الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هكذا احتل العلم الوضعي مكان الفلسفة طبقا لهذا المذهب، واستبعد النزعة الميتافيزيقية والمنطقية الصورية، واستعاض عنها بما أسماه النزعة العلمية التجريبية. فكل موضوع يمكن معالجته بالملاحظة والتجربة يدخل في نطاق العلم، وما عدا ذلك -أي: إن كل موضوع لا يعالج بهذا المنهج التجريبي- يعتبر خارجا عن مجال العلم.
نجمت عن ذلك مشكلة هي أن حصر المعرفة في دائرة الحقائق العلمية الموضوعية، والأنظمة التطبيقية إنما يعني الاقتصار على جانب واحد من المعرفة بدعوى أن الموضوعية الطبيعية هي النموذج الأوحد لكل موضوعية.
أهم أوجه نقد الوضعية:
أثارت تلك المقولات جدلا شديدا بين المدارس والتيارات الفلسفية المختلفة
…
فقد اتهم أتباع التيار التقليدي المعاصر الوضعية بالقصور على أساس أن معرفة الإنسان على سبيل المثال لا يمكن استقاؤها من العلوم التجريبية. بينما هاجم الماركسيون الوضعية؛ لأنها فلسفة مثالية مقنعة تبالغ في التضليل باسم العلم والتجارب العلمية، وأن الوقائع تكذب الوضعيين في ادعائهم بأن هدفهم هو دحض الاتجاهات الميتافيزيقية من أجل إرساء العلوم على أسس متينة. وسنشير فيما يلي بإيجاز إلى أهم نقاط الخلاف بين تلك الفلسفات.
من حيث الشكل، نلاحظ أن أول نقد تقليدي يوجه إلى الوضعية هو أن قانون الحالات الثلاث الذي قرنه أوجست كونت بتطور الفكر البشري هو أقرب إلى مجال الفلسفة منه إلى مجال العلم الوضعي. النقد الثاني يذهب إلى أن استقراء التاريخ يثبت عدم دقة ذلك القانون من حيث إن مراحله كانت متداخلة في بعضها البعض طوال التاريخ البشري.
من حيث الموضوع، اعترض التيار التقليدي المعاصر على الوضعية، انطلاقا من أن البحث عن حقيقة الإنسان في العلوم التجريبية مثلا يمكن أن يتمخص
عن معلومات كثيرة متفرقة، ولكنها ناقصة لا تعبر عن الإنسان كما نعرفه.
فعلم وظائف الأعضاء يمكن أن يفسر الإنسان من حيث هو مركب من أنسجة وأعصاب وعظام وأوعية دموية. وعلم الكيمياء يحلل تلك المركبات إلى عناصرها، وعلم الطبيعة يسهم في تقديم معلومات عما يحتويه الإنسان من بروتونات وإلكترونات. ويصور علم النفس الإنسان على هيئة أحداث عقلية وإحساسات وخيالات، ويزودنا التحليل بمكنونات اللاشعور
…
إلخ. كذلك تسهم العلوم الأخرى كالاقتصاد والاجتماع بدراسات عن الإنسان، كل من زاوية اختصاصه.
غير أن الإنسان يظل في النهاية مغايرا لذلك الركام الضخم من المعلومات، سواء بصورة متفرقة أو مجتمعة. فهذه المعلومات مهما كانت دقيقة تظل ناقصة في التعبير عن حقيقة، وماهية، وجوهر الإنسان ككل.
إن الإنسان ليس مجرد تركيبه من أجزاء أو ذرات من الماء والدهون والكربون والفوسفات والحديد والجير والكبريت والماغنسيوم، كما أن خلط تلك المواد بنسب صحيحة كما أوضحتها التجارب لا يعطينا إنسانا. معنى ذلك أن معرفة طبيعة، وماهية الإنسان تحتاج إلى معرفة شخصيته ككل مترابط، له صفات وخواص ذاتية معينة هي في نفس الوقت أكبر وأعلى من مجموع تلك الأجزاء1.
