الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: الظواهر والقوى السياسية
المبحث الأول: المؤسسات
تزايد في السنين الأخيرة اهتمام علماء السياسة بعدة ظواهر تصلح كمداخل للبحث، وهي ظواهر لم تنل من قبل ما تستحقه من دراسة رغم تأثيرها البالغ والحاسم على المؤسسات السياسية، وعلى المجتمع ككل. من ذلك مثلا ظواهر الاحتجاج بأشكاله وأنواعه المختلفة، وظواهر العنف السياسي وعدم الاستقرار كالثورات والانقلابات والحروب الأهلية، ومحاولات الانفصال والقلاقل والاضطرابات والاغتيالات السياسية1.
لعل مما يوجه الأنظار إلى خطورة تلك الظواهر وضرورة إخضاعها للبحث العلمي ما توصل إليه أحد الدارسين من ارتفاع معدل تكرار حدوث هذه الظواهر بشكل لم يسبق له مثيل من حيث العدد والتنوع والانتشار الجغرافي في العالم كله، حتى بلغ ذلك المعدل حدوث ثورة أو انقلاب واحد كل شهر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية2.
1 David G. Schwartz، "Toward a More Relevant and Rigorous Political Science"، op. cit.، pp. 103، 104.
2 Richard A. Sanger، Insurgent Era، Washington D.C. 1967، 1; D.G. Schwartz Ecology of Political Violence in: American Behavioural Scientist، 2 ، July-Aug. 1968، pp. 24 ff. ibid.، pp. 112، 114;
حول العنف في العلاقات الدولية، والحاجة إلى دراسته وجذوره الأنثروبولوجية والاجتماعية انظر:
T. Mathisen، Methodology In The Study of International Relations، op. cit.، pp. I63، I57 ff.
ظهرت في الوقت نفسه الحاجة إلى عدم التركيز المغالى فيه على ظواهر أخرى مثل الانتخابات وعملية الاشتراك فيها بسبب تدهور أهميتها، ومعدل تكرار حدوثها بالقياس إلى الظواهر آنفة الذكر. ناهيك بالصعوبة المزدوجة التي يواجهها الباحث إذا تعرض للظروف والأحداث التي تكتنف الانتخابات في دول العالم الثالث حيث تنتشر الأمية، وحيث أصبح تزوير الإرادة الشعبية تقليدا ثابتا.
ولا تعني الدعوة إلى الاهتمام المتوازن بالظواهر السياسية المعاصرة الاتجاه إلى إهمال الانتخابات بأي حال من الأحوال، وإنما تعني ترشيد الدراسة السياسية، بحيث تتجه إلى دراسة العراقيل والأسباب التي أدت إلى ضعف فعاليتها كأسلوب ديمقراطي للتعبير عن آراء الأغلبية.
وغير خافٍ أنه في أكثر الدول تقدما في العالم الغربي تسفر الانتخابات بشكل لافت للنظر عن أوضاع غير مستقرة، بل وأحيانا عن أوضاع تزيد من تعقيد الموقف السياسي بدلا من إظهار حقيقة الإرادة الشعبية، وترسيخ القيم الديمقراطية.
وتدل الدراسات السياسية على تزايد الإحجام عن الاشتراك في التصويت بسبب عوامل متعددة لعل منها تفاقم مشاعر الاغتراب لدى كثير من الناخبين في ظل النظام الرأسمالي، وخاصة في الولايات المتحدة، وازدياد حدة الصراع الاجتماعي وعدم المساواة والتمييز العنصري واضطهاد الأقليات.
إذا انتقلنا بعد ذلك لدراسة المؤسسات، سنجد أنها كموضوع للبحث تتمتع بتماسك قلما يتوفر لأي موضوع أو ظاهرة أخرى في علم السياسة، علاوة على أنها أكثر فروعه تفصيلا وإحكاما لاعتمادها على قواعد العرف والنصوص القانونية واستفادتها من دقة المصدر، ووضوح الرؤية1.
