المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفرض الأول: التعليل الاقتصادي الاجتماعي - مناهج البحث في العلوم السياسية

[محمد محمود ربيع]

فهرس الكتاب

- ‌الفهارس:

- ‌المقدمات:

- ‌مقدمة الطبعة الثانية:

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: نبذة عن أهم المدارس والتيارات الفلسفية وعلاقتها بمناهج البحث

- ‌الفصل الأول: مفهوم الفلسفة في العصور القديمة

- ‌المبحث الأول: النشأة

- ‌المبحث الثاني: التعريف

- ‌المبحث الثالث: موضوع الفلسفة

- ‌الفصل الثاني: مفهوم الفلسفة في العصر الوسيط

- ‌المبحث الأول: مفهومها لدى فلاسفة الغرب المسيحيين، وفلاسفة العرب المسلمين

- ‌ مفهوم الفلسفة لدى فلاسفة الغرب المسيحيين:

- ‌ مفهوم الفلسفة لدى فلاسفة العرب والمسلمين:

- ‌المبحث الثاني: منهج البحث الإسلامي

- ‌المبحث الثالث: منهج ابن خلدون

- ‌مدخل

- ‌الفرض الأول: التعليل الاقتصادي الاجتماعي

- ‌الفرض الثاني: التفسير المادي لبعض عناصر العمران

- ‌الفرض الثالث: العلاقة الديناميكية بين الأسباب، والنتائج

- ‌الفرض الرابع: القيود المفروضة على التعليل المثنوي، والميتافيزيقي

- ‌الفصل الثالث: مفهوم الفلسفة في العصر الحديث

- ‌المبحث الأول: المذاهب والتيارات الجديدة

- ‌المبحث الثاني: المنهج في كتابات بيكون وديكارت

- ‌مدخل

- ‌فرانسيز بيكون

- ‌رينيه ديكارت:

- ‌الفصل الرابع: مفهوم الفلسفة لدى مدارس الفكر المعاصر

- ‌المبحث الأول: التيار التقليدي المعاصر

- ‌المبحث الثاني: الوضعية الكلاسيكية

- ‌مدخل

- ‌أهم أوجه نقد الوضعية:

- ