الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد يفسر هذا اهتمامات الباحثين الذين يستعينون بمدخل اقتصادي، وميلهم إلى طرح أسئلة عن العلاقات المتشابكة التي تربط بين كل من الحياة الاقتصادية والسياسية. من ذلك مثلا السياسات النقدية والضرائبية للحكومة، أسعار الصرف، حصص الاستيراد والتصدير، التشريعات التي تعالج العلاقات بين رأس المال والعمال، السيطرة على الإنتاج، توزيع عائد العملية الإنتاجية، العلاقات الاقتصادية الدولية، الأسواق المشتركة بين المجموعات الإقليمية وتأثير قراراتها على أسعار المواد الخام والسلع المصنوعة والعمالة وأسعار العملات، ثم تأثير كل ذلك وانعكاسه على السياسات الخارجية لكل دولة، أو منظمة إقليمية.
ولا يمكن إغفال كلمة المصالح في المدخل الاقتصادي لدراسة السياسة، فمدرسة الفكر الماركسي مثلا ترى أن التطورات السياسية ما هي إلا نتيجة للمصالح الطبقية المتعارضة، وتعرف الطبقة بأنها وضع اقتصادي معين، والمصالح بأنها الفوائد الاقتصادية التي يمكن الحصول عليها.
إن موقف مدرسة الفكر الماركسي -كما سيأتي بالتفصيل فيما بعد- معروف أيضا من مستقبل العلاقة بين قوى وعلاقات الإنتاج من جانب، وبين جهاز الدولة وهيكل المجتمع من جانب آخر. فهي ترى أن الأنظمة السياسية بشكلها المعاصر، وكذلك الدولة نفسها ما هي إلا أبنية فوقية في المجتمع لا بد وأن تلاقي مصيرها المحتوم حيث يؤدي التطور الاقتصادي، وتغير العلاقة بين قوى وعلاقات الإنتاج إلى إزالتها تماما، فاتحا الطريق أمام الثورة الاجتماعية1.
1 Marcel Prelot، La Science Politique، Paris 1963 p. 32، J. Roland Pennock، David C. Smith، Political science، op. cit.، p. 89.
المبحث الثالث: المدخل الاجتماعي
ربما يكون من أهم مزايا هذا المدخل تلافي الاستقطاب الشائع في بعض الدراسات السياسية والمتمثل في وضع الفرد في مواجهة الدولة وإغضاء الطرف
عن الثروة الغنية من الموضوعات والمعلومات في البيئة الاجتماعية للإنسان، وخاصة صلاته وعلاقاته ذات الأشكال والمستويات المتعددة بالجماعة. تلك هي ما يسميها رايموند أرون بالأرض البكر أو المدخل الخاص الذي يمكن أن يكفل نشوء علم للسياسة مستقل نسبيا، كما هو الحال في بقية العلوم الاجتماعية1.
يهتم علماء الاجتماع بدراسة السلوك الإنساني بما في ذلك السلوك السياسي، وذلك في نطاق البيئة الاجتماعية. لهذا يدخل في مجال علم الاجتماع السلوك السياسي والعلاقات والمؤسسات السياسية بالإضافة إلى أنواع أخرى من السلوك والعلاقات والمؤسسات. فعلم السياسة إذًا يتداخل مع علم الاجتماع تماما، كما يتداخل مع علمي التاريخ والاقتصاد.
يترتب على هذا أن الباحثين الذين يأخذون بمدخل اجتماعي لدراسة السياسة سيكونون متأثرين -ولا شك- بمنطلقاتهم العلمية التي تركز على المجتمع بصفته مجموعة من العلاقات الاجتماعية، أو كجماعة كبيرة تقوم بين أفرادها علاقات متبادلة، أو كمجموعة من المؤسسات التي تعمل كإطار للحياة الاجتماعية، سواء كانت هذه المؤسسات سياسية أو اقتصادية أو دينية أو عائلية أو ترويحية.
تجتذب الحضارة كذلك قدرا كبيرا من اهتمام الباحثين من حيث هي أنماط من السلوك المثقف الذي يشترك فيه عدد من الأشخاص. وهي بهذه الصفة تعتبر طريقة حياة وأسلوبا في التفكير والعمل والشعور. كما أن للأفراد أوضاعا اجتماعية معينة من حيث الثروة والسلطة والحياة والقوة، ويقومون
1 Raymond Aron، "Political Science in France"، in Contemporary Political Science، UNESCO، op. cit.، p. 49، Pennock، Smith، Political Science op. cit.، p. 53.
بأدوار محددة، بمعنى أن لكل منهم دورا ونمط سلوك يرتبط بوضعه في ذلك المجتمع.
ليس معنى ذلك أن تصنيف الفرد حسب وضعه الاجتماعي يؤدي إلى الجمود، إذ الواقع أنه وفقا لهذا المفهوم يستطيع الانتقال إلى أي وضع إذا سمحت له قدراته وكفاءاته. ينطبق هذا أيضا على الشخصيات الاعتبارية التي قد ينضم إليها هؤلاء الأفراد كالأحزاب والجمعيات الدينية والنوادي الرياضية، وكذلك الدولة والعائلة على أساس أنه يمكن أن يكون لكل منها دور محدد تؤديه. وبالتالي تنال وضعا اجتماعيا معترفا به موازيا لدورها، وتتمتع بالمزايا المادية لهذا الوضع، وتقوم بالمسئوليات المترتبة عليه.