1 Marcel Prelot، La Science Politique، op. cit.، p. 83.
لكن لهذا الاصطلاح معانٍ كثيرة بعضها معنوي يتراوح بين أبسط أشكال أنماط السلوك كدفع البقشيش مثلا، وبين أكثرها تعقيدا أو تأثيرا في حياة وقيم المجتمع مثل الملكية الفردية. وغالبا -ولكن ليس ضروريا- يكون للمؤسسات -أي: لأنماط السلوك- حسب هذا المفهوم سيطرة اجتماعية كما أنها في حالات مثل الملكية، والزواج تتمتع بدعم القانون.
يشير اصطلاح مؤسسة أيضا إلى معنى مادي. فقد تكون هناك مؤسسة أو عدة مؤسسات معقدة التركيب يمارس بعضها أشكالا من السيطرة الاجتماعية. إذا أخذنا مصر كمثال، فإن المؤسسات حسب هذا المفهوم تتراوح بين أشكال عدة، منها الدولة والمؤسسات الاقتصادية والأزهر والكنيسة والعائلة التي يتكون من مجموعها شكل ومحتوى المجتمع.
في المجتمع الحديث نلاحظ أن كل تلك المؤسسات تتبادل التأثير، وخاصة تلك التي تتنازع وقت ولاء المواطنين. وفي بعض المجتمعات -كما كان الحال في الصين القديمة مثلا- فإن العائلة كانت هي المؤسسة المهيمنة التي تتولى معظم المهام التي تقوم بها الدولة والكنيسة في مجتمعات أخرى. على عكس ذلك كان الوضع في أوروبا العصور الوسطى حيث كانت الكنيسة كمؤسسة هي التي تبسط سيطرتها. ثم اختلف الحال حين اشتد ساعد النظام الرأسمالي في القرنين التاسع عشر والعشرين فصارت الهيمنة في يد المؤسسات الاقتصادية، والحكومة المركزية1.
أما في العصر الحاضر، فقد انتقل جانب هام من السيطرة إلى مؤسسات دولية "فوق قومية"2 شديدة التعقيد والتشابك -مثل السوق الأوروبية
1 Pennock، Smith، Political Science، op. cit.، pp. 58، 59.
2 T. Mathisen، Methodology ln The Study of lnternational Relations. cp. cit.، pp.، 120، 121.
المشتركة، ومنظمة الكوميكون في أوروبا على سبيل المثال- تؤثر قراراتها في كافة أوجه حياة، وقيم الأفراد في الدول المنضمة إليها، والتي تنازلت عن جانب من سيادتها لتلك المؤسسات.
نناقش فيما يلي بشيء من التفصيل الجوانب المختلفة لاصطلاح مؤسسة من حيث هي مفهوم مادي. لكن أية مؤسسة نعني؟ إن الحكومة ككل يمكن أن تسمى مؤسسة تماما كما يطلق نفس الاصطلاح على البرلمان أو الحزب السياسي أو أية هيئة فرعية من فروع الحكومة. فبينما يمكن بسهولة أن نطلق اصطلاح مؤسسة على كثير من الهيئات، فإننا لا نستطيع بنفس السهولة أن نعرف الاصطلاح نفسه. هكذا تصبح المشكلة هي البحث عن الخصائص التي تميز الحكومة، أو أي فرع منها لتبرير استعمال ذلك الاصطلاح.
لن يكون مقبولا أن ننظر إلى المؤسسة على أنها المبنى الذي يحتويها، كما أنه ليس كافيا الاقتصار على اعتبار المؤسسة مجموعة مكاتب أو وكالات، لكل منها وظائف وسلطات معينة. إن المؤسسة لكي تعمل لا بد لها من أفراد يعملون ويتفاعلون، لكل منهم وضعه ودوره.
