الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحضارية، بمعنى أن تلك الجماعات البشرية التي تحولت إلى حضرية تصبح حياتها أكثر تعقيدا وتكتسب صفات جديدة منها الذكاء والكيس، وإن كانت أكثر اعتمادا على حماية الدولة القائمة. وتتقدم العلوم وترتقي الفنون بالقياس إلى مستواهما في ظل الحياة الساذجة لمجتمع البداوة. ويحدث هذا على حساب بعض القيم حيث تعاني المبادئ الدينية والأخلاقية كثيرا من هذا التحول. ويمكن أن نستشف من مناقشات ابن خلدون في هذا الموضوع نوعا من التناسب العكسي بين تطور القوى الاقتصادية، وبين تدهور بعض عناصر العمران مثل المبادئ الأخلاقية والدينية. ومن ناحية أخرى هناك تناسب طردي بين نفس ظاهرة تطور القوى الاقتصادية، وبين بعض عناصر العمران الأخرى مثل: العلوم والفنون والحياة السياسية المستقرة1.
والخلاصة: أن مناقشة هذا الفرض المنهجي الثاني تظهر أن العوامل الاقتصادية ليست وحدها المؤثرة في دراسات ابن خلدون، وإنما أثر فيها أيضا بعض عناصر العمران وخاصة الدين الذي رغم كونه أكبر مؤثر بينها، فإن الحقيقة الواضحة هي أن ابن خلدون تناول كل عناصر العمران هذه على ضوء معياره المادي في التمييز بين البداوة والحضارة. وبالمثل، فقد أظهرت المناقشة مدى اهتمامه بتتبع أثر التغير من الشكل الأول إلى الشكل الثاني على عمل، وتطور عناصر العمران.
1 M. M. Rabie The political Theory of lbn Khaldun op. cit.، pp. 41، 42.
الفرض الثالث: العلاقة الديناميكية بين الأسباب، والنتائج
يلاحظ الدارس للمقدمة أن ابن خلدون لم يقدم تفسيراته الاقتصادية بشكل جامد. ولإثبات ذلك سنستشهد بتحليله للظواهر إلى أسباب، ونتائج كواحد من أساليبه الجديدة التي طبقها في دراسة العمران البشري والحياة السياسية.
ورغم أن تحليله كان رائدا في هذا المجال، فإنه لم ينظر إلى الأسباب والنتائج نظرة إستاتيكية كأن يظن مثلا بأن الأسباب تظل دائما أسبابا والنتائج دائما نتائج. إن المغزى الحقيقي لمنهج ابن خلدون لا يمكن فهمه تماما ما لم يتم الكشف عن علاقة عامل إضافي وديناميكي بموضوع البحث. ولا نعني بهذا العامل مجرد الاعتراف بفضل ابن خلدون في اكتشاف أسلوب التحليل إلى أسباب ونتائج. إن ما يجتذب الاهتمام حقيقة إلى المقدمة هو أننا لا يمكن أن نجد فيها الأسباب في جانب والنتائج في جانب آخر. فمثل هذا الاستقطاب غريب على فكر ابن خلدون الذي لا يعرف هذا التجريد الأجوف. وبالعكس، فقد بدت له العلاقة بين الخلفية الاقتصادية وتأثيرات عناصر العمران كعملية مرتبطة تمام الارتباط تتحرك باستمرار على شكل سلسلة من ردود الفعل المتبادل. بالإضافة إلى ذلك، فإنه لم يعامل عناصر العمران كقوى ذات فعل متساوٍ لها نفس الأثر في سير الأحداث، وهو ما يمكن ملاحظته على وجه الخصوص بالنسبة لآرائه في الدين التي تشغل في بعض الأحيان قلب المناقشة. وفي الواقع، فإن الميزة الكبيرة لمنهجه هي طابعه العلمي الذي يستبعد إمكان تمتع أي عامل بمفرده بطبيعة، أو صفة مطلقة، ويفترض بدلا من ذلك وجود تأثير نسبي، وردود فعل متبادلة.
ومن الأمثلة المتعددة التي يمكن أن تشرح مثل هذا التفاعل هو العلاقات المتشابكة التي تربط بين طريقة المعيشة وأسلوب الفكر وانتشار العلوم. فكل تطور مادي يأتي برد فعل مماثل في العلاقات الاجتماعية، ومناهج سلوك متباينة تجاه المسائل الزمنية والدينية. وقد سبقت الإشارة إلى أن هذا التطور المادي سيؤدي إلى زيادة في المهن وفي تقسيم العمل، وكل مهنة تؤثر في النفس والذهن وتفتح آفاق العقل. ويشجع هذا على زيادة انتشار العلوم وازدهارها الذي يزيد الإنسان بالتالي "ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنفس". ولا نستطيع أن نعثر في هذا التحليل الديناميكي على أي فصل تعسفي بين السبب والنتيجة. فإذا كان تقدم العلوم، والمعرفة هو نتيجة لسبب مادي، فإن نفس
هذه النتيجة تلعب دور السبب في مرحلة أعلى هي تغيير وتهذيب أسلوب التفكير. ولا تتوقف سلسلة ردود الفعل المتبادلة عند هذا الحد؛ لأن الفكر المتطور الذي جاء نتيجة لتفاعل سابق يلعب الآن دور السبب، فيصير حافزا على إشباع حاجات مادية جديدة، وحياة مرفهة تتناسب مع ما وصل إليه صاحب هذا الفكر من تطور1.
