الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد:
نود -بادئ ذي بدء- أن نوضح ثلاث نقاط:
1-
لا يوجد هناك ما يسمى بالحياد إزاء القيم، سواء في الفلسفة أو المنطق أو المجتمع بشكل عام.
2-
أن إيماننا بالله "سبحانه" لا يجب أن يدفعنا إلى تعاطف غير مستنير مع الفلسفات المثالية التي تتستر وراء الإيمان، سواء بشكل صريح أو ضمني.
3-
ضرورة الاهتمام بدراسة وتطوير طرق، ومناهج البحث كوسائل في علاج عدم التوازن الضار بين الإنجازات التكنولوجية الضخمة التي حققتها البشرية، وبين الفوضى الفكرية السائدة في عالمنا المعاصر.
1-
ترتبط مناهج البحث ارتباطا وثيقا بالفلسفة، وتتبادل معها التأثير من حيث النشأة والتطور وتحديد المفاهيم. الفرض الهام الآخر الذي نود التأكيد عليه منذ البداية، هو أنه لا يوجد هناك ما يسمى بالحياد أو اتخاذ موقف سلبي إزاء القيم، سواء في الفلسفة أو المنطق أو المجتمع بشكل عام.
وقد ظل الخلاف طويلا حول هذا الموضوع، حتى بين المفكرين الليبراليين أنفسهم الذين ادعى عدد منهم في أوائل القرن الحالي -وعلى رأسهم ماكس فيبر- بإمكان الفصل التام بين الحقائق والقيم، وتجرد العالم أو الباحث تماما من أي اعتبارات بيئية، أو مؤثرات ذاتية عند إصدار حكمه على موضوع ما.
لكن كثيرين من هؤلاء المفكرين اضطروا أخيرا إلى الاعتراف بالواقع، واستحالة الفصل التحكمي بين حقلي التجريب والقيم، وباستحالة وقوف العلوم الاجتماعية بالذات موقف الحياد من الأحداث والصراعات والقوى في أي
مجتمع، كما اعترفوا بأن الموضوعية نسبية1.
فعلماء السياسة -على سبيل المثال- عندما يقومون باختيار وتنظيم المادة التي يستعملونها في بحوثهم، أو محاضراتهم يحتاجون إلى إجراء عمليات انتقاء حقيقة
1 حول نسبية الموضوعية والقيود التي تحد منها, وموقف التحليل العلمي من "الحقائق" و"القيم" والانفصال المنطقي بينهما, والمدى الذي لا يمكن تجاوزه لإمكان إطلاق ألفاظ مثل: موضوعي ومنهجي على الفروض والنظريات المبنية على, أو المتأثرة بقيم معينة, حول هذه الموضوعات انظر:
Arnold Brecht, Political Theory (The Foundations of Twentieth Century Political Thought) , Princeton, New Jersey 1959, pp. 298-301; Carl J. Friedrich, Man and His Government (An Empirical Theory of Politics, New York 1963, pp., 67, 68; Max Weber on The Methodology of the Social Sciences, trans, and ed. E.A. Shils, H.A. Finch, New York 1949, pp. 1-47, Talcott Parsons, The Structure of Social Action, N.Y. 1937, pp. 593"597.
وللرجوع إلى مصادر أحدث, حول تطور ذلك الجدل انظر:
W.D. Hudson, ed., The IS-Ought Question, New York 1969, especially John Searl's Article: "How to derive Ought from Is", pp. 120-134.
تكمن أهمية هذه المقالة الأخيرة في أنها تحتوي هجوما مباشرا على الأسس الفلسفية لما يسمى بحياد العلوم الاجتماعية.