على هذا الأساس يمكن القول: إن المؤسسة هي تلك التي تشتمل على نشاطات عدد من الناس يميزهم نمط سلوك موحد ومنظم بشكل ما. هذا مع ملاحظة أنه ليس من الضروري أن يكون كل المشتركين في نشاط المؤسسة ممن يشغلون مناصب بها، فالناخبون مثلا قد لا يشغلون مناصب في المؤسسات الحكومية، ومع ذلك يشاركون في نشاطاتها1.
1 Charles B. Hagan" The Group in a Political Scien" in: Roland young، cd.، Approaches to the Study of Politics op. cit.، p. 46، cited by Dyke، op. cit.، p. 136; Herbert Mc-Closky، Political Inquiry، The Nature and Uses of Survey Research، London 1969، p. 44.
رغم عمومية هذا التعريف، فإنه لا يعكس المعنى المطلوب عندما يشار مثلا إلى الحرب، أو المصلحة العقلية كمؤسسة، مما قد يعطي انطباعا بأنه ما من تعريف سيعكس كل استعمالات هذا المصطلح.
لكن إذا أردنا تعريفا عاما ومختصرا، فقد نقول: إن المؤسسة هي أية مجموعة من التوقعات والنشاطات التي يتوفر لها عنصر الاستمرار، أو هي أي نمط مستقر ومعترف به من سلوك جماعة ما أو مجتمع بأسره. يعني هذا ضمنا توفر قدر من الانسجام في هذا السلوك يكفل التوفيق بين المصالح والعمل مع الآخرين، من أجل تحقيق الأهداف المشتركة، بينما يؤدي انتهاكه أو عدم مراعاته إلى الاضطراب وعدم الاستقرار بين صفوف الجماعة لتهديده للقيم المرعية1.
يترتب على ذلك أن مضمون المدخل المستخدم في هذه الحالة سيتغير حسب تعريف كلمة مؤسسة. فإذا كان التعريف المأخوذ به هو الذي ينظر إلى المؤسسة على أنها واحدة من المؤسسات الحكومية بمكاتبها ووكالاتها، فإن البحث حول الحكومة سيتأثر بذلك بالتالي وتصبح الدراسات السياسية طبقا لهذا المفهوم محدودة وضيقة، فتتناول مثلا مستوى الحكومة وما إذا كانت اتحادية أو محلية، ثم فرع تخصصها وهل هو تنفيذي أو تشريعي أو قضائي؟ يتبع ذلك دراسة تكوين ووظائف كل فرع والعلاقات المتبادلة بينها مع الاهتمام بالإجراءات الدستورية والقانونية.
بالمثل، فإن دارسي السياسة الدولية الذين يستعينون بنفس المدخل يميلون إلى دراسة المواضيع التي يمكن فيها الاستعانة بمواثيق المنظمات، والاستشهاد بأحكام القانون الدولي. يفسر هذا الاهتمام الكبير بهيئة الأمم المتحدة والوكالات
1 lbid.، pp. 136، 137، Pennock، Smith، Political Science op. cit.، pp. 49، 50، 58.
المتعددة المرتبطة بها، والدراسات المفصلة لنصوص الميثاق والنظم الأساسية للهيئات ومحكمة العدل الدولية.
يعيب هذا المدخل أخذه بمفهوم ضيق لاصطلاح المؤسسات السياسية، مما يترتب عليه توجيه عدة انتقادات لذلك المدخل، أهمها ما يأتي:
- الميل الذي ساد بين علماء السياسة حتى وقت قريب؛ لإهمال الإنسان كفرد1 نتيجة لانشغالهم بدراسة المؤسسات، فتركوا الدراسات الخاصة به إلى علماء الاجتماع والنفس؛ ليطوروا الطرق الفنية لدراسة السلوك الانتخابي، واكتشاف العلاقات السياسية وغيرها من أنواع السلوك.
