الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ز - مقاصد الشريعة مرتبتان: قطعية وظنية
على الباحث في مقاصد الشريعة أن يطيل التأمل ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي. وإياه والتساهل والتسرع في ذلك، لأن تعيين مقصد شرعي كلي أو جزئي أمر تتفرع عنه أدلة وأحكام كثيرة في الاستنباط. ففي الخطإ فيه خطر عظيم.
فعليه أن لا يعيّن مقصداً شرعياً إلا بعد استقراء تصرفات الشريعة في النوع الذي يريد انتزاع المقصد الشرعي منه، وبعد اقتفاء آثار أئمة الفقه ليستضيء بأفهامهم، وما حصل لهم من ممارسة قواعد الشرع، فإن هو فعل ذلك اكتسب قوةَ استنباط يَفهم بها مقصود الشارع.
= صح ذلك عن ابن مسعود وغيره. وقول ابن مسعود يرويه ابن حزم من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، قال: قال لي عبد الله بن مسعود: إنكم من أحرى حي بالكوفة أن يموت أحدكم فلا يدع عصبة ولا رحمًا، فلا يمنعه إذا كان ذلك أن يضع ماله في الفقراء والمساكين. ومن طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق أنه قال فيمن ليس له مولى عتاقة: أنه يضع ماله حيث يشاء، فإن لم يفعل فهو في بيت المال. وقول عبيدة السلماني برواية صاحب المحلى من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عنه أنه قال: إذا مات وليس عليه عقد لأحد ولا عصبة يرثونه فإنه يوصي بماله كله حيث شاء. عبد الرزاق. المصنف: 9/ 68 - 69. ابن حزم. المحلّى: 9/ 317، 1753.
ثم هو بعد الاضطلاع بهذا العمل العظيم لا يجد الحاصل في نفسه سواءً في اليقين بتعيين مقصد الشريعة، لأن قوة الجزم بكون الشيء مقصداً شرعياً تتفاوت بمقدار فيض ينابيع الأدلة ونضوبها، وبمقدار وفرة العثور عليها واختفائها. وليس هذا التَّوَفُّر وضده بعالة على مقدار استفراغ جهد الفقيه الناظر واستكمال نشاطه، بل إن الأدلة علي ذلك متفاوتةُ الكثرة والقلة في أنواع التشريعات بحسب سعة وضيق الزمان الذي عرض في وقت التشريع، وبحسب كثرة وقلة الأحوال التي عرضت للأمة في وقت التشريع. ألا ترى أن مسائل العبادات والآداب الشرعية أكثرُ أدلةً وآثاراً عن الشارع من مسائل المعاملات والنوازل؟ إذ كان معظم التشريع قبل الهجرة مقصوراً على النوعين الأولين دون الثالث، لأن جهل الأمة في مبدأ أمرها بمعرفة الله ورسله واليوم الآخر والعبادات كان أعرق وأشد من جهلهم بطرائق الإنصاف في المعاملة.
وعلى هذا فالحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية قد يكون علماً قطعياً أو قريباً من القطعي، وقد يكون ظناً. ولا يعتبر ما حصل للناظر من ظن ضعيف أو دونه، فإن لم يحصل له من عمله سوى هذا الضعيف فليفرضه فرضاً مجرداً ليكون تهيئة لناظر يأتي بعده، كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال:"فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"(1).
(1) الحديث طويل، ورد بصيغ مختلفة متقاربة. انظر 3 كتاب العلم، 9 باب قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"رب مبلغ أوعى من سامع، ليبلغ الشاهد منكم الغائب، عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه". خَ: 1/ 24 - 25؛ 25 كتاب الحج، 132 باب الخطبة أيام منى، ح 3. خَ: 2/ 191؛ 73 كتاب الأضاحي، 5 باب من قال: الأضحى يوم النحر. خَ: 6/ 235 - 236؛ 93 كتاب الفتن، 8 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفاراً"، ح 3. =
وإن أعظم ما يهم المتفقهين إيجادُ ثلةٍ من المقاصد القطعية، ليجعلوها أصلاً يصار إليه في الفقه والجدل. وقد حاول بعضُ النظار من علماء أصول الفقه أن يجعلوا أصولاً للفقه قطعية، فطفحت بذلك كلمات منهم، لكنهم ارتبكوا في تعيين طريقة ذلك. وأحسب أن أول من حاول ذلك إمام الحرمين في كتاب البرهان. فإنه قال في تفسير أصول الفقه:"إنها القواطع في عرف الأصولين"(1). ولا شك أنه يعني بها القواطع من الأدلة السمعية؛ إذ لا سبيل إلى تحصيل القواطع العقلية إلّا في أصول الدين. ثم قال "وأقسامها: نص
= خَ: 8/ 91؛ 97 كتاب التوحيد، 24 باب قول الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} القيامة: 22 - 23 الحديث آخر الباب. خَ: 8/ 185 - 186؛ 28 كتاب القسامة، 9 باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، ح 29، 30. مَ: 2/ 1305 - 1306.