Cited by Fred M. Frohock, "Notes on the Concept of Politics: Weber, Easton Strauss," in: The Journal of Politics, Vol. 36, No. 2, Gainesville Florida, May 1974, pp 379-381; cf. D.C. Schwartz, "Toward a More Relevant and Rigorous^ Political Science", in The Journal of politics Vol. 36,No. 1, Feb. 1974, p. 119; cf. also, MadeleineGrawitz, Methodes Des Sciences Sociales, Deuxieme Ed., Paris
*974> PP- *M> *35> 3IO-3*5> 5°°; Bernard Crick، In Defence of Politics، p. 190،.
ما دون حقيقة أخرى، أو شكل تنظيمي معين دون شكل آخر، أو منهج بحث دون منهج آخر. قد تكون عملية الانتقاء عشوائية، ولكنها في الأغلب الأعم ليست كذلك، وإنما تحكمها معايير وقيم يأخذ بها كل عالم، أو باحث1.
هكذا تتضح أهمية تزويد المثقف بمعرفة أوثق بمناهج البحث؛ ليتسنى له اختيار أنسبها لدراسته، ومساعدته على التحلي بأكبر قدر ممكن من الموضوعية في تحديد موقفه من الفلسفات، والأيديولوجيات المتصارعة في عالم اليوم.
إلا أنه، وإن كان التقيد بالحياد واجبا في عرض تلك المناهج، فإن الأمانة والالتزام العلمي بالبحث عن الحقيقة يحتمان عدم الوقوف موقفا سلبيا من التيارات الفلسفية والمنطقية، قديمها وحديثها التي يتراوح قصورها بين العجز عن اللحاق بتطورات العصر العلمية والاجتماعية، وبين التضليل الجزئي أو الكامل للباحث؛ لحرفه عن الإدراك السليم لحقيقة المشكلة الأساسية في الفلسفة، وهي علاقة الفكر بالواقع وعن فهم طبيعة الاتجاهات المتصارعة سواء في مجال العلم، أو المجتمع.
فمثلا، يزداد باستمرار تبلور الخلافات بين الأيديولوجية الماركسية، والليبرالية كتعبير عن الصراع المحتدم بين النظامين الرئيسيين في عصرنا، وهما الاشتراكية والرأسمالية مما دفع كافة التيارات الفلسفية والمنطقية إلى تحديد مواقفها من ذلك الصراع بشكل صريح، أو ملتوٍ.
ليس معنى ذلك أن الفلسفة والمنطق كانا محايدين قبل ظهور هاتين الأيديولوجيتين، بل على العكس من ذلك تماما كانا يعبران بوجه عام عن قوى اجتماعية رجعية أو صاعدة. مثال ذلك: أنه رغم التراث الكبير الذي خلّفه كل من أفلاطون وأرسطو، فإن كتاباتهما كانت تعبيرا عن حقبة تاريخية معينة
1 Vernon Van Dyke، political Science "A Philosophical Analysis"، London 1960، pp. 3، 4، hereunder referred to as Dyke.
وعلاقات اجتماعية محددة. أكثر من ذلك، فقد دافعا عن النظام الاجتماعي، والسياسي القائم آنئذ من حيث انقسامه إلى سادة أحرار وعبيد، واعتبرا أن العبودية ظاهرة طبيعية.
يتضح الطابع الاجتماعي، والطبقي للفلسفة بشكل حاسم في الرأي الذي أبداه أرسطو ونقله إلينا التاريخ. فقد روى المؤرخ الإغريقي بلوتارك أن الإسكندر المقدوني علم أثناء إحدى غزواته بأن أستاذه أرسطو نشر بعض أعماله الفلسفية؛ فغضب لذلك وأرسل يعاتب أستاذه بقوله: لقد ارتكبت خطأ بنشرك الأجزاء الباطنة من العلم، وإلا فكيف يبقى اختلافنا عن الناس إذا جعلت المعرفة العليا التي اكتسبناها منك مشاعة في العالم أجمع؟ وقد رد أرسطو عليه قائلا: "لقد نشرناها ولم ننشرها
…
ولن يصل إلى فهمها إلا من درس علينا مثلك"1.
