الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول كامي في روايته أسطورة سيسيفوس: "إنه ليس ثمة سوى مشكلة فلسفية واحدة يمكن أن تعد جدية بحق، وتلك هي مشكلة الانتحار، ولو استطعنا أن نحكم ما إذا كانت الحياة جديرة بأن تعاش أم لا، فقد أجبنا على المشكلة الرئيسية في الفلسفة"1.
1 A. Camus، Le Mythe de Sisyphe، op. cit.، p. 15،
أورد النص الدكتور زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع سابق، ص65، ريجيس جولفيه، المذاهب الوجودية، مرجع سابق، ص8، 66، كذلك انظر المقدمة أعلاه ص14.
أهم أوجه نقد الوجودية:
تعرضت الفلسفة الوجودية للنقد من عدة تيارات فلسفية أخرى، نخص منها بالذكر التيار التقليدي المعاصر والماركسية. فالتيار التقليدي المعاصر يرى في الوجودية فلسفة لا تدرس سوى الإنسان المحسوس الذي يجمع بين عناصر لا يسهل فصل بعضها عن بعض، وهي: الجسم والنفس والشعور والعالم الخارجي والأنا والآخرون.
تهتم الوجودية بالحياة الخاصة للإنسان، والمواقف التي يجد نفسه إزاءها، ولكنها لا تستطيع أن ترقى إلى دائرة وجودها الإنساني؛ لأن تجاوز الوجود الذاتي يتنافى مع أدق خصائصها وهو التقيد بدراسة الوجود الخاص.
وخلافا للفلسفة التقليدية التي نظرت إلى الوجود على أنه روح ومادة أو عقل وجسم، فإن الوجودية قد تجاوزت هذه الثنائية بمقولتها: إن ما يظهر من الشيء هو حقيقته. وينتقد التيار المعاصر ذلك الموقف على أساس أنه وإن كان قد وفر على الوجودية مشقة التوفيق بين القطبين الأزليين، إلا أنها ناءت بتفسير الكثير من ظواهر الوجود، وأخطأها فهم الكثير من مشكلاته.
هذا علاوة على أن إغراقها في الفردية على حساب مصالح المجتمع لم يؤد بالإنسان إلى تمتعه بحريته التي بشرت بها، وإنما انتهت دراستها إلى
أن حياته تزخر بالضيق، وتنتهي بالموت والعدم، فكانت بهذا قصة هزيمة ويأس وتشاؤم.
ويرى بعض الفلاسفة المعاصرين أن الوجودية تعتبر من أظهر الأعراض التي توحي بانهيار المذاهب الفلسفية في عصرنا. فقد علق الفيلسوف الفرنسي إميل برييه على كتاب سارتر "في الوجود والعدم" بأنه رغم ما يتضمنه من التحليل الدقيق، فإنه ينطوي على ألوان من خيبة الرجاء يصادفها الفيلسوف في بحثه عن الوجود1.
أما الماركسية، فقد قدمت تفسيرا آخر لطبيعة الموضوعات التي تناولتها الفلسفة الوجودية، ولأسباب تلك النغمات المفجعة. فهي أولا تضع الوجودية على قدم المساواة مع الفلسفة الوضعية من حيث إنهما تنفيان إمكانية معرفة العالم الموضوعي، وتطرحان جانبا مفهوم الوجود الموضوعي ذاته، وبذلك تقفان إلى جانب المثالية الذاتية.
من هذا المنطلق تعتبر الماركسية أن الفلسفة الوجودية هي أحد تيارات الفلسفة البرجوازية المعاصرة، وتسوق على ذلك مثالا من كتابات الفيلسوف الوجودي الفرنسي ألبير كامي التي يذهب فيها إلى اعتبار العلاقة بين التفكير والوجود مسألة بلا معنى إلى حد عميق، وفارغة كأية مسألة علمية مثل مسألة دوران الأرض حول الشمس أو العكس.
بذلك يصبح الشيء الوحيد الذي له معنى هو الوجود الذي يفهم منه الوجود الشخصي الفردي للـ"أنا"، أنا كما أبدو لنفسي. تؤدي هذه الذاتية إلى انقلاب الفلسفة كلها إلى أخلاقية فردية، إلى نفسية ذاتية، وتفسر هذه الأخيرة بروح الأنانية. بالمثل توجه الماركسية النقد إلى الفيلسوف الوجودي الألماني
1 E. Brehier، Les Themes Actuels de la Philosophie.، Paris 1954، pp. 69 ff.
استشهد به الدكتور توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص84، 85.
ياسبرز؛ لتحطيمه الثقة بقوى العقل الإنساني، والتفكير المنطقي في فلسفته التي سماها النظرة الفلسفية إلى العالم.
ليس أقل مدعاة للنقد من وجهة النظر الماركسية أن الفلسفة الوجودية تدور حول وجود لا عقلي تعتبره الوجود الحقيقي، وهو عبارة عن جو شعوري غريب تغيب فيه الذات ولكنها لا تفهمه، بل تتجرد فيه من كل ما هو مفهوم.
