الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأهداف المباشرة للتعليل. إن مزاولة النظر العقلي المجرد تغير نظرة صاحبها إلى الوقائع والأحداث، وتساهم في توجيه حياته، ولو لم يقصد بنظره العقلي هذا التوجيه المستنير.
يرى الناقدون للماركسية كذلك أن التفرقة بين النظر والعمل لم تمنع المجتمع البشري من أن يفيد من الاكتشافات العلمية؛ لأن العلم الذي يكون نظريا اليوم قد يتحول غدا إلى علم تطبيقي. فالعلوم الطبيعية التي يعتقد الناس أنها ذات صلة وثيقة بالحياة العملية كانت أصلا دراسات من أجل تفسير ظواهر الكون باستخدام مناهج تجريبية، دون وجود غاية عملية مباشرة. وبينما تنحصر مهمة الباحث عن وجهة النظر هذه في التوصل إلى القانون، أو النظرية التي تحكم تلك الظواهر، فإن الاستفادة العملية من القانون أو النظرية من شأن المخترعين، ورجال الأعمال1.
1 توفيق الطويل، أسس الفلسفة، 79، 80.
2 William James، Pragmatism "and four essays from The Meaning of TruTh"، Meridian Cleveland New York 1963، first printing of combined edition 1943، p. 43، cf، A. Brecht، Political Theory، op. cit.، p. 537.
المبحث الخامس: البراجماتية
مدخل
…
المبحث الخامس: البراجماتية
Pragmatism
ظهرت البراجماتية "أي: الفلسفة العملية" في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وساهم في وضع أسسها ثلاثة من المفكرين الأمريكيين هم: تشارلس بيرس "1839-1914"، ووليم جيمس "1842-1910"، وجون ديوي "1859-1952". ويعتبر تشارلس بيرس هو أول من استخدم البراجماتية كلفظ فلسفي عام 1878 - 2.
تتلخص أهم اتجاهات هذه الفلسفة في توجيه العقل إلى العمل دون النظر، بمعنى أن ينصرف العقل عن التفكير في المبادئ والأوليات إلى البحث في النتائج والغايات. وتنظر البراجماتية إلى المعرفة كأداة للعمل المنتج وتضع
معيارا عمليا للتحقق من صدق أية فكرة، يتجلى في قياس مدى قدرتها على إثبات نفسها. بذلك يصير المعيار هو المنفعة وليس حكم العقل أي: تكون المنفعة هي المحكّ الوحيد لصدق الأحكام العقلية وصواب الأفكار.
من جهة أخرى، تذهب البراجماتية إلى أن الحكم العقلي يكون صادقا متى تحقق الإنسان من صدقه بالتجربة، وبدون هذا التحقق لا يوصف الحكم بالصدق أو بالكذب. بذلك يصير الحق من وجهة نظر هذه المدرسة هو "التحقق" من منفعة الفكرة بالتجربة.
إن الحق عند تشارلس بيرس مثلا يقاس بمعيار العمل المنتج، وليس بمنطق العقل المجرد، وما الفكرة إلا خطة للعمل وليست حقيقة في ذاتها كما ذهب أتباع المذهب العقلي. والفكرة التي لا تنتهي إلى سلوك عملي في الحياة الواقعية هي فكرة باطلة، أو غير ذات معنى يعول عليه، أي: إن الفكرة هي ما تنتهي إليه من نتائج وآثار. ثم يضرب لذلك مثلا فيقول: إننا نجهل حقيقة الكهرباء ولكننا نعرف ما تحققه لنا من منافع. فمعنى الكهرباء يقوم في الآثار التي تتخلف عنها في حياتنا اليومية، ولا عبرة بمعرفتنا العقلية لها.
بالمثل، اعتبر بيرس أن الاعتقاد هو من نوع الأفكار. فالاعتقاد أو الدين حق متى دل على سلوك عملي، وإلا كان خلوا من كل دلالة. وانتهى إلى ضرورة تطبيق مناهج البحث العلمي على الفلسفة بحيث يتوقف التسليم بفكرة ما على ما يترتب عليها من سلوك عملي. لهذا تطلع إلى إنشاء ما أسماه بمجتمع معملي يقوم على نفس المنهج الذي يستخدمه العالم في معمله حتى يتيسر التوصل إلى الصواب أو الحق الذي لا يمارى.
إلا أن الفلسفة البراجماتية ارتبطت أكثر باسم ويليام جيمس الذي اعتبر أن المنهج البراجماتي هو أولا وقبل كل شيء منهج لحل الخلافات الميتافيزيقية التي لولاه لظلت قائمة بلا حل. ثم يتساءل جيمس: هل العالم واحدي أو متكثر؟ مسير أم حر؟ مادي أم روحي؟ ويلاحظ أن الخلافات حول تلك الأفكار هي
خلافات لانهائية، وفي رأيه أن مهمة المنهج البراجماتي في مثل تلك الحالات هي محاولة تفسير كل فكرة منها بتتبع، أو استقصاء نتائجها العملية1.