بناء عليه، لا يمكن اليوم قبول بعض الفروض الزائفة على علاتها، والتي ذهبت إلى أن الفلسفة ما هي إلا حب الحكمة كما ادعت الفلسفة الإغريقية، أو الادعاء باللامبالاة الفلسفية وحتى إنكار الفلسفة أصلا كما حاولت الوضعية، أو اعتبار الفلسفة التحليل اللغوي المنطقي كما ظنت الوضعية المنطقية.
بالمثل، لا يملك المثقف الملتزم أن يقف موقف المتفرج، أو المحايد إزاء التيارات الفلسفية التي تكرس الرجعية والتشاؤم والاستغلال والأنانية، وإنما واجبه أن يكشف إفلاسها وتهربها من تقديم مفهوم عام للطبيعة والإنسان يفسر ماضيه، ويخدم حاضره ومستقبله.
لا يستطيع هذا المثقف أو حتى المواطن العادي أن يكون محايدا إزاء فلسفات نيتشه وهايدجر وكامي، أو الفلسفة الصهيونية على سبيل المثال وليس الحصر. فنيتشه هو القائل: إنني أحلم بقيام جماعة من الرجال تامين مطلقين
1 بلوتارك السير، ترجمة إنجليزية لجون وويليام لانجورن، لندن 1886، ص 158. استشهد به إسماعيل المهدوي في مقدمته لجورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، القاهرة، نوفمبر 1957، ص5.
أشداء لا يتهاونون ولا يتساهلون، يطلقون على أنفسهم اسم الهدامين
…
لا يحفلون بالحياة ولا بالطمأنينة والسلام، وإنما يجدون النعيم في الانتصار والقوة والتحطيم، ويشعرون بسرور عميق وهم يعذبون الآخرين....1.
يكمل تلك النغمة العدوانية أن فلسفة نيتشه عن الإنسان الأعلى كانت أحد المناهل التي استفادت منها النازية في صياغة مفاهيمها، وخاصة تحويرها لفكرة تفوق الإنسان الأعلى كشخص إلى تفوق العرق الأعلى كعنصر أي: الجنس الآري، وهو جوهر الفلسفة النازية في محاولتها إثبات سمو الجنس الآري "الخالق للثقافة" وحقه في فرض سيطرته على العروق الإنسانية الأخرى الأدنى مرتبة كالأنجلوساكسون "كجنس حامل للثقافة" أو الأجناس المنحطة "المدمرة للثقافة" وقصدت بها الشعوب الملونة غير الأوروبية وخاصة اليهود2.
يتعذر أيضا اتخاذ موقف الحياد إزاء فلسفات مثل: البراجماتية والوجودية. فهذا هايدجر مثلا أحد أعلام الوجودية المعاصرة لم يعينه هتلر عبثا كمدير لجامعة فرايبورج، بل أكثر من ذلك يأخذ على عاتقه مهمة نشر الدعاية النازية بين الطلبة الألمان.
ثم لنقرأ سطورا من كتابات كامي؛ لنفهم الطابع التشاؤمي الذي يميز فلسفته الوجودية، إذ يقول في روايته أسطورة سيسيفوس: "إنه ليس ثمة
1 عبد الرحمن بدوي، نيتشه، الطبعة الثانية، القاهرة 1954، ص157، 166.
2 محمد محمود ربيع "هل تتحكم القومية أو الدين في تطور التاريخ، دراسة أيديولوجية مقارنة" في: مجلة العلوم السياسية والقانونية، العدد الأول بغداد، حزيران 1976، ص108، كذلك:
George H. Sabine، A History of Political Theory، third ed. London 1963 "first publ. 1937"، p. 906.
سوى مشكلة فلسفية واحدة، يمكن أن تعد جدية بحق، وتلك هي مشكلة الانتحار. ولو استطعنا أن نحكم ما إذا كانت الحياة جديرة بأن تعاش أم لا، فقد أجبنا على المشكلة الرئيسية في الفلسفة"1.