لهذا تعرض شرح سارتر لمعنى الوجود للنقد حيث ضرب مثلا برجل يجلس في حديقة، ثم يتعلق بصره بوردة فينصرف عن بقية الحديقة، ثم لا يلبث أن يحس تأثير هذه الوردة في نفسه وهو منصرف عن رؤيتها، وبالتدريج يغيب عن كل شيء ويغرق في دوامة اللامعقول فيتساءل: من أنا؟ ولماذا وجدت؟ هنا يكون الرجل قد وصل إلى "وجوده" الحقيقي1.
ذلك الوجود "اللامعقول" تقوم عليه مقولة: إن الوجود سابق على الماهية، بمعنى أن الفرد في رأي الفلسفة الوجودية يجب ألا يتصرف بناء على تحديدات عقلية أو مبادئ؛ لأنه ما دام الوجود الحقيقي هو وجود الشعور الذاتي فلا بد إذًا من رد الأشياء والأفعال إليه.
بعبارة أخرى: إن سلوك الفرد يتم بناء على "الدافع الغريزي" في نفسه هو دون استلهام أية فكرة عقلية. وبعد أن يقوم الفرد بسلوك ما تتحدد القيم من واقع سلوكه، سواء كانت قيما تحض على الأنانية أم على التضحية. فالفعل يسبق الفكرة، بمعنى أن الفرد يمكن أن يكون لصا أو جاسوسا أو قديسا متدينا بشرط ألا تقوم تصرفاته على اقتناع منطقي وإنما على مجرد الانطلاق الذاتي، فاللامعقول هو المنطق الأكبر، أي: إن اللامعقول في نظر الوجودية هو المعنى الحقيقي للحرية؛ لأن الفرد لا يتقيد فيه بأفكار أو مبادئ، وإنما يقوم ببساطة "بالاختيار ثم الانطلاق".
1 المادية الديالكتيكية، مرجع سابق، ص14، تعليق إسماعيل المهدوي في: جورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، مرجع سابق، ص214، 216.
هذا النقد الذي توجهه الماركسية للفلسفة الوجودية نجد له ما يبرره، إذا استعرضنا الفقرة التالية من كتاب الوجود والعدم لسارتر حيث يقول:
"ما هي أهمية الفعل؟ إذا كان الإنسان يتصرف ويلتزم دون أن يراوده أدنى خداع عن الغايات التي يضعها لنفسه. "وروح الجد" هي التي تؤدي إلى اليأس؛ لأنها تنتهي دائما بأن تفرض علينا فكرة أن كل أوجه النشاط التي يبديها الإنسان باطلة وفاشلة على حد سواء. وهكذا لا يوجد أي فرق بين أن يتعاطى المرء المسكرات في خلوته، وبين قيادة الجماهير. والواقع أنه لو أمكن أن يكون لضرب من ضروب السلوك هذه أفضلية على غيره فليس ذلك أبدا بسبب غايته
…
وإنما هو بسبب درجة الشعور الذي يملكه لحده الذي يتصوره، وفي هذه الحالة يمكن أن تتفوق حالة الهدوء التي يعيش فيها السكير المتوحد على حالة الانفعال غير المجدية التي يحياها الزعيم الشعبي"1.
لكن، لماذا تتبنى الوجودية هذا المفهوم الغريب للحرية، وتسودها أوهام التحرر من الواقع ومن العقل؟ ولماذا الاستغراق في مشاعر لاعقلية مثل: اليأس والخوف والضجر والقلق والغثيان والندم؟
تتهم الماركسية الفلسفة الوجودية بأنها مثالية ليس فقط لانغماسها في الذاتية ورفضها الاعتراف بإمكانية معرفة الوجود ومعرفة الحقيقة الموضوعية، وإنما تتهمها بالمثالية أيضا؛ لأنها تهرب من الحقيقة إلى "سرداب الشعور الذي يخيم عليه ظلام اللامعقول". وقد بلغ اتجاه الهروب ذلك إلى منتهاه في فكرة الانتحار عند ألبير كامي التي أشرنا إليها أعلاه.
إن الوجودية في نظر الماركسية تمثل مرحلة انحدار المجتمع البرجوازي إلى قبره فلسفة ومنهجا وأسلوب الحياة. وفي دوامة التناقضات والأزمات الحادة
1 جان بول سارتر، الوجود والعدم، ص721، 722 أورد النص ريجيس جوليفيه، المذاهب الوجودية، مرجع سابق، ص208.
التي يعانيها ذلك المجتمع يبدو عسيرا على الكثيرين أن يفهموا الواقع.
وبدلا من بذل الجهد من أجل فهم الواقع بأسلوب علمي بهدف تغييره، فإنهم يهربون من ذلك الواقع ليغيبوا في اللامعقول واللامبالاة اللذين تعبر عنهما كتابات كامي، أو يبحثون عن الملجأ والسلوى في اليأس والقلق والحزن التي يطفح بها الأدب الوجودي عامة.