع، ولكنه حال تعذرت فيها أسباب المساواة مثل امتناع مساواة أحد من الأمة في فضيلة أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لفوات المزية وهي مزية رؤية نور الرسول مع الإيمان به.
ثم إن العوارض المانعة من المساواة في بعض الأحكام أقسام أربعة: جبلية، وشرعية، واجتماعية، وسياسية. وكلها قد تكون دائمة أو مؤقتة، طويلة أو قصيرة.
فالجبلية والشرعية والاجتماعية تتعلق بالأخلاق، واحترام حق الغير، وبانتظام الجامعة على أحسن وجه.
والسياسية تتعلق بحفظ الحكومة الإسلامية من وصول الوهن إليها.
فالموانع الجبلية الدائمة: كمنع مساواة المرأة للرجل فيما تقصر فيه عنه بموجب أصل الخلقة، مثل إمارة الجيش والخلافة عند جميع العلماء (1)، ومثل القضاء في قول جمهور من علماء
(1) ذلك أن الذكورة شرط أساسي في الولايات العامة فلا يجوز أن يتولاها النساء. ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم وَلَّوا أَمرهم امرأة". انظر 64 كتاب المغازي، 82 باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، ح 2. خَ: 5/ 136؛ 92 كتاب الفتن، 18 باب، ح 1. خَ: 8/ 97؛ انظر 34 كتاب الفتن، 75 باب، ح 2262. تَ: 4/ 527 - 528؛ انظر 49 كتاب القضاة، 8 باب النهي عن استعمال النساء في الحكم. نَ: 8/ 227؛ حَم: 5/ 38، 43، 50، 51؛ الماوردي. الأحكام السلطانية:67.
الإسلام (1). وكمنع مساواة الرجل للمرأة في حق كفالة الأبناء الصغار (2). ويلحق بالجبلي ما هو من آثار الجبلة كمنع مساواة الرجل
(1) إذ اشترطوا فيه الذكورة لأنه من الولايات.
قال عياض في التنبيهات: وشروط القضاة التي لا يتم القضاء إلا بها، ولا تنعقد الولاية ولا يستدام عقدها إلا معها عشرة: الإسلام والعقل والذكورية والحرية والبلوغ والعدالة والعلم وكونه واحداً وسلامة حاسة السمع والبصر وسلامة اللسان. ولا يصح من المرأة لنقصها، ولأن كلامها ربما كان فتنة. وبعض النساء تكون صورتها فتنة. ابن فرحون. تبصرة الحكام: 1/ 18.
وأجاز ابن جرير الطبري تولي المرأة القضاء في جميع الأحكام. ورد ذلك الماوردي بقوله: لا عبرة بقول يرده الإجماع. الأحكام السلطانية: 130. وقال أبو حنيفة: تتولى المرأة القضاء فيما تجوز فيه شهادتها. وبين ذلك الكاساني بقوله: وأما الذكورة فليست من جواز التقليد في الجملة، لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة إلا أنها لا تقضي في الحدود والقصاص، لأنه لا شهادة لها في ذلك. وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة. الكاساني. البدائع: 7/ 3.
(2)
ذلك أن الأب إذا كان موجوداً موسراً أو قادراً على الكسب تجب عليه وحده نفقة أولاده، لقوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: 233. أما الحضانة وهي حفظ من لا يستقل بأموره وتربيته بما يصلحه ويقيه مما يضره فتقدم المرأة فيها على الرجل، لأنها أعين بها وأقدر عليها.
وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحقية الأمهات بحضانة ولدهن، يشهد لذلك حديث عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني كانت بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنت أحق به ما لم تُنكحي". ابن حجر. بلوغ المرام: 242 - 243.
وذهب الشافعي إلى أن الولد إذا ميَّز خُيّر بين أبيه وأمه، لحديث أبي هريرة: أن امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: زوجي يريد أن يذهب بابني. وقال =
للمرأة في أن زوجته تنفق عليه لما تقرر في العوائد من كون الرجل هو الكاسب للعائلة. وتلك العادة من آثار جبلة الرجل المخوِّلة إياه بالقدرة على الاكتساب ونَصَبه.