2-
إن إيماننا بالله "سبحانه" لا يجب أن يدفعنا إلى تعاطف غير مستنير مع الفلسفات التي تتستر وراء الإيمان والدين، سواء بشكل صريح أو ضمني. وتدل الشواهد منذ أحقاب سحيقة على أن الأقلية من ملاك العبيد أصحاب المصالح الأنانية الضيقة، التي ظهرت بعد انقسام المجتمعات البدائية إلى طبقات، كانوا يلجئون إلى الكهنة ليس إيمانا بالآلهة الشائعة آنئذ، بقدر ما كان لاستغلال نفوذهم في تهدئة العبيد؛ ليتحملوا مزيدا من السخرة، وعدم الثورة ضد الظلم. ثم دخل بعض الفلاسفة كطرف في هذه اللعبة كما تشهد بذلك أقوال شيشرون الفيلسوف التوفيقي الروماني الذي ذهب إلى القول قبل مولد المسيح:"إن الإيمان بالآلهة أمر لا بد منه للعبيد".
كان الشغل الشاغل لهؤلاء المسئولين، والفلاسفة هو الدفاع عن حكم الأقليات، وعن استغلالها للإنسان متسترين في ذلك بالدفاع عن الدين والإيمان.
من الأمثلة الصريحة على هؤلاء المؤرخ ورجل الدولة الفرنسي تيير الذي عبر في شكواه عام 1848 عن مخاوف النظام الرأسمالي من انتشار الفلسفة، والآراء الاشتراكية، إذ يقول:
"آه، لو كانت الأمور تسير كما كانت تسير في الماضي. فلو أن المدارس ظلت في أيدي القساوسة وخدم الكنيسة، لكان من الصعب أن أعارض في ترقية المدارس لأبناء الشعب. إنني أطالب بصراحة بشيء آخر غير أولئك
1 Albert Camus، Le Mythe de Sisyphe، Paris 1942، P. 15.
أورد النص الدكتور زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، القاهرة 1971، ص65.
المعلمين العلمانيين الذين أمقت أغلبهم. إنني أريد إخوانا مسيحيين رغم أنني أسأت الظن بهم من قبل، وأريد أيضا أن يسترد تأثير الكنيسة كامل سلطانه. إنني أطالب بأن يكون تأثير القسيس قويا؛ لأنني أعتمد عليه اعتمادا كبيرا في نشر هذه الفلسفة الطيبة، التي تعلم الإنسان أنه هنا في الدنيا ليشقى، لا تلك الفلسفة الأخرى التي تقول للإنسان عكس ذلك: تمتع.... لأنك في الحياة الدنيا لتصنع "سعادتك الصغيرة". وإذا لم تجدها في موقعك الحاضر، فاضرب الغني بلا خوف؛ لأن أنانيته هي التي تحرمك من هذا القسط من السعادة. إنك تستطيع أن تضمن رغد العيش لنفسك، ولكل من هم في نفس وضعك إذا انتزعت من الغني ما هو في غنى عنه"1.
في عالمنا المعاصر، تتخذ الفلسفة البراجماتية السائدة في الولايات المتحدة موقفا أصرح. فرغم اعتبارها القضايا الميتافيزيقية غير ذات معنى، تبدي الاستعداد لقبول المعاني الميتافيزيقية دون بحثها عقليا إذا ترتبت على قبولها منفعة، أو فائدة عملية.
