الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
و - آصرة النسب والقرابة
تبتدئ آصرة القرابة بنسبة البنوّة والأبوّة، [فعن اتصال الذكر بالأنثى نشأ النسل](1) ولكن النسل المعتبر شرعاً هو الناشئ عن اتصال الزوجين بواسطة عقدة النكاح المتقدمة المنتفي عنها الشك في النسب. واستقراء مقصد الشريعة في النسب أفادنا أنها تقصد إلى نسب لا شك فيه ولا محيد به عن طريقة النكاح بصفاته التي قررناها. فأما ما كان قبل الإِسلام من الأنساب المعتبرة في اصطلاحهم الناشئة من بغاء أو استبضاع أو نحوهما مما عدا النكاح فقد أقرته الشريعة اعتماداً على ثقة أهل الجاهلية به، لأن الثقة بالنسل قبل تحديد قواعد النكاح في الإسلام موكولةٌ إلى ما في الجبِلّة من إباية الناس التحاقَ من ليس من نسبهم بهم. فأصناف المقارنة الواقعة في الجاهلية قد اختلط نادرها بغالب الأنساب الصحيحة، وقد وثق أهلها بالأنساب الملحقة بهم من جرائها. وفي التنقيب عنها وتمحيصها تعذر أو تعسر لا يحسن الاشتغال به وإحداث فتنة فيه، ولأنه يصير ذريعة إلى طعن بعض الناس في أنساب بعضِ التي نشأت في حالة قلة ضبط فلم تهتم الشريعة إلَّا بإبطال الكيفيات التي من شأنها تطرق الشك إليها حتى لا يعود إليها الناس في الإسلام.
وأُلحِق التسرِّي بالنكاح في صحّة النسب الناشئ عنه، لأن
(1) الإضافة من ط. الاستقامة: 172. وقد تولى المؤلف الضرب عليها.
السيد إذا اتخذ أمته سُرِّيّة له حاطها من حراسته بأقوى مما يحوط به إماء الخِدمة بدافع مركب من الجبلة والعادة. فإذا صارت أمَّ ولد له صارت لها أحكام خاصة.
ولم ترخّص الشريعة في أن يتزوّج الحر الأمة إذا كان يجد طَوْلاً ولم يخش عنتاً، لما في اجتماع سيادتين على المرأة من شبه تعدد الرجال للمرأة الواحدة، لأن سيادة سيد الأمة تثلم تَحققَ حصانتها. ورخصت للعبد أن يتزوج الأمة إذ لا ترضى الحرائر في الغالب بتزوج العبد. ورخصت للحر أن يتزوج الأمة إن خشي العنت ولم يجد طَوْلاً لأجل ضرورة.
ولا شك عندي في أن حفظ النسب الراجع إلى صدق انتساب النسل إلى أصله سائقٌ النسلَ إلى البر بأصله، والأصلَ إلى الرأفة والحنو على نسله سوقاً جبلياً، وليس أمراً وهمياً. فحرص الشريعة على حفظ النسب وتحقيقه، ورفع الشك عنه، نظر إلى معنى عظيم نفساني من أسرار التكوين الإلهي، علاوة على ما في ظاهره من إقرار نظام العائلة، ودرء أسباب الخصومات الناشئة عن المغيرة المجبولة عليها النفوس، وعن تطرق الشك من الأصول في انتساب النسل إليها والعكس. وأُلحقت آصرةُ الرضاع بآصرة النسب بتنزيل المرضعة منزلة الأم، وتنزيل الرضيع منزلة الأخ بقوله تعالى في عد المحرّم تزويجه:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1) وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"(2).
ثم نشأ عن قداسة آصرة القرابة إكساؤها إهاب الحرمة والوقار.
(1) النساء: 23.
(2)
تقدم تخريجه: 1/ 169.
فقررت الشريعة معنى المحرمية بالنسب، وهو تحريم الأصول والفروع في النكاح، حتى تكون القرابة التامة مرموقة بعين ملؤها عظمة ووقار وحب بجلال لا يخالطه شيء من معنى اللهو والشهوة. فلأجل ذلك حرم نكاح القرابة المنصوص عليها.
وحكمة تحريم ما حرم تزوجُّه مختلفة بحسب اختلاف أنواع المحرّمات.
فأما المحرمات بالنسب فقال الفخر في تفسيره: "ذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم أن الوطء إذلال وإهانة، فإن الإنسان يستحيي من ذكره. فوجب صون الأمهات عنه"(1). وكذلك القول في البقية.
أقول: وتحرير ذلك، حيث كان معظم القصد من النكاح الاستمتاع كانت مخالطة الزوجين غير خالية من نبذ الحياء. وذلك ينافي ما تقتضيه القرابة من الوقار لأحد الجانبين والاحتشام لكليهما. وذلك ظاهر في أصول الشخص وفروعه وفي صنوان أصوله من عمة أو خالة. وأما صنوان الشخص وهم الإخوة والأخوات فلقصد إيجاد معنى الوقار بينهما.