ويلحق بالجبلي أيضاً صفات مكتسبة ناشئة عن قابليةٍ وعن سعي تترك آثاراً في الخلقة لا يبلغ إلى مثلها إلَّا من اكتسب أسبابها فتفيد كمالَه في الإحساس والتفكير، مثل تفاوت العقول والمواهب في الصلاحية لإدراك المدركات الخفية. فلا مساواة بين العالم وغيره في كل عمل فيه أثر بيّن لتفاوت الإدراك، مثل التصدّي لتفهم الشريعة، والقدرة على تلقّي ما طريق تلقيه الاستنباط، والمقدرة على تعرف أحكام الشريعة في مختلف النوازل، وعلى تنزيلها في الأحوال الصالحة لها كإدراك التفرقة بين مشتبه النوازل، وإدراك حيل الخصوم، وعدالة الشهود. فلذلك كان بلوغ مرتبة الاجتهاد موجباً ترجيح صاحبه لولاية القضاء، ومانعاً من مساواته لمن هو دون مرتبته من العلماء، وكذلك القرب من مرتبة الاجتهاد بالنسبة لذي البعد عنها (1).
= الزوج: من يحاقني في ابني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا غلام هذا أبوك، وهذه أمك. فخذ بيد أيهما شئت" فأخذ بيد أمه فانطلقت به. ابن حجر، بلوغ المرام: 211، ع 985.
(1)
في هذا كلام مهم لابن شاس قال: لا تصح تولية مقلد في موضع موجود فيه عالِم. فإن تقلد فهو جائر متعدِّ لأنه قعد في مقعد غيره ولبس خلعة سواه من غير استحقاق. وقال ابن عبد السلام: ولا ينبغي أن يولى في زماننا هذا من المقلدين من ليس له قدرة على الترجيح بين الأقوال فإن ذلك غير معدوم وإن كان قليلاً. انظر كلام المازري عن رتبة الاجتهاد وأنها لانعدامها اليوم لا تقتضي منع المقلد رتبة القضاء، لما في ذلك من تعطيل للأحكام وإيقاع للهرج والفتن والنزاع
…
إلخ!. ابن شاس. الجواهر: 3/ 97. ابن فرحون. التبصرة: 1/ 18 - 19.
فحقيق بالفقهاء وولاة الأمور أن يراعوا هذه الموانع ومقاديرها وتأصَّلها، فيُعملوا آثارها في المساواة بعد تحقّق ثبوتها، ويَعلَموا ما كان منها متعلقاً تعلقاً ضعيفاً بالجبلة يقبل الزوال لحصول أضداد أسبابه، فلا ينوطوا به أحكاماً دائمة. وما كان منها خفياً حصولُه لا ينبغي مراعاته إلَّا بعد التجربة.
وأما الموانع الشرعية فهي ما كان تأثيرُها بتعيين التشريع الحق، إذ التشريع الحق لا يكون إلَّا مستَنِداً لحكمة وعلَّة معتبرة. ثم تلك الحكمةُ قد تكون جليةَ وقد تكون خفية. فالشريعة هي القدوة في تحديد هذه الموانع، وتحديد ما ينشأ عن مراعاة أصول تشريعية تَعتبر إجراءها أرجحَ من إجراء المساواة. وتُعرف هذه الأصول إمَّا بالقواعد، مثل قاعدة حفظ الأنساب في منع مساواة المرأة للرجل في إباحة تعدد الأزواج، إذ لو أبيح للمرأة لما حصل حفظُ لحاق الأنساب، ومثل قاعدة إزالة الضر، فإنها منعت مساواةَ المرأة الشريفة لغيرها من الأزواج في إلزامها بإرضاع الولد عند مالك؛ وإمّا أن تُعرف بتتبع الجزئيات المنتشرة في الشريعة مثل اعتبار شهادة المرأتين في خصوص الأموال (1).