لا تؤمن البراجماتية -على الأقل بالنسبة لوليام جيمس- بوجود الله من الناحية المبدئية، وإنما تعبر عن استعدادها للاعتراف بصدق العقيدة الدينية إذا أدت إلى فوائد نفعية في الحياة، أي: تعلق البراجماتية اعترافها على ظهور النتائج العملية للدين والتأكد مما تسميه بقيمته المنصرفة. يقول الفيلسوف البراجماتي ويليام جيمس:
"أخشى أن تكون محاضراتي السابقة
…
قد تركت لدى الكثير منكم انطباعا بأن البراجماتية تعني من الناحية المنهجية الابتعاد عما هو فوق البشر
1 أورد النص جورج كونيو، المشكلة المدرسية عام 1848 وقانون فالو، ص186. استشهد به جورج بوليتزير، جي بيس، موريس كافين، المبادئ الأساسية للفلسفة، الجزء الأول، ترجمة وتعليق إسماعيل المهدوي، القاهرة مارس 1957، ص18، 19.
"الخالق". لقد أظهرت في الواقع احتراما قليلا إزاء المطلق
…
ومن وجهة نظر المبادئ البراجماتية، فإنه إذا كان فرض وجود الله يلعب دورا مرضيا بأوسع معاني الكلمة، فإنه يكون فرضا صحيحا"1.
تتجسد في الصهيونية صورة أخرى من صور الفلسفات المثالية التي لا تكتفي بالتستر خلف الدين والإيمان، وإنما سبقت البراجماتية المعاصرة في النظر إلى الدين من زاوية قيمته المنصرفة، أو مجرد دفعه وتسخيره في خدمة الأهداف التوسعية والعنصرية الصهيونية. ونستطرد هنا قليلا في مناقشة علاقة تلك الفلسفة المثالية بالدين؛ لعلاقة ذلك بمستقبل الصراع الدائر ضدها في الوطن العربي.
تستغل الصهيونية مشاعر الإيمان؛ لاستثارة الحمية الدينية لتحقيق عدة أهداف. فبالنسبة ليهود الشتات "الدياسبورا" تسعى الصهيونية إلى دفعهم للهجرة إلى إسرائيل، أو على الأقل ضمان التمويل المنتظم والمتصاعد لميزانية التسليح والتوسع عن طريق مساهمتهم المالية.
ثم هي تستغل مشاعر الإيمان أيضا لدى المسيحيين البروتستانت، وخاصة الأنجلوساكسون في بريطانيا والولايات المتحدة. وينطلق استثمار الجذور الدينية المشتركة من التحريفات التي لحقت بالعهد القديم كمصدر إلهام رئيسي لدى البروتستانت، وإيمان هؤلاء بأن إنشاء إسرائيل تحقيق لنبوءة مقدسة وإيذان بقرب عصر الخلاص وجمع شمل بني إسرائيل، ومن بينهم الأنجلوساكسون الذين ينحدرون -وفقا لبعض الخيالات الدينية- من سلالة الأسباط العشرة المفقودة منذ اجتياح الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد.
على صعيد العقيدة، تستثمر الصهيونية الدين اليهودي كبديل عند
1 William James، Pragmatism "and four essays from the Meaning of Truth" Cleveland and New York 1963 "first ed. 1907" p. 192.
الضرورة للخرافات المثالية التي تروّج لتصورات غامضة عن الشخصية اليهودية، وتعتبر هذه الأخيرة من أعوص المشاكل وأقلها وضوحا بالنسبة للزعماء، والأفراد اليهود على حد سواء. لهذا يدعو المفكرون الصهيونيون إلى التشدد في مسألة الانتماء إلى الدين اليهودي بصفته العامل الوحيد المضمون، والواضح الذي يمكن التعويل عليه في ترويج ادعائهم بصدور وعد من الرب لبني إسرائيل، خاصة بمنحهم أرض الميعاد "صهيون". بعبارة أخرى، فإن ادعاء وجود حق تاريخي لليهود في فلسطين ستنكشف هويته الحقيقية كغزو، واستعمار استيطاني ما لم يغطي بذلك الستار الديني.