وهو عند أبي داود بلفظ: "نضَّر الله امرأً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلِّغَه، فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه"، وفي روايات أخرى:"ورُب حامل فقه ولا فقه له". انظر 19 كتاب العلم، 10 باب نشر العلم 3660. دَ: 4/ 68 - 69؛ انظر 39 كتاب العلم، 7 باب الحث على تبليغ السماع، ح 2656 - 2658. تَ: 5/ 33 - 35؛ انظر المقدمة، 18 باب من بلغ علماً، 230، 231، 234، 236. جَه: 1/ 84 - 86؛ 25 كتاب المناسك، 76 باب الخطبة يوم النحر 3056. جَه: 2/ 1015؛ انظر المقدمة، 24 باب الاقتداء بالعلماء، ح 233 - 235. دَي: 1/ 65 - 66؛ 5 كتاب المناسك، 72 باب في الخطبة يوم النحر، 1922. دَي: 2/ 393 - 394؛ حَم: 1/ 437؛ 3/ 225؛ 4/ 82؛ 5/ 183.
(1)
يوضح هذا حكاية إمام الحرمين رأي المحققين: أن أخبار الآحاد وأقيسة الفقه لا توجب عملاً لذواتها، وإنما يجب العمل بما يجب به العمل بالعمل، وهي الأدلة القاطعة على وجوب العمل عند رواية أخبار الآحاد وإجراء الأقيسة. الجويني. البرهان: 1/ 84، 85، ف 4.
الكتاب، ونص السنة [المتواترة]، والإجماع" (1).
قال المازري في شرحه على البرهان: "قيّد في الدليلين الأولين ولم يقيد في الإجماع لأمرين:
أحدهما: أن يكون جعل الألف واللام في الإجماع للعهد، يعني الإجماع الذي هو حجة (أي قاطعة).
الثاني: أن الشروط المعتبرة في كون الإجماع حجة كثيرة، لا يمكن ضبطها إلّا بتفريع المسائل وتمهيد الأبواب (2) ".
ثم قال إمام الحرمين: "فإن قيل: تفصيل أخبار الآحاد والأقيسة لا يُلْفَى إلّا في أصول الفقه وليست قواطع. قلنا: حظ الأصولي إبانة القاطع في وجوب العمل بها، ولكن لا بد من ذكرها ليتبين المدلول ويرتبطَ الدليل به"(3).
فجعل حظ القطعيّ من هذه الأمور الظنّية هو القطع، باعتبارها أدلة شرعية يجب العمل بها على الجملة، لا في تفصيل جزئياتها.
وفي شرح شهاب الدين القرافي على المحصول - في المسألة الأولى من مسائل اللفظ في باب الأوامر-: "قال [الأبياري] في شرح البرهان: مسائل الأصول قطعيّة، ولا يكفي فيها الظن، ومُدركها قطعيّ، ولكنه ليس المسطور في الكتب، بل معنى قول العلماء: "إنها قطعيّة" أن من كثر استقراؤه واطلاعه على أقضية الصحابة [رضوان الله عليهم و] مناظراتهم وفتاواهم وموارد النصوص الشرعية ومصادرها،
(1) الجويني. البرهان: 1/ 85، ف 5.
(2)
انظر أعلاه: 11/ 1.
(3)
الجويني. البرهان: 1/ 86، ف 66.
حصل له القطع بقواعد الأصول. ومتى قصر عن ذلك، لا يحصل له إلّا الظن. وإنما وضع العلماء هذه الظواهر في كتبهم ليبيّنوا أصل المدرك لا [أنها] مدرك القطع، فلا تنافي بين كون هذه المسائل قطعية وبين كون هذه النصوص لا تفيد إلّا الظن" (1) اهـ.
وأبو إسحاق الشاطبي حاول في المقدمة الأولى من كتابه عنوان التعريف طريقةً أخرى لإثبات كون أصول الفقه قطعية. وهي طريقة لا يوصل منها إلّا قوله: "الدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي (أي: لو تحققنا رجوع شيء معين إلى تلك الكليات). وأعني بالكليات: الضروريات والحاجيات والتحسينيات"(2).