- الميل الذي ساد بينهم أيضا لإهمال مادة السياسة الدولية. وحيث إنه لم تكن هناك ولمدة طويلة مؤسسات دولية تماثل الدولة أو الحكومة، فقد تخلوا عن ذلك المجال للمؤرخين ورجال القانون. حتى الكتب التي أخذت على عاتقها وضع مقدمات لعلم السياسة، أو دراسة مبادئه اكتفت بالتركيز على السياسة الداخلية أو طرح أسئلة عن التنظيم السياسي والقانون. ولعل شيوع اصطلاح العلاقات الدولية بدلا من السياسة الدولية، يعد مؤشرا لعدم القدرة على التفكير في السياسة في غيبة المؤسسات الحكومية.
- الميل لإهمال دور العنف والتهديد به في مجال السياسة نتيجة للمفهوم الضيق السابق لاصطلاح المؤسسات. أما الواقع العملي فيتناقض مع ذلك كما سبقت الإشارة في بداية هذا البند. لقد ظهر عدد غير قليل من دول العالم إلى حيز الوجود باستخدام العنف، كما تمكنت هذه الدول عن طريقه أيضا من رسم حدودها. وفي داخل نفس الدول فإن بعض الحكومات تستولي على السلطة أو تفقدها بسرعة كبيرة بواسطة الحروب الأهلية، أو الانقلابات. هذا علاوة على
1 قارن الوضع المقابل بين عدد من علماء السياسة في ألمانيا الاتحادية بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل للاتجاه المتطرف للنازية في سحقها للإنسان.
Marcel Prelot، La Science Politique، op. cit.، pp. 84-85.
أن الشغل الشاغل لكثير من تلك الحكومات هو إما التحضير للحرب، أو وضع الخطط والاستعداد لصد العدوان الخارجي.
وعندما ينحصر مفهوم المؤسسات في المكاتب والوكالات والمواثيق التي تقننها، فإنه لا مكان للثورة أو الحرب، ويعتبر كل من الحرب الأهلية والعالمية في هذه الحالة شيئا غريبا على السياسة؛ ومن ثم يفشل علماؤها في تقييم الأحداث السياسية الهامة1.
ليس معنى ذلك أن كل اختيار للمؤسسات السياسية كمدخل للدراسة لا بد وأن يكون ذا مفهوم ضيق، بل يمكن الأخذ بتعريف أوسع -كما أسلفنا- ينظر إلى المؤسسة كنموذج مستقر ومعترف به لسلوك الجماعة يعكس الانسجام، والتناسق في سلوكها مما يحث الأفراد أيضا على الطاعة والنظام. بهذا المفهوم الواسع للمؤسسات يمكن العثور على المعايير الواقعية للاختيار التي نبحث عنها، وإن كان ليس بالقدر المأمول، أي: إنه في حالة تبني ذلك المدخل يتحتم الاستعانة بمدخل آخر للبحث لضمان سد الثغرات.
1 Dyke، pp. 137-138، D. C. Scwartz، "Toward a More Relevant ant Rigorous Political Science، op. cit.، pp. 115-116.
يحوي هذا البحث الهام الأخير في جانب منه ما يمكن اعتباره دليلا على الفشل المشار إليه، إذ أجرى شفارتز تحليلا ذا مغزى لمحتويات الدراسات التي نشرت خلال الفترة من عام 1960 إلى 1970 في سبع من أشهر الدوريات العلمية في العلوم السياسية، وأوسعها انتشارا بالولايات المتحدة. ومن بين مئات المقالات التي نشرت خلال تلك الأحد العشر عاما لم تركز أي منها بصفة أساسية على مشاكل التجمهر السياسي، وسلوك ما أسماه "بالرعاع" والاضطرابات السياسية ومظاهر الاحتجاج المختلفة. ولم تكن هناك سوى مقالة واحدة عن الاضطرابات في المدن الأمريكية، وأخرى عن الاغتيالات السياسية في الولايات المتحدة خلال الستينات، وست مقالات فقط عن الاحتجاجات السياسية. بينما تناولت أغلبية الدراسات مشاكل الانتخابات والاشتراك فيها. انظر في ذلك البحث أيضا الجداول التفصيلية، والنسب المئوية لتكرار تلك الظواهر، وذلك في الصفحات المشار إليها.