تبدو "القيمة المنصرفة" للصهيونية أيضا من استغلال قيودها المتزمتة لمقاومة انتشار الحياة العلمانية في إسرائيل، ومحاولة احتواء التحولات الفكرية التي يتعرض لها الجيل اليهودي الشاب في بحثه عن شخصية قومية في ظل ظروف متغيرة. من جهة أخرى، هناك منفعة لتلك القيود المتزمتة خارج إسرائيل حيث تخشى الصهيونية من وصول عدوى العلمانية إلى يهود الشتات، مما قد يدفعهم إلى التهاون في التعليمات الحاخامية المتشددة التي ترفض الزواج المختلط، وبذلك يذوبون تدريجيا في مجتمعات الغرب حيث تشجع الحياة الأسهل نسبيا على الاستقرار هناك. فالقيود المتزمتة للدين هي التي تستطيع منع الاستيعاب الذي يعتبر كارثة من وجهة النظر الصهيونية؛ نظرا لتهديده لمفاهيمها المثالية عن النقاء العنصري لليهود، وخرافة إنشاء إسرائيل الكبرى.
إلا أن ذلك الستار الديني الشفاف لا يستطيع إخفاء حقيقة أن نسبة عالية من يهود الشتات غير متدينين، كما يتناقض مع نتائج إحدى الدراسات الميدانية الهامة التي تثبت أن نصف عدد الإسرائيليين "46%" يطيعون التعاليم الدينية طاعة جزئية، أي: غير متدينين، طبقا للمعايير اليهودية. أما الدلالة الأخرى ذات المغزى، فهي ظاهرة الإلحاد وعدم الاكتراث الروحي الذي تكشفه كتابات عدد من كبار الزعماء والمفكرين الصهيونيين الذين لعبوا أدوارا هامة، ومعترفا بها في الحركة
الصهيونية. فهذا ياكوب كلاتزكين مثلا يذهب إلى حد القول بأن "الثورة اليهودية الحقيقية" لم تنتج عن تحرير اليهود سياسيا -والذي كان عاملا ثانويا- وإنما كانت نتيجة لفقد الإيمان1.
يجمع بين هذه الفلسفات المثالية التي استشهدنا ببعضها صفة هامة، ألا وهي دفاعها غالبا عن نظم اقتصادية استغلالية. وليس المقصود بكلمة مثالية -كما سنوضح فيما بعد- مفهومها الأخلاقي بمعنى المثل الأعلى، أو الحث على التضحية والفداء أو القدوة الحسنة. إنما المقصود هو مفهومها الفلسفي الذي ورد في كتابات أفلاطون ومن جاءوا بعده، والمشتق من اصطلاح المثال الذي ابتكره أفلاطون وفسره بأنه الصورة الفكرية التي توجد على نمطها الأشياء المادية. لهذا فإنه لإخفاء المغزى الحقيقي لتلك الفلسفات تغطي حججها بستار من الروحانية الكاذبة والدفاع عن الإيمان، وهو ما يكذبه الواقع العملي للنظم السياسية التي دافعت عنها قديما، وحديثا.
3-
نتناول في هذه النقطة الأخيرة من المقدمة الدور السياسي لمناهج البحث. من المعلوم أنه رغم استمرار الصراع الأيديولوجي بين المذاهب المختلفة، فإن الحقائق الجديدة التي فرضها التقدم التكنولوجي الضخم على العلاقات الدولية -وخاصة من حيث تعذر الحرب النووية- قد دفعت النظم السياسية إلى وضع ضوابط على سياسات القوة التقليدية؛ تفاديا لخروج أي صراع عن الحسابات المتفق عليها.
1 محمد محمود ربيع، أزمة الفكر الصهيوني المعاصر، القاهرة 1971، ص33، 99، 100، 104، 105، انظر كذلك بحثنا:"موقع العقيدة من الفكر الصهيوني" دراسة تحت الطبع، كذلك الدكتور أسعد رزوق، الدولة والدين في إسرائيل، سلسلة دراسات فلسطينية، بيروت 1968، ص136، 137، كذلك:
Arthur Hertzberg، ed.، The Zionist ldea "A Historical Analysis and reader، New York 1966 "first publ. 1959"، pp. 64، 65.