لهذا فإنه رغم صدق ودقة العلوم التجريبية، فإن التعرف على حقيقة الإنسان كشخصية متكاملة يستلزم ما هو أكثر من البيانات العلمية المتفرقة، ويحتاج إلى منهج آخر غير مناهج العلوم ذلك هو ما يسميه الفلاسفة بالحدس أو التخمين أي: ذلك الإدراك السريع الفطري المباشر القادر على إدراك الإنسان موحدا في كل.
لعل هذا يشرح مقولة: إن الفلسفة تتجاوز مجرد كونها بحثا نظريا أو تأملا عقليا، كما أنها تتجاوز أيضا دراسة العالم الواقعي المحسوم وحقائقه المستمدة
1 زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع سابق، ص81، توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص58، 59.
من التجارب. إن العلم وفقا للتيار التقليدي لا يغني عن الفلسفة في فهم طبيعة الإنسان، أو حقيقة العالم.
يسترسل أنصار الفلسفة التقليدية في دفاعهم عن العقل في مواجهة الحجج الوضعية، فيؤكدون أنه رغم ما يوجه إلى الفلسفة التقليدية من اتهامات حول التحليق في المجهول والانعزال في بروج عاجية، فإنه لا يمكن إنكار فضلها في إيضاح كثير من الحقائق التي أضاءت الطريق أمام العلم التجريبي، كذلك قيامها بوظيفة اجتماعية هامة تمثلت في تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على مجرى التاريخ البشرى، والكشف عن قيم الحق والخير والجمال.
بناء عليه، لا تستطيع الوضعية أن تفرض على العقل الاقتصار على بحث الموضوعات التي يمكن معالجتها بمنهج البحث التجريبي فقط، ذلك أن العقل بطبيعته لا يمكن أن يتوقف عن البحث والتأمل والنظر ومواصلة التفكير في طبيعة الموجودات وحقيقة الأشياء والعلل والغايات البعيدة. تلك هي وظيفة الفلسفة مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن العلم نفسه يستخدم مبادئ كلية كالعلية والحتمية لا تكتسب بالتجربة، ولا تعالج بمناهج العلم.
من ناحية أخرى، لا تستطيع العلوم تغطية كل مجالات الدراسة وموضوعات البحث، وإنما بوسع الفلسفة التقليدية تفادي هذا النقص. يستشهدون على ذلك بتفرقة أرسطو بين الفلسفة الأولى -أي: ما بعد الطبيعة التي تشمل الوجود والمعرفة- وبين سائر العلوم على أساس أن كل علم يتخذ مجالا معينا من مجالات الوجود موضوعا لبحثه، بينما لا يوجد علم من العلوم يعرض للبحث في الوجود بما هو وجود.
تبحث العلوم الرياضية مثلا في الوجود من حيث هو كم، سواء كان عددا "الحساب" أو شكلا "الهندسة"، وتبحث العلوم الطبيعية في الوجود من حيث هو متغير، فتدرس الطبيعة خصائص الأجسام دون نظر إلى طبيعتها، وتدرس الكيمياء تركيب الأشياء وردها إلى عناصرها وهكذا بالنسبة لبقية العلوم.
لكن ليس هناك علم يبحث في الوجود ككل، غير مقسم إلى موجودات محسوسة؛ لأن هذه هي مهمة ما بعد الطبيعة.
يضاف إلى ذلك أن العلوم تفترض وجود مدركات عقلية، أو قضايا أولية تستخدمها كمقدمات دون التدليل على صحتها. فعالم الهندسة الذي يبحث في المكان وطبيعته يفترض أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان مهما امتدَّا، أو أن الكميات المتساوية متى أضيفت إلى كميات متساوية كان الناتج كميات متساوية. بالمثل يفترض عالم الطبيعة وجود المادة ويتقدم من هذا الفرض إلى وضع قوانين
…
وهكذا. المهم أن كل هذه الافتراضات والقوانين تستخدمها العلوم كبديهيات قبلية سابقة على كل تجربة.