(1) ودليل ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} البقرة: 282. وهو مذهب جمهور الشافعية والمالكية والحنابلة. فلا تقبل شهادة النساء عندهم مع الرجال إلا في الأموال وتوابعها، كالبيع والإجارة والهبة والوصية والرهن والكفالة. وهذا خلاف ما اعتمده الأحناف إذ أجازوها لهن في الحقوق المدنية كلها مالية أو غير مالية. وتقبل شهادة امرأة واحدة فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والبكارة والعيوب بالنساء. ولا تقبل شهادة النساء في الحدود عند الجمهور خلافاً لأهل الظاهر فإنها تقبل عندهم إذا كان معهن رجل =
وأما الموانع الاجتماعية فأكثرُها مبنيٌ على ما فيه صلاح المجتمع، وبعضُها يرجع إلى المعاني المعقولة، وبعضُها يرجع إلى ما تواضع عليه الناس واعتادوه فتأصّل فيهم.
مثال الأول منع مساواة الجاهل للعالِم في التصدِّي للنظر في مصالح الأمة.
ومثال الثاني منع مساواة العبيد للأحرار في قبول الشهادة.
ومعظم الموانع الاجتماعية نجده مجالاً للاجتهاد، ولا نجد فيه تحديدات شرعية إلَّا نادراً.
وأما الموانع السياسية فهي الأحوال التي تؤثر في سياسة الأمة، فتقتضي إبطالَ حكم المساواة بين أصناف أو أشخاص، أو في أحوال خاصة. كل ذلك لمصلحة من مصالح دولة الأمة. وهذا النوع من الموانع يكثر فيها اعتبار التوقيت.
فمثال الدائم منه اختصاص قريش بإمامة الأمة (1).
= وكان النساء أكثر من واحدة في كل شيء على ظاهر الآية. العبادي. الجوهرة: 2/ 290 - 291؛ الميداني. اللباب: 4/ 54؛ ابن رشد. البداية: 2/ 464.
(1)
وهو ما ذهب إليه أهل السنة اعتماداً على حديث: "الأئمة من قريش" الذي سبق تخريجه، وأخذاً بإجماع الصحابة يوم السقيفة على ذلك. انظر 169/ 2. ووجه أخذ أهل السنة بذلك - فيما يظهر - ما نبه إليه العلماء من حقائق كانت ثابتة في قريش مسلماً بها لهم. فما دامت فيهم كانوا المقدمين على غيرهم في هذا الأمر المهم.
وقد كشف عنها صاحب حجة الله البالغة في كتابه حين قال: "والسبب المقتضي لهذا أن الحق الذي أظهر الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إنما جاء بلسان =
ومثال المؤقّت منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"(1).
= قريش، وفي عاداتهم. وكان أكثر ما تعين من المقادير والحدود ما هو عندهم، وكان المعد لكثير من الأحكام ما هو فيهم. فهم أقوم به وأكثر الناس تمسكاً بذلك. وأيضاً فإن قريشاً قومُ النبي صلى الله عليه وسلم وحزبُه. ولا فخر لهم إلا بعلو دين محمد صلى الله عليه وسلم. وقد اجتمع فيهم حمية دينية وحمية نسبية. فكانوا مِظنّة القيام بالشرائع والتمسك بها. وأيضاً فإنه يجب أن يكون الخليفة ممن لا يستنكف الناس من طاعته لجلالة نسبه وحسبه، فإن من لا نسب له يراه الناس حقيراً ذليلاً، وأن يكون ممن عَرف منهم الرئاسات والشرف ومارس قومه جمع الرجال ونصب القتال، وأن يكون قومه أقوياء يحمونه وينصرونه ويبذلون دونه الأنفس. ولم تجتمع هذه الأمور إلا في قريش لا سيما بعد ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وَنُبه به أمر قريش". شاه ولي الله الدهلوي: 2/ 149.
(1)
انظر 32 كتاب الجهاد، 31 باب فتح مكة، ح 86. مَ: 3/ 1407 - 1408؛ انظر كتاب الخراج والإمارة والفيء، 24، 25 باب ما جاء في خبر مكة، 3021، 3022. دَ: 3/ 416 - 418.