الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: المدخل التاريخي
إن أهمية التاريخ للدراسات السياسية غنية عن البيان، وتكفي الإشارة إلى أن كثيرا من فروع العلوم السياسية كالعلاقات الدولية، والنظريات السياسية -على سبيل المثال- تعتمد اعتمادا كبيرا في مادتها على التاريخ.
يكشف التاريخ عادة عن نتائج سياسات معينة، وليس عن أسبابها. وإن حدث وذكرت تلك الأسباب فبشكل غامض غير مباشر يحتاج إلى الغوص عليها وتفسيرها؛ نظرا لأن كل وضع تاريخي له طابع مميز سواء بالنسبة لكثير من تفصيلاته، أو ظروف وصفات الأفراد المشتركين في الحدث. لهذا، فإن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا.
وقد استخدم كثير من الفلاسفة، وعلماء السياسة المدخل التاريخي في محاولاتهم اكتشاف القوانين العامة التي تحكم التطور البشري. من هؤلاء ابن خلدون في القرن الرابع عشر، وكونت وهيجل وماركس في القرن التاسع عشر، وسومبارت وشبنجلر وتوينبي في القرن العشرين1.
هنالك في الواقع عدة أشكال للمدخل التاريخي تبعا للمعاني المتعددة للتاريخ نفسه. فقد يكون المقصود به السجل المشتمل على الوثائق والأدلة، وقد يعني التاريخ المكتوب، أو التاريخ نفسه بصفته أحد فروع العلوم الأكاديمية. وما يعنينا هنا هو التعرف على الخصائص المميزة للتاريخ، وبالتالي على خصائص المداخل التاريخية.
1 Arnold Brecht، Political Theory، op. cit. 'pp. 88، 536; Carl Joachim Fricdrich، Man and His Government (An Empirical Theory of Politics) ، op. cit.، p. 9; Andre Marchal، Methodes Scientifique et Science Economique، Tome II، Paris Genin 1952-55، pp. 114. ff.
إن السمة الأساسية التي تميز التاريخ عن غيره هي أن محور اهتمامه هو الماضي، وبشكل أخص مرحلة زمنية محددة وتسلسل أحداث معينة في نطاق تلك المرحلة. ونستطيع التمييز بين التاريخ، وبين غيره من العلوم من تحديد نوع الفعل المستعمل، وما إذا كان في الماضي أم المضارع أم المستقبل.
يعتبر من قبيل الدراسة التاريخية مثلا البحث في السلطات التي خصصت لمنصب رئيس الولايات المتحدة، وكيفية تطور تلك السلطات. قد تلقي الدراسة بعض الضوء على السلطات الحالية لذلك المنصب، ولكن ذلك يتم بشكل غير مباشر ومن خلال استكشاف الماضي1.
مثال آخر للدراسة التاريخية التغيير الذي طرأ على أسلوب ممارسة الشورى في الإسلام. فبعد أن كانت هي الأداة التي تم عن طريقها اختيار ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة لتولي أعلى منصب في الحكم الإسلامي الجديد، لاحظنا أنها فقدت دورها بعد تحول الخلافة على يد معاوية إلى ملكية وراثية.
لم تعد الشورى أسلوبا لاختيار الحاكم، وإن استمر وجودها الشكلي ممثلا في قيام ذلك الحاكم بأخذ رأي أهل الحل والعقد في بعض شئون الحكم. لكن استطلاع رأى هؤلاء لم يكن يقدم أو يؤخر في شيء؛ نظرا للتغير الذي طرأ على تكوينهم، فصاروا من عصبية الحاكم وقبيلته وليسوا من عيون القوم وقادتهم بغض النظر عن وضعهم القبلي أو الاجتماعي كما كان الحال قبل حكم بني أمية2.
ولتوضيح القول بأن هناك اختلافات بين خصائص المداخل التاريخية نشير إلى أن أحد هذه الاختلافات يرجع إلى مفهوم المؤرخ للهدف الذي يسعى
1 Dyke. pp. 117، 118.
2 Muhammad Mahmoud Rabie، The Political Theory of lbn Khaldun، op. cit. pp. 106، 110.
إليه. فإذا كان هدفه متواضعا، انعكس ذلك على المستوى الهزيل للتعميم الذي يصل إليه. ويحدث ذلك عادة عندما يلجأ المؤرخ إلى الأسئلة، والموضوعات السهلة التي لا تحتاج الإجابة عليها إلى بحث عميق، أو استقصاء تفصيلي. فهو لا يسعى وراء أحكام عامة وعبر مستخلصة أو دروس مستفادة، لهذا يأتي جهده على شكل ركام من المعلومات والبيانات كما نلاحظ من ميل بعض المؤرخين إلى التركيز على الأحداث ذات الصفة الخاصة، والتي لها علاقة من نوع ما بالدراسات السياسية كالحروب والثورات والأزمات، ولكنه في الواقع تاريخ بلا روح قد يحدث ضجة كبيرة، ولكن بلا مغزى1.
فالمؤرخ ليس هو الذي يقتصر على السؤال عمن فعل ماذا متى واين، وإنما الأهم لماذا حدث ذلك، وكيف ظهرت إلى الوجود ظروف معينة، وماذا كانت نتائج تلك الظروف والأفعال. أكثر من هذا، فقد يسأل عن احتمال وجود اتجاهات أو قواعد منهجية، وقوانين أو علاقات سببية أو نظريات2.
يندرج تحت الاختلافات أيضا التجاء الباحث إلى مجال أو آخر من مجالات المعرفة الإنسانية لتدعيم حججه. فما دمنا قد اخترنا المدخل التاريخي وركزنا
1 Dyke، 119.
2 يعترف العلماء المعاصرون بفضل العلّامة عبد الرحمن بن خلدون الذي وإن لم يكن أول من كتب في التاريخ، إلا أنه باتفاق أغلبيتهم هو أول من أرسى قواعده كعلم وبيّن أصول الكتابة التاريخية وضرورة عدم الميل مع الهوى وتحري الدقة وتمحيص الأخبار. فكثيرا ما كان يستبعد روايات من سبقوه من المؤرخين على اعتبار أنها اختلاق غير ممكن الحدوث بحسب طبائع الأشياء وقوانين العمران. ولعل أهم ما يميز كتاباته في التاريخ هو براعة التنظيم والربط، والدقة والوضوح في تبويب الموضوعات والغوص على أسباب الحادثات، وصياغة الفروض واختبارها للتأكد من صحتها على نحو ما هو معروف في المناهج الحديثة. انظر في ذلك: محمد محمود ربيع "منهج ابن خلدون في علم العمران" في: مجلة مصر المعاصرة، العدد34، إبريل 1970 ص225، كذلك مؤلفنا:
M. M. Rabie، The Political Theory of lbn Khaldun، op. cit. pp. 23، 31 ff.