مهدت تلك التطورات لظهور مفاهيم جديدة عن التعايش بين النظم، تدرجت من تعايش إكراهي إلى تنافسي ثم إلى الانفراج. وبغض النظر عن النجاح الجزئي الذي حققته تلك السياسات، يظل البديل الوحيد للدمار النووي على الأرض هو سلام قائم على العدل حقيقة، وإلا تحول الانفراج إلى محافظة على السلام بأي ثمن، أو على حساب العالم الثالث.
من ناحية أخرى، توافرت خلال السنوات القليلة الماضية مقومات مادية لتقارب طبيعي بين الشعوب عامة، وبعبارة أدق: بين الجنس البشري ككل؛ نذكر منها ثورة وسائل الاتصال، بحوث غزو الفضاء، السيطرة على الطاقة النووية وتسخيرها لخدمة الإنسان، تفاقم مشكلة التخلف وتهديدها للاستقرار العالمي، مشكلة حماية البيئة.
إن نظرة موضوعية إلى خريطة الصراع الأيديولوجي في عالمنا اليوم، ستكشف حقيقة أن أيا من المذاهب أو العقائد السائدة لن يتمكن -بالطرق السلمية على الأقل، وخلال المستقبل المرئي- من فرض مفاهيمه وأساليبه في الحياة على شعوب الأرض كافة.
وإذا وضعنا جانبا المقولات السطحية التي تنادي، أو تحلم بنزع السلاح الأيديولوجي وبانتهاء عصر الأيديولوجيات، فإننا نميل إلى الاعتقاد بوجود ترابط جدلي بين ثلاث ظواهر معاصرة، هي: استمرار الصراع الأيديولوجي، واستمرار التعايش المحكوم بميزان الرعب النووي، وازدياد التقارب بين شعوب الجنس البشري بفعل المقومات المادية المشار إليها. هي إذًا ظواهر متلازمة، وإن كانت غير متكافئة بفعل عوامل الشد والجذب بين القوى التي تفرز تلك الظواهر.
ورغم استحالة وضع تصور دقيق لمستقبل الأيديولوجيات الراهنة، وذلك بسبب سرعة معدل التغير الذي أصبح سمة مميزة للعصر، وخاصة على صعيد المقومات المادية الخمسة التي ذكرناها، فإن هذه المقومات نفسها مع أنها تؤثر سلبا وإيجابا في تلك الأيديولوجيات، إلا أنها قد تؤدي في نهاية هذا القرن وربما في أوائل القرن
القادم إلى ظهور براعم مفهوم عالمي جديد1 لا يحل بالضرورة محل النظريات والمذاهب القائمة، وإنما يقلل من احتمالات الصدام بين نظم الحكم الممثلة لها من جانب، ويكون من جانب آخر أكثر تحديدا في تعبيره عن تلك المعطيات الجديدة.
مثل هذا المفهوم الجديد لن يستطيع الانتشار، أو الاستمرار إذا تمخض عن مجرد محاولة توفيقية بين المذاهب السائدة، بمعنى أن الأمل معقود على ظاهرة التقارب التي ذكرناها والقوى المادية المتطورة التي تساندها في تنقية المناخ الأيديولوجي، بحيث لا تنتقل البشرية بأوزارها إلى القرن الحادي والعشرين، وإنما تتخلص من الفكر الهابط الذي تعبر عنه بعض الأيديولوجيات الليبرالية والعنصرية المتحالة اليوم، والتي تصنف الإنسان ليس طبقا لقدراته وإنجازاته، وإنما حسب لون بشرته ودينه وجذوره العرقية؛ وبالتالي تقف كعقبات كأداء في وجه تقارب الجنس البشري، وتمنع تحقيق الحرية والاشتراكية والسلام العادل.
