الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: مفهوم الفلسفة في العصر الوسيط
المبحث الأول: مفهومها لدى فلاسفة الغرب المسيحيين، وفلاسفة العرب المسلمين
1-
مفهوم الفلسفة لدى فلاسفة الغرب المسيحيين:
استمر المفهوم اليوناني القديم للفلسفة كرغبة في التماس الحقيقة لذاتها لدى بعض مفكري العصور الوسطى، الذين فرقوا بين العلم الذي يهتدي إليه العقل بالنظر، وبين المعرفة التي ينزل بها الوحي الإلهي. وصار الطابع المميز للفلسفة آنئذ هو محاولة التوفيق بين العقل والدين الجديد1، وإثبات أن الحقائق الموحى بها من الله ليست إلا تعبيرا عن العقل.
أثرت العلاقات بين الدولة والكنيسة على مفهوم الفلسفة في تلك المرحلة. ومن النظريات الهامة التي كانت سائدة، تلك التي وضعها البابا جلاسيوس الأول في أواخر القرن الخامس، والتي عرفت بنظرية السيفين أو السلطتين، وظلت تتمتع بالقبول خلال العصور الوسطى وخاصة بدايتها.
فحوى هذه النظرية هو القول بوجود ازدواج في تنظيم الجماعة الإنسانية، فشئون الروح والخلاص الأبدي من اختصاصات الكنيسة ويقوم بها القسس، بينما تقوم الحكومة المدنية عن طريق موظفيها بتسيير الشئون الدنيوية كالمحافظة
1 George H. Sabine، A History of Political Theory، OP. cit، PP. 194، 225-227، 247-249.
على السلام والنظام والعدالة. افترضت النظرية قيام علاقة تعاون بين السلطتين، وإن كان قد اكتنفها بعض الغموض حول حدود كل منهما.
عبرت نظرية السيفين عن تعاليم عصر آباء الكنيسة الذي شغل حوالي خمسة قرون من العصر الوسيط. ويدور جوهر تلك التعاليم -كما أوضحنا- حول التمييز بين الشئون الروحية، والشئون الدنيوية أي: بين متطلبات كل من الروح والجسد.
فالإرادة الإلهية هي التي قضت -وفقا لتلك النظرية- على المجتمع الإنساني بأن يخضع لسلطتين روحية وزمنية، يدير الأولى رجال الدين والثانية رجال الدنيا، على أن تخضع إدارة كل منهما للقانون السماوي والقانون الطبيعي. غير أنه لم يكن هناك في البداية فصل تام بين الكنيسة والدولة بالمعنى الحديث لهذين المصطلحين وإنما مجتمع مسيحي واحد بالصورة التي أشار إليها القديس أوجستين في كتابه مدينة الله. لهذا فإنه عندما شبَّ النزاع بين السلطتين اتسم في مراحله الأولى بكونه خلافا بين فئتين من الرسميين، لكل منهما سلطة أصلية تزعم أنها تعمل في حدودها. وقد تناول الصراع بينهما مجالات اختصاص متعددة مثل قسم الملك لليمين وتنصيب الحكام وخلعهم أحيانا، ثم مدى سلطة الحكام الزمنيين في تنصيب الأساقفة وكبار رجال الدين، ومحاكمة هؤلاء عند الإخلال بواجباتهم الروحية.
تحتل كتابات توماس أكويناس "1225-1274" وهو راهب من الرهبان الدومينيكان، مركزا هاما من ذلك الصراع؛ نظرا لانحيازه إلى البابوية كما بحث في العلاقة بين الفلسفة والمسيحية.
كانت الكنيسة الكاثوليكية تميل في البداية إلى تحريم مؤلفات أرسطو على أساس أنها بدعة، وقد وجدت تلك المؤلفات طريقها إلى أوروبا عن طريق المصادر العربية والمترجمين اليهود من الأندلس. وفعلا حرمت الكنيسة قراءة تلك المؤلفات في جامعة باريس عام 1210، ثم تراجعت تدريجيا عن ذلك وبدأت
الاستعانة بآراء أرسطو للدفاع عن المسيحية، إلى أن صارت حجر الزاوية في الفلسفة الرومانية الكاثوليكية.
يرجع الفضل في ذلك التحول إلى توماس الأكويني، وغيره من الرهبان الفلاسفة الذين أقاموا الجسور بين فلسفة أرسطو وبين المسيحية. فقد ذهب توماس إلى أن كل المعرفة الإنسانية تكون وحدة كما يختص كل علم بموضوع معين، ولكن فوقها جميعا علم الفلسفة الذي اعتبره نظاما عقليا يسعى لوضع مبادئ عامة مستخلصة من جميع العلوم.
أما علم اللاهوت المسيحي فيعلو على العقل، ويعتمد على الوحي الإلهي ومن ثم يحتل قمة هذا النظام. لكن رغم أن الوحي يعلو على العقل، فإنه لا يتعارض معه بأي حال، واللاهوت مكمل للنظام الذي يضع العلم والعقل بدايته، كما أن الإيمان أيضا متمم للعقل وهما مصدر العلم والمعرفة، ولا يمكن أن يتناقضا.
وفي غمرة ذلك الصراع بين السلطتين وانشغال المفكرين بمدى أحقية كل منهما في الهيمنة على الأخرى، تخلف الفكر السياسي وتأخر نموه لافتقاره إلى منهج علمي نتيجة لازدهار اللاهوت والغيبيات، وهي مرحلة ستستمر حتى نهاية العصر الوسيط وبدء تقدم العلوم، وانبلاج فجر عصر النهضة ثم العصر الحديث.