على عكس ذلك، فإن البحث في حقيقة المادة أو صحة قانون العلية أو عدم التناقض لا يدخل في مجال العلم، ولا يعالج بمناهجه التجريبية، وإنما هو مهمة البحث الميتافيزيقي في رأي أنصار الفلسفة التقليدية الذين يستندون إلى تلك الفروض لبيان الحاجة إلى ما بعد الطبيعة كوسيلة لإثبات صحة الافتراضات التي تبدأ بها العلوم.
يستخلصون من ذلك أن "العلم قد نشأ في أحشاء الفلسفة، ثم ترعرع ونما في رعايتها حتى إذا استقل عنها أخذ يتوقف في تفسيره للأشياء عند عللها القريبة، ويترك للأم أن تواصل البحث عن العلل البعيدة، والمبادئ القصوى"1 أي: إن المدرسة الوضعية أخطأت في إنكار موضوع الفلسفة التقليدية، أو الظن بأن العلم قد احتل مكانها كما أخطأت في ادعائها أن تلك الفلسفة أصبحت غير ذات موضوع.
اتجهت الفلسفة الماركسية أيضا إلى نقد الوضعية، انطلاقا من أنها لم تكن منذ البداية سوى رد فعل البرجوازية الصاعدة لمذهب القانون الطبيعي السائد
1 المرجع السابق ص290، 291.
وقتئذ. وعلى ضوء تلك النشأة يجب فهم، وتقييم تلك المدرسة التي تعبر عن مصالح طبقية محددة تحاول تغطيتها بكثرة الكلام عن العلم.
رفضت الماركسية ادعاء الوضعية بأن الإنسان في المرحلة الثالثة التي أسمتها الحالة الوضعية يجب أن يهتم فقط بالعلوم التجريبية والنتائج التي تسفر عنها. فالوضعية ترفض -كما أوضحنا- البحث في الوجود ككل أو في الطبيعة كوحدة بحجة منافاة ذلك للعلم، أو بشكل أدق لمنافاته لمفهومها للعلم الذي تظن أنه لا يتناول إلا مجالات متفرقة من الواقع.
بعبارة أخرى: تحبذ الوضعية تفتيت الواقع باسم العلم وإحلال ما يتمخض عن ذلك من علوم متفرقة محل الفلسفة. بذلك تتخلص الوضعية من إحدى المشاكل الأساسية التي تهتم بها الماركسية، وهي تحديد العلاقة بين الوجود والوعي، وهي علاقة لا تستحق الاهتمام في نظر الوضعية؛ لأنها بلا موضوع.
لهذا تحكم الفلسفة الماركسية على الوضعية بأنها فلسفة مثالية، مهما استترت بدعاوى العلم. والمقصود بالمثالية هنا هو المعنى الفلسفي حيث تبدأ من حالة بعيدة عن الواقع، فهي إذًا فلسفة الهروب والابتعاد عن الواقع.
فالوضعية مثالية من هذا المنطلق؛ لأنها تصرف الناس عن الإيمان بحتمية الواقع المادي وقوانينه على أساس أن ذلك الواقع ليس ماديا يتغير وفق قوانين حتمية، وإنما هو عبارة عن مجموعة الخبرات الحسية التي يحصل عليها الإنسان، أي: إن نقطة البدء في الوضعية هي الاحساسات، أي: الذات، وليس الواقع الخارجي.
تضيف الماركسية نقدا آخر ينصب على موقف الوضعية من تاريخ الفلسفة وتصفه بالرجعية؛ لأنها تحاول إنكار الارتباط الوثيق القائم بين الفلسفة والعلم، ولأنها أيضا تتعالى على التراث الإنساني في مجال الفكر الفلسفي. فباسم العلم الحديث تحاول الوضعية التقليل من قيمة العقل البشري، وأفضل إنجازاته التي لا تقدر بثمن وادعاء تعارضها مع ذلك العلم الحديث، مع التشكيك في صحة