ويرى ماكس فيبر أن مثل تلك الجماعات، وكذلك الطبقات والأحزاب هي من مظاهر توزيع السلطة في المجتمع. إن قيمة الأوضاع الاجتماعية المشار إليها هي ميلها إلى تثبيت العلاقات وتأمين التوقعات الفردية؛ تفاديا للمنافسة الدائمة والأضرار التي قد تنتج عنها بسبب الحاجة إلى عمليات مستمرة لإعادة التكيف داخل الهيكل الاجتماعي1.
فالاعتماد على المدخل الاجتماعي إذًا قد يثير أسئلة حول العلاقات بين الوضع الاجتماعي من جهة، وبين السلوك السياسي أو غيره من أشكال السلوك
1 Max Weber، "Class Status، Party". in. R. H. Gerth، C. Wright Mills، eds.، From Max Weber، Essays in Sociology، London 1961 p. 181، B. E. Park، E. W. Burgess، lntroduction
to The science of Sociology، pp. 708-714، florian Znaniecki،
The Social Role of the Man of Knowledge، pp، 13-19 reprinted in: Lewis A. Coser، Bernard Rosenberg، Sociologi cal Theory، New York، London 1966، pp. 354، 363-365، T. H. Marshal، Sociology at the Crossroads، London 1963، p. 186.
ومن الجلي أن البحوث الاجتماعية قد أسهمت بنتائج هامة خدمة للعمل التشريعي، وخاصة في مجالات بحوث الزواج والطلاق والجريمة والأحداث والحياة الحضرية والريفية. ليس هذا فقط، وإنما أسهمت الدراسات الاجتماعية أيضا بالإضافة إلى دراسات علم الأجناس في مجال الحضارات والثقافات الأجنبية، بمعلومات قيمة لا غنى عنها للتوجيه الفعال للعلاقات الخارجية1.
ليس أدل على العلاقة الوثيقة بين الاجتماع والسياسة من نشوء علم جديد يجمع بين الاثنين، تعبيرا عن تزايد أهمية المدخل الاجتماعي في الدراسات السياسية. ذلك العلم هو الاجتماع السياسي الذي يرى بعض العلماء مثل شفار تزنبيرج أن مؤسسيه الأوائل الكبار هم أرسطو وماكيافللي ومونتسكييه الذين، وإن لم يستخدموا نفس الاسم المعاصر للعلم، فإنهم كانوا على دراية بموضوعه ومنهجه وقوانينه2.
تتبع علماء آخرون مثل بريلو تلك الصلات الوثيقة بينهما منذ بدأ التمييز بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي في كتابات عالمي السياسة جان بودان وألثوسيوس، ثم إصرار كل من جروشيوس ولايبنتز على وجود علاقات اجتماعية منفصلة عن علاقات الدولة.
والمقصود بالانفصال هنا طبعا هو بدء الوعي بوجود نوع جديد، ومميز من العلاقات يحتاج إلى التصنيف والدراسة3.
1 Dyke، pp. 125-127.
2 Roger Gerard Schwartzenberg، Sociologie Politique Paris 1971، pp. 2-5.
3 Marcel Prelot، La Science Politique، op. cit.، pp. 33، 34.
في عصرنا الحاضر، يؤكد رايموند أرون صعوبة وضع خط فاصل بين علم السياسة، وعلم الاجتماع السياسي حيث إن كليهما يتناول نفس الحقائق، ويدعي الأخذ بالوسائل المنهجية كالمشاهدة والتحليل، والشرح والتفسير1.
الملاحظة الأخيرة التي نود أن نختتم بها هذا البند هو أن التوفيق قد جانب هؤلاء العلماء في تغاضيهم عن الدور الكبير للعلامة ابن خلدون في هذا المجال. لقد تناول ابن خلدون -كما هو معروف- أكثر من مدخل علمي في مقدمته، من بينها الاجتماع والاقتصاد وذلك في دراسته للظواهر التاريخية والسياسية. ولا عذر لهؤلاء في ذلك القصور؛ إذ المفروض أنهم قد اطلعوا على التقييم العلمي المنصف لإبداعه من جانب أئمة علماء الاجتماع والتاريخ الليبراليين المعاصرين من أمثال جاستون بوتول، وبيتريم سوروكين، وأرنولد توينبي. ومن جهة أخرى يتعذر من الناحية الموضوعية الإشارة إلى تطور علم الاجتماع، والجهود الرائدة في الاجتماع السياسي دون أن يحتل ابن خلدون مكانه المشروع، خاصة وأنه قد توفرت الضوابط المنهجية في كتاباته بشكل يفوق ما توفر منها في كتابات خلفائه الأوروبيين ممن سبقت الإشارة إليهم. حتى أوجست كونت نفسه، الذي يرجعون إليه الفضل في إعطاء علم الاجتماع اسمه الجديد "سوسيولوجي" يؤكد بعض العلماء المعاصرين2 أنه تمكن من الاطلاع على ترجمة فرنسية لكتابات ابن خلدون، واستفاد منها دون أن يشير إلى المصدر.
1 Raymond Aron، "Political Science in France*.htm'، op. cit. p. 49.
2 H. Becker،Harry Elmer Barnes،Social Thought from Lore to Science، New York 1961، first publ. 1938، p. 349; H. E. Barnes، "Sociology Before Comte"، in: American Journal of Sociology، XXIII، 1917; M.M. Rabie، The Political Theory of Ibn Khaldun، op. cit.، p. 47.
انظر في ذلك أيضا الشواهد التي يضيفها الأستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي في طبعته الأولى لمقدمة ابن خلدون، الجزء الأول، ص177، كذلك الأستاذ الدكتور عبد العزيز عزت "تطور المجتمع البشري عند ابن خلدون" في أعمال مهرجان ابن خلدون، القاهرة 1962، ص52، 53. كذلك انظر أعلاه، دراستنا لمنهج ابن خلدون، حاشية 57.