أما محرّمات الصهر فبعضها إلحاق بالنسب مثل أم الزوجة فإنها
(1) تمام ما جاء في التفسير الكبير: ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي. وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره. وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم على الولد أعظم وجوه الإنعام. فوجب صرفها عن هذا الإذلال، والبنت بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه. قال عليه الصلاة والسلام:"فاطمة بضعة مني" فيجب صونها عن هذا الإذلال لأن المباشرة معها تجري مجرى الإذلال. الرازي: 10/ 27.
حرام ولو كانت ابنتها ميِّتة (1)، والربيبة التي دخل بأمها.
وبعضها لدفع ما يعرض من شقاق يفضي إلى قطع الرحم بين من قَصَدت الشريعة قوةَ الصلة فيه. ولهذا لا يجمع بين الأختين، والمرأة مع عمتها أو خالتها (2).
وأما المحرّمات للرضاع فلأن آصرة الرضاع نزلت منزلة النسب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"(3).
وأما المحرّمات لأجل حقّ الغير فأمرهن ظاهر. ومنها إدخال الأمَة على الحرة على أحد القولين في مذهب مالك أن منعه لما فيه من الضرر للحرة.
وأما الملاعنة فلأن ما جرى بين الزوجين من الملاعنة يتعذّر بعده حسن المعاشرة بينهما.
وأما عدم الدين السماوي: فلأن التجافي بين الاعتقادين واسعُ البون بين دين الإِسلام والأديان غير الإلهية، بخلاف الأديان الإلهية.
ومنها ما هو حقّ الله، مثل المطلَّقة ثلاثاً على من طلّقها إذا لم يدخل بها زوج بعد طلاق الثلاث، والمملوكة والمسترقة للذي يجد طَوْلاً.
(1) بالأصل: مثل أم الزوجين فإنها حرام ولو كان ابنها ميتاً. وهو خطأ مطبعي.
(2)
والتحريم للعمات والخالات بسبب سريان الوقار إليهما. وكيف تلاحق الحرمة بنات الإخوة وبنات الأخوات وهن فروع ولا يثبت هذا للأصول. لذلك سرى وقار الآباء إلى أخواتهم وهن العمات، ووقار الأمهات إلى أخواتهن وهن الخالات. ويرجع تحريم هؤلاء إلى قاعدة المروءة التابعة لكلية حفظ العرض من قسم المناسب الضروري. انظر: محمَّد الطاهر ابن عاشور. التحرير والتنوير: 4/ 295 - 296.
(3)
تقدم تخريجه: 169/ 1، 437/ 2.
ومنها إدخال الأَمَة على الحرّة عند أبي حنيفة (1)، واحد القولين عن مالك (2).
وإذ كانت المرأة هي قرارة النسل لم تُبِحْ الشريعة تعدُّدَ الأزواج للمرأة، وأباحت تعدد الزوجات للرجل إلى حد معين. وأباحت للرجل التسرِّي ولم تبحه للمرأة. أما المرأة ذات الزوج فلنفس العلة
(1) الأصل في هذا بلاغ مالك عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عُمر، وروايته عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تنكح الأمةُ على الحرّة إلا أن تشاء الحرّة. فإن طاعت الحرّة فلها الثلثان من القَسْم". انظر 28 كتاب النكاح، 12 باب نكاح الأمة على الحرة، ح 28، 29. طَ: 2/ 536.
(2)
لا يجوز تزوج الأمة على الحرّة، سواء كان الزوج حراً أو عبداً، لقوله عليه السلام:"لا تنكح الأمة على الحرّة". وهذا مذهب أبي حنيفة. وعند الدارقطني في سننه في الطلاق بلفظ: "طلاق العبد اثنتان، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وتتزوج الحرّة على الأمة ولا تتزوج الأمة على الحرّة". وفي سنده مظاهر بن أسلم وهو ضعيف. وروى الطبراني في تفسير سورة النساء بإسناده: "نهى رسول الله أن تنكح الأمة على الحرة، قال: وتنكح الحرة على الأمة، ومن له طَوْلُ الحرة فلا ينكح أمة". ورواه عبد الرزاق مقصوراً على نكاح الأمة. أحمد شلبي. حاشية على شرح الزيلعي: 2/ 112.
وقال الشافعي: يجوز تزوج العبد بأمة على الحرّة على أن طَوْلَ الحرّة لا يمنع من التزوج بالأمة. ومذهب مالك جوازه إن رضيت بذلك الحرّة لأن المنع كان بموجب احترام الحرّة. فلا يلحقها زيادة غضاضة بإدخال الأمة عليها. فكان المنع لحقها فيرتفع برضاها. وتزوج الأمة على الحرّة والحرّة في العدة لا يجوز عند أبي حنيفة. وقال الصاحبان: يجوز إذا كانت العدة من طلاق بائن، لأن هذا ليس يتزوج عليها وهو المحرم. الزيلعي. تبيين الحقائق: 2/ 112.