قد لا يكون التحالف الذي سيضطلع بتلك المهام الجسام قد تبلور بعد، وخاصة بسبب الدور المتنامي للطلائع المتقدمة من شعوب ودول العالم الثالث في إطار ذلك
1 تقدمنا في خريف عام 1963 باقتراح استخدام اصطلاح جديد هو الوعي بالانتماء إلى كوكب الأرض all-Planet consciousness كأساس لهذا المفهوم الجديد، وذلك أثناء مناقشة الدراسة المقارنة الإقليمية والعالمية في الحلقة الدراسية السنوية لمركز دراسات العلاقات الدولية التابع لأكاديمية القانون الدولي في لاهاي. انظر بحثنا حول هذا الموضوع "بالإنجليزية" في مجلة مصر المعاصرة، القاهرة أكتوبر 1969.
M. M. Rabie، "Regionalism and Universalism in Political Thought" in: L، Egypte Contemporaine، No. 338، Oct. 1969، p. 367.
وحول مغزى ذلك في تنمية مشاعر الانتماء والتماسك بين أفراد الجنس البشري في مواجهة الأيديولوجيات العنصرية المعاصرة، انظر مؤلفنا: مشاكل الحكم في إفريقيا، بيروت 1974، ص10، 11.
التحالف، واحتمال انسلاخ قوى لها وزنها في غرب أوروبا من القلعة الإمبريالية، وعدم اتضاح مستقبل الخلاف بين الاتحاد السوفيتي، والصين الشعبية.
إلا أن العين لا تستطيع أن تخطئ اتجاه مجرى التاريخ، وإن البشرية تسير بخطا ثابتة نحو تقليم أظفار العدوان الإمبريالي واستئناس ما تبقى من النظم الرأسمالية، واستئصال بؤر التعصب العنصري في إسرائيل وجنوب إفريقيا مما سيجعل من الممكن الانتقال إلى حضارة إنسانية أرقى، تقوي جانب الخير في البشر ومشاعر الانتماء إلى كوكب واحد في مواجهة كواكب وأجرام سماوية أخرى بدأ الإنسان يتطلع إليها في ذلك الكون الواسع لخير البشرية جمعاء.
يستلزم كل ذلك كما ذكرنا في البداية عبور الفجوة التي تفصل بين التقدم العلمي والتكنولوجي الكبير، وبين الفوضى الفكرية ومحاولات التضليل التي تهدد كل تلك المنجزات، وإن كان هذا يحتاج -ضمن ما يحتاج- إلى الاستفادة القصوى من المكتشفات والعلوم الحديثة من أجل ابتكار، وتطوير مداخل ومناهج للبحث العلمي؛ لتقوم بدورها الهام في تحقيق مزيد من الوضوح الفكري، وترتيب الأولويات، وتحديد الأهداف.
تنطلق دراستنا من الحقيقة المعروفة عن الارتباط الوثيق بين مناهج البحث، وكثير من العلوم الاجتماعية والطبيعية والرياضية، لكن على ضوء ما سبق، ونظرا للطبيعة المميزة للعلوم الاجتماعية بشكل عام، وللعلوم السياسية بشكل خاص من حيث تأثرها بقيم وأيديولوجيات ونظم اقتصادية وسياسية، فإن دراسة مناهجها تحتاج إلى إشارة ولو عابرة إلى الفلسفات والأساليب المنطقية التي تبادلت التأثير والتفاعل مع تلك المناهج، آخذين في الاعتبار أن الفلسفة والمنطق لم يتطورا في فراغ، وإنما عكسا مراحل التطور الثقافي والحضاري للمجتمعات البشرية.
لهذا، وتوفيرا لفهم أعمق للمناهج والمداخل -موضوع البحث- سنتناول في الباب الأول بإيجاز أهم المدارس والتيارات الفلسفية، وفي الباب الثاني نعالج المفهوم الليبرالي لمداخل ومناهج البحث، ثم نتناول في الباب الثالث المفهوم الماركسي لمناهج البحث، وفي الباب الرابع نبحث العلاقة بين العلم والمنهج.