يعتقد جيمس أن الفكرة الصادقة هي تلك التي تؤدي إلى النجاح في الحياة، وأن الاعتقاد أو الدين الصحيح هو الذي ينتهي إلى تحقيق أغراض نافعة في دنيا الواقع. يترتب على ذلك أن الأفكار والمعتقدات لا تطلب لذاتها بشكل مجرد، وإنما كوسائل لتحقيق أغراض في دنيا الواقع.
إن الحق ليس مجرد صفة عينية تقوم على طبيعة الفكرة، أو العقيدة كما زعم الفلاسفة الصوريون، وإنما هو قابلية الفكرة لأن تكون أداة للسلوك العملي في الواقع. وفي ذلك يقول وليام جيمس:"إن التفكير هو أولا وأخيرا ودائما من أجل العمل، كما أن الحق ليس إلا التفكير الملائم لغايته"2.
في مجال الأخلاق، يعتبر السلوك الإنساني فاضلا متى حقق نفعا للإنسان، وبذلك يصبح معيار الصواب والخطأ هو القيمة المنصرفة أو الفورية Cash Value في دنيا الواقع، وينتفي وجود الحق في ذاته بعيدا عن ظروفه، أي: يصبح الحق كالسلعة، قيمتها تقدر بثمنها الذي يدفع فيها فعلا في السوق.
يتمثل الشق الثاني من البراجماتية -كما شرحه جيمس- في موضوع التحقق أو التجربة، فصدق الفكرة أو صوابها هو عملية التحقق منها بالتجربة. وبهذا التفسير يتحول الحق إلى "التحقق" من منفعة أو فكرة بالتجربة، وذلك استنادا في نظره إلى أن العلم يجعل النظرية أداة للسيطرة على الطبيعة.
انطلاقا من ذلك يعتبر جيمس أن الصراع بين النظريات المختلفة عبث، وأن انشغال الباحثين بمحاولة إثبات أيها حق وأيها باطل هو مضيعة للوقت
1 W. James، Pragmatism، op. cit.، p. 42،
توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص63، 394، 395.
2 A. Wolf، Recent and Contemporary Philosophies. 566، 577.
استشهد به الدكتور توفيق الطويل، مرجع سابق، ص394-396.
لأنه لن يؤدي إلى نتيجة تؤثر في السلوك العملي، كما هو الحال مثلا في النزاع بين الماديين والروحيين.
لكنه يستدرك قائلا: إن النظر إلى مستقبل العالم يرجح كفة المذهب الروحي؛ لأنه يملأ الإنسان أملا وتفاؤلا وقدرة على تحمل مصاعب الحياة. ينطبق ذلك على كل نزاع بين نظريتين حيث يبين أن قيمة أي رأي هي في منفعته للحياة، وصدقه يتوقف على تلك المنفعة ثم يستخلص من ذلك أن الحق في ذاته لفظ أجوف لا يحمل معنى.
حول العقيدة، تتخذ البراجماتية نفس الموقف الانتهازي. فهي لا تؤمن بوجود الله "س" كموقف مبدئي، وإنما تبدي استعدادها للاعتراف بصدق العقيدة الدينية إذا ترتبت عليها فوائد علمية في الواقع اليومي. أي: إنها تعلق اعترافها على ظهور النتائج العملية للدين، والتأكد من قيمته المنصرفة. يعترف جيمس بذلك فيقول:
"أخشى أن تكون محاضراتي السابقة -التي اقتصرت على نواحٍ إنسانية وبشرية- قد تركت لدى الكثير منكم انطباعا بأن البراجماتية تعني من الناحية المنهجية الابتعاد عما هو فوق البشر "الخالق". لقد أظهرت في الواقع احتراما قليلا إزاء المطلق
…
ومن وجهة نظر المبادئ البراجماتية، فإنه إذا كان فرض وجود الله يلعب دورا مرضيا بأوسع معاني الكلمة، فإنه يكون فرضا صحيحا". ويعزو برتراند راسل موقف جيمس إلى تأثره بمثالية بيركلي مع معاناته من الشك في وجود الخالق، مما دفعه إلى إحلال الإيمان بالله محل الله نفسه؛ وذلك نظرا لما للإيمان من فوائد نفعية.
ويتضح الموقف الخطر من الإيمان الذي تتخذه هذه الفلسفة الأمريكية من تلاعبها بذلك الموضوع الحساس، ورغبتها في تسخير العقيدة لأهداف سياسية. فالمشكلة لديها ليست الإيمان بالخالق أو بدين معين، وإنما المشكلة هي ضرورة الانتظار حتى يتضح أي الأديان أقدر على يلعب دورا أحسن
في المستقبل "من وجهة نظرها طبعا". ويشرح ويليام جيمس رأيه بقوله:
"يجب على البراجماتية أن تؤجل إعطاء إجابة جامدة؛ لأننا لا نعلم بعد بشكل يقيني أي أنواع الدين يمكن أن يلعب دورا أحسن على المدى البعيد"1.
المفكر الأمريكي الثالث الذي ساهم في تطوير البراجماتية هو جون ديوي. لم يختلف هذا عن سابقيه من حيث النظر إلى الحق على أساس أنه التحقق من منفعة الفكرة عن طريق التجربة. كما اتفق مع مقولة: إن صواب العقيدة تتوقف على نتائجها العملية، أو قيمتها المنصرفة كما سبقت الإشارة.
أسهم جون ديوي في مجال البراجماتية بمذهب جديد أسماه مذهب الذرائع، وقصد به أن الفكر ما هو إلا وسيلة أو ذريعة في خدمة الحياة. يتلخص ذلك المذهب في المطالبة بتطبيق منهج البحث العلمي في شتى مجالات التفكير، وخاصة مجال القيم في السياسة والأخلاق والجمال بهدف تغيير القيم لتلائم ظروف الحياة. والمنهج العلمي من وجهة نظره هو الأسلوب الذي يلجأ إليه الباحث للخروج من نطاق الفكر إلى نطاق العمل.
اعتبر ديوي أن الحياة تقوم بعملية تنسيق بين الفرد وبيئته، وأن العقل أداة لترقية الحياة وليس أداة للمعرفة، فاتسع معنى البراجماتية لديه بحيث أصبح صواب الفكرة، أو المبدأ يعني تكيفه مع حياة الآخرين ومعتقداتهم، وليس مع حياة الفرد العملية فقط.
إن الناس من وجهة نظره لا يزاولون التفكير إذا كانت حياتهم سهلة لينة، وهم لا يضطرون إلى التفكير إلا إذا واجهتهم المصاعب. حينئذ
1 W. James. Pragmatism op. cit، pp. 192. 193، B. Russel، History of Westren Philosophy، op. cit.، p. 846،
حول الموقف اللامبدئي للفلسفات المثالية من الدين، والإيمان انظر المقدمة أعلاه.
يكون مقياس صحة تفكيرهم هو مدى ما يحققونه من نجاح. فكل بحث وراء الحقيقة ليس إلا طريقة لإيجاد وسائل تخدم حياتنا العملية، أي: إن الفكرة خطة يراد بها تحقيق فعل من الأفعال1.
وقد امتدح جيمس ذلك الإسهام بقوله: إن الأفكار، وهي جزء من تجربتنا تصبح صحيحة بقدر ما تساعدنا على الدخول في علاقات مرضية مع جوانب أخرى من تجربتنا. وأية فكرة تحملنا بنجاح من جانب من تجربتنا إلى جانب آخر، رابطة الأشياء بشكل مرض، وتعمل بأمان، وتبسط الأمور، وتوفر الجهد هي فكرة صحيحة، أي: صحيحة كوسيلة أو كذريعة. هذه هي النظرة الذرائعية إلى الحق، أو يمكن القول: إن الحق في أفكارنا يعني قوتها وقدرتها على "العمل".
من هذا يتضح أن البراجماتية تختلف مع الفلسفة التقليدية من حيث المفهوم والوظيفة. فالبراجماتية تنفر من تبديد النظر العقلي في حقيقة الكون وطبيعة الموجودات ومبدئها ومصيرها. وهي أيضا لا تقصر الفلسفة على مجرد البحث الأكاديمي في المبادئ العامة، والعلل الأولى.
من جهة أخرى اختلفت البراجماتية مع الوضعية المنطقية. فقد رأينا كيف اتجهت تلك الفلسفة الأخيرة إلى اعتبار القضايا الميتافيزيقية غير ذات معنى، وإنكار إمكانية وصفها بالصدق أو الكذب. على العكس من ذلك اتجهت البراجماتية إلى قبول المعاني الميتافيزيقية دون بحثها عقليا إذا ترتبت على قبولها منفعة أو فائدة عملية. إن مهمة الفيلسوف ليست بحث المشاكل ووضع النظريات حلا لها، وإنما تحولت الفلسفة في مفهوم تلك المدرسة لتصبح مجرد رجل يفكر لتحقيق منفعة عملية، وصارت آية الحق النجاح وآية الباطل الفشل.
1 John Dewey، "Development of Americcan Pragmation"، in: Contemporary American Philosophy Vol. II، pp.
W. James، Pragmatism op. cit.، p. 49; cf Th. Oizerman، Problems of The History of Philosophy، op. cit.، p. 452.