التي لم تُبحْ بها تعدد الأزواج للمرأة الواحدة، وأما غير ذات الزوج فللعلة التي منعت بها تزوجَ الحر الأمة إذا وجد طَوْلاً أو لم يخش العنت كما قدمنا، وهي أن عبد المرأة لا يغار على نسبه منها.
وفي قواعد حفظ النسب في الأحوال التي مضت في الجاهلية، وفي التحديدات التي جاء بها الإِسلام نظرةٌ عظيمة إلى حفظ حقوق النسل عن تعريضها للإضاعة والتلاشي وفساد النشأة التي لا تصاحبها الرعاية.
ومن مُتمِّمات تقوية آصرة القرابة أحكامُ النفقة على الأبناء والآباء باتفاق، وعلى الأجداد والأحفاد عند بعض الأئمة (1)، وجعلُ
(1) يجب الإنفاق على الأبناء لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: 233. وذكر القرطبي وجوب نفقة الولد على الوالد، لضعفه وعجزه. وإجماع العلماء على أن المرء مطالب بنفقة ولده الأطفال الذين لا مال لهم. الجامع لأحكام القرآن: 3/ 163.
وتجب ولو مع اختلاف الدين للآية، ولأن الولد جزؤه، ونفقة الجزء لا تمتنع بالكفر كنفقة نفسه. الزيلعي: 3/ 63.
فتجب النفقة على الأب الحرّ فيما فضل عن قوته وقوت زوجته على ولده الحرّ الذكر المعسر حتى يبلغ قادراً على الكسب، وعلى ابنته الحرّة المعسرة حتى تتزوج ويدخل بها زوجها، أو يدعى للدخول وهي مطيقة. محمَّد الشيباني. تبيين المسالك: 3/ 244.
وقال الشافعي: تجب على الأصول الموسرين وإن علوا نفقة الأولاد وإن سفلوا لفقر وصغر، أو فقر وزمانة، أو فقر وجنون. الشربيني. الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: 2/ 140.
والإنفاق على الأبوين والأجداد والجدات الفقراء واجب على الموسرين من الأولاد عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد: انظر 434.
وفي الهداية: وليس من الإحسان ولا من المعروف أن يعيش المرء في =
القرابة سببَ ميراث على الجملة (1). والأمرُ ببر الأبوين وبصلة الأقارب وذوي الأرحام مما لا يعرف نظيره في الشرائع السالفة. والترخيص في أن يطعم المرء في بيت قرابته دون دعوة ولا إذن، قال
= نعم الله تعالى ويتركهما يموتان جوعاً. وأما الأجداد والجدات فكالأبوين يقومان مقامهما في الإرث، ولأنهم تسببوا لإحيائه فاستوجبوا عليه الإحياء كالأبوين. العيني. البناية شرح الهداية: 4/ 906.
ولا يجب لجد أو لجدة عند مالك. والأصل فيه قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} النساء: 36، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الإسراء: 23، وقوله عز وجل:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} العنكبوت: 8، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه". حديث عائشة انظر 44 كتاب البيوع، 1 باب الحث على الكسب. نَ: 7/ 240، 241. انظر 12 كتاب التجارات، 1 باب الحث على المكاسب، ح 2137. جَه: 2/ 723؛ وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أنت ومالك لأبيك"، و"إن أولادكم من أطيب ما كسبتم. فكلوا من أموالهم"؛ انظر 12 كتاب التجارات، 64 باب ما للرجل من مال ولده، ح 2292. جَه: 2/ 769. وحديث جابر بن عبد الله: أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي، فقال: "أنت ومالك لأبيك". انظر 12 كتاب التجارات، 64 باب ما للرجل من مال ولده، ح 2291. جَه: 2/ 769؛ انظر 18 كتاب البيوع، 6 باب في الكسب وعمل الرجل بيده، ح 2540. دَي: 2/ 560 - 561؛ حَم: 6/ 31، 42، 127، 193، 220.
(1)
يجب على القرابة الموسرين الإنفاق على المعسرين منهم. والمراد من القرابة عند أبي حنيفة: كل ذي رحم محرم. فيدخل في ذلك الإخوة والأعمام والخالات وغيرهم ممن يحرم بالقرابة. وهي عند أحمد: كل من يرث بفرض أو بعصوبة، ويدخل في ذلك أبناء الأعمام. المرغيناني. الهداية: 2/ 47؛ ابن قدامة. المغني: (1) 7/ 582 - 584 = (2) 11/ 372 - 374.
تعالى: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} (1) الآية.
ومن ذلك حكم إبداء الزينة في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (2) الآية، فعدّ آباء البعولة وأبناء البعولة والإخوان وبني الإخوان وبني الأخوات. ويقاس عليه بالمساواة الأنثى من هذه المراتب كلها مثل أم الزوجة بالنسبة إلى زوج ابنتها وبنت الأخ بالنسبة إلى عمها.
ومن حقوق آصرة النسب الميراث وسنتكلم عليه (3).
(1) النور: 61.
(2)
النور: 31.
(3)
انظر بعد: 473.