ثم ذهب يستدل على ذلك بمقدمات خطابية وسفسطائية، أكثرُها مدخول ومخلوط غير منخول.
وقد تقدمت الإشارةُ إلى كلامهم في صدر هذا الكتاب. وذلك حاصلُ ما لسلفنا في هذا الغرض (3). وإنما قصدت منه التنوّرَ بأضواء أفهامهم، لتعلم إمكان استخلاص قواعد تحصل بالقطع أو بالظن القريب من القطع ولو كانت قليلة.
على أننا غير ملتزمين للقطع وما يقرب منه في التشريع، إذ هو منوط بالظن. وإنما أردت أن تكون ثُلةٌ من القواعد القطعية ملجأً نلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة، وأن ما يحصل من تلك القواعد
(1) تقدم في 20/ 1.
(2)
صدر المقدمة الأولى. الموافقات: (1) 1/ 9 = (2) 1/ 10 - 11 = (3) 1/ 29 - 30 = (4) 2/ 17.
(3)
انظر أعلاه: 9 - 18.
هو ما نسميه علم مقاصد الشريعة، وليس ذلك بعلم أصول الفقه.
فأما المقاصد الظنية فتحصيلها سهل من استقراءٍ غيرِ كبير لتصرّفات الشريعة، لأن ذلك الاستقراء يكسبنا علماً باصطلاح الشارع وما يراعيه في التشريع. قال عز الدين بن عبد السلام في قواعده الفقهية - في مبحث ما خالف القياس من المعاوضات - بعد ذكر المثال الحادي والعشرين:"إن من عاشر إنساناً من الفضلاء الحكماء العقلاء، وفهم ما يُؤثره ويكرهه في كل وِرد وصَدْر، ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قولَه فيها، فإنه يعرف بمجموع ما عَهِده من طريقته وأَلِفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة"(1).
مثال المقاصد الشرعية القطعيّة: ما يؤخذ من متكرّر أدلة القرآن تكرراً ينفي احتمال قصد المجاز والمبالغة، نحو كون مقصد الشارع التيسير. فقد قال الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2). فهذا التأكيد الحاصل بقوله: {وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} عقب قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر} قد جعل دلالة الآية قريبة من النصّ. ويضمّ إليه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3)، وقوله:{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (4)، وقوله:{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (5)،
(1) ابن عبد السلام. القواعد: 2/ 189.
(2)
البقرة: 185.
(3)
الحج: 78.
(4)
البقرة: 286.
(5)
البقرة: 286.
وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (1)، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} (2). وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة"(3)، وقوله:"عليكم من الأعمال ما تطيقون"(4)، وقوله:"إن هذا الدين يسر وليس بالعسر"(5)، وقوله لمعاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن:"يسّرا ولا تعسّرا"(6)،
(1) البقرة: 187.
(2)
النساء: 38.
(3)
أصل الحديث: "لتعلم اليهود أن في ديننا فسحة، وإنّي أرسلت بالحنيفية السمحة". أخرجه أحمد من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عائشة في حديث الحبشة ولعبهم. حَم: 6/ 116، 233. وهو حديث حسن. السخاوي. المقاصد الحسنة: 109/ 214.
(4)
انظر 2 كتاب الإيمان، 32 باب أحب الدين إلى الله أدومه. خَ: 1/ 16؛ وانظر: 6 كتاب صلاة المسافرين، 30 باب فضيلة العمل الدائم، ح 215. مَ: 1/ 540؛ 31 باب أمر من نعس في صلاته، ح 221. مَ: 1/ 542. وتمامه: "فإن الله لا يملّ حتى تملّوا". الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين. وقال الهيثمي: إسناده حسن. وورد بألفاظ أخرى عند خَ، مَ، تَ، جَه، نَ، حَم. المناوي. فيض القدير: 4/ 354، ع 5885.
(5)
لم أقف على صيغة هذا الحديث وإنّما على صيغة قريبة منها وبمعناها. فمن ذلك: "إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة". انظر 2 كتاب الإيمان، 29 باب الدين يسر. خَ: 1/ 15؛ انظر 47 كتاب الإيمان، 28 باب الدين يسر. نَ: 8/ 121 - 122.