وهناك مثل آخر يمكن أن يعزز هذا الفرض المنهجي، وهو وضع العصبية في كل من مجتمعي البداوة والحضارة. ففي مجتمع البداوة نلاحظ أن طبيعة الحياة الخشنة، وشظف العيش يطبع العصبية بعدة صفات أهمها أنها قوة موحدة كلها نشاط وحيوية، قادرة على الدفاع عن الجماعة والسعي من أجل تحقيق أهدافها ضد العصبيات الأخرى والقضاء على الخلافات الداخلية بين أفرادها، والعمل كأداة من أجل دفع عجلة التطور نحو شكل أرقى من أشكال الحياة المادية. وبينما تعتبر العصبية بهيكلها القوي وخصائصها التي تتسم بالحيوية ودورها الكبير في إحداث التغييرات نتيجة مترتبة على هذا النوع من الحياة الصعبة في ظل البداوة، فإن العصبية نفسها وعندما تتهيأ الظروف المادية تلعب دور السبب وتصبح أداة للتغيير، وذلك بالقضاء على نفس هذه الظروف التي خلقتها عندما تقوم الجماعة بفضل عصبيتها بالقضاء على دولة مجاورة وإقامة ملك جديد محلها يتخلى عن الحياة البدوية، وينتقل إلى الحياة الحضرية.
وفي ظل الحضارة تبدأ مرحلة جديدة من التأثيرات المتبادلة -وإن كانت أقل حدة- بين ظروف المعيشة الحضرية ومكونات العصبية، وخاصة دورها الذي يفقد كثيرا من مبررات وجوده. ففي الدفاع تؤدي الحياة الجديدة للجماعة في المدن التي تحميها الأسوار والحراس -بدلا من المعيشة في العراء- إلى تولد مشاعر جديدة غير مألوفة لديها، هي مشاعر الأمن والطمأنينة والاعتماد على الدولة
1 المرجع السابق، صفحتا 42، 43.
في الحماية، وتحل النظم والإجراءات الجديدة للبيئة الحاكمة المستقرة محل سلطة رئيس القبيلة في حل المشاكل الداخلية، ومعاقبة الخارجين على النظام. وعلاوة على ذلك، فإن التشبه بالمدنيات السابقة، وانتحال مهن وطرق سهلة للحصول على الرزق يحل محل وسائل السلب والنهب والغزو التي كانت الجماعات البدائية تلجأ إليها للحصول على ضرورات الحياة. وبذلك تقوم سلطة الملك بعد استتباب الحياة الحضرية بالمهام التي كانت تضطلع بها العصبية كما يتأثر هيكلها، وتنحل الروابط التي كانت تجمع بين أفرادها، وتفقد خصائصها المميزه مثل النشاط والحيوية وحب النزال1. ورغم أن الاضمحلال الكبير الذي يعتري هيكل وخصائص ودور العصبية هو أيضا نتيجة لأسلوب الحياة السائدة -في هذه الحياة الحضرية- فإن رد فعل العصبية الضعيف لهذه التأثيرات لا يقارن برد الفعل الديناميكي للعصبية في الحياة البدوية. وبغض النظر عن دورها في نقل السلطة السياسية بين فروع مختلفة من نفس الجماعة -وهي تغيرات غير ذات بال- فإن العصبية التي ضعفت شوكتها تصبح عمليا غير قادرة على إحداث تغيير سياسي أساسي على النمط الذي قامت به من نقل حياة الجماعة من البداوة إلى الحضارة.
فإذا طبقنا ما ذكر في بداية هذا الفرض المنهجي عن الطبيعة الديناميكية لمناقشات ابن خلدون، فإننا لن نجد أيضا استقطابا جامدا للأسباب والنتائج في دراسته لظاهرة العصبية في كل من مجتمعي البداوة والحضارة. إن العصبية في طورها البدائي النشط، وبخصائصها التي سبق شرحها هي نتيجة لأسلوب الحياة الخشن في ظل البداوة. وعندما تتهيأ الظروف المادية نلاحظ أنها تصبح السبب في تغيير هذا اللون من الحياة الاجتماعية إلى لون آخر تماما في ظل الحضارة، ويستمر التفاعل وتبادل المراكز بين الأسباب والنتائج في ظل نعومة ورفاهية الحياة الحضرية التي تكون سببا هذه المرة في ممارسة العديد من التأثيرات الضارة
1 المقدمة، طبعة وافي، صفحات 422، 423، 453، 454، 480، 481.