(6)
هو حديث ابن أبي بردة ومعاذ. ورد بصيغ مختلفة متقاربة. انظر 56 كتاب الجهاد، 164 باب ما يكره من التنازع. خَ: 4/ 26؛ 78 كتاب الأدب، 80 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يسروا ولا تعسروا". خَ: 7/ 101؛ 93 كتاب الأحكام، 22 باب أمر الوالي إذا وجه أميرين إلى موضع. خَ: 8/ 114؛ =
وقوله: "إنما بعثتم ميسِّرين"(1).
فمثل هذا الاستقراء يخول للباحث عن مقاصد الشريعة أن يقول: إن [من] مقاصد الشريعة: التيسير، لأن الأدلة المستقراة في ذلك كله عمومات متكررة، وكلها قطعية النسبة إلى الشارع، لأنها من القرآن، وهو قطعي المتن.
ومثال المقاصد الظنية القريبة من القطعي ما قال الشاطبي في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة: "الدليل الظني إما أن يرجع إلى أصل قطعي
…
مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار"(2)، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع جزئيات، وقواعد كليات، كقوله تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} (3)، وقوله:{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (4)، وقوله:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (5).
= انظر 32 كتاب الجهاد، 3 باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير. مَ: 2/ 1358؛ 36 كتاب الأشربة، 7 باب بيان أن كل مسكر خمر وكل خمر حرام، ح 70، 71. مَ: 2/ 1586 - 1587.
(1)
حديث أبي هريرة. انظر 78 كتاب الأدب، 80 باب يسروا ولا تعسروا. ذيل الحديث الخامس. خَ: 7/ 102.
(2)
انظر: 2/ 24.
(3)
البقرة: 231.
(4)
الطلاق: 6.
(5)
البقرة: 233. والفرق بين التمثيل بالتيسير للقطعي وبرفع الضرر للظني أن أدلة الأول قطعية، ودليل الثاني ظني وافق أدلة قطعيّة. ولا التفات في هذا إلى تقارب المعنى أو الغرض التشريعي في المثالين. فلينتبه.
ومنها النهي عن التعدّي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغضب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار وضِرار. ويدخل تحته الجنايةُ على النفس أو العقل أو النسل أو المال، فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك" (1) اهـ.
فإن الأدلة المذكورة في كلام الشاطبي - وإن كانت كثيرة إلّا أنها - أدلةٌ جزئيّة. والدليل العام منها وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" هو خبر آحاد وليس بقطعيّ النقل عن الشارع، لأن السنة غير المتواترة ليست قطعيّة المتن. وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا في مبحث "طرق إثبات المقاصد الشرعية"(2) من كتابنا هذا.
واعلم أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتةٌ بحسب تفاوت الاستقراء المستند إلى مقدار ما بين يدي الناظر من الأدلة، وبحسب خفاء الدلالة وقوتها. فإن دلالة تحريم الخمر على كون مقصد الشريعة حفظَ العقول عن الفساد العارض دلالةٌ واضحة. ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حدِّ الإسكار.
وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سدُّ ذريعة إفساد العقل، حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريم القليل من الخمر، وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار، فتلك دلالةٌ خفية. ولذلك اختلف العلماء في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر، وفي مساواة تحريم شرب قليل الخمر. فمن غلب ظنه بذلك سوّى بينهما
(1) الشاطبي. الموافقات: (1) 3/ 7 = (2) 3/ 7 - 8 = (3) 3/ 16 - 17 = (4) 3/ 184.
(2)
انظر أعلاه: 52 - 65.
في التحريم وإقامة الحد والتجريح به؛ ومن جعل بينهما فرقاً، لم يسوِّ بينهما في تلك الأمور.
على أن لاحتمال قيام المعارضات لشواهد استقراء الفقيه أثراً بيَّناً في مقدار قوّة ظنّه وضعفه، كما تقرّر في علم الحكمة (1). فإن صاحب هذا المقام تلوح له عند النظر شواهد الأدلة بيّنة لا يشذّ عليه منها شيء، أو إلا شيئاً قليلاً. فإن قصُر الاستقراء وامتد احتمال المعارض ضعف الظنُّ بالمقصد الشرعي.
(1) تقرر في علم الحكمة أن أبعد العلوم عن الشك وأقربها إلى اليقين العلم الذي لا تتعارض فيه الأنظمة والنواميس، مثل علم الحساب؛ ثم [الـ]ـعلم الرياضي، لقلة الاحتمالات المخالفة فيه؛ ثم علم الطبيعة، لأن الباحث فيه وإن وجد القضية العلمية وهي الناموس الطبيعي فهو لا يجزم بانتفاء ناموس، آخر يعاكس ذلك الناموس، ثم علم الفلسفة والنفس. اهـ. تع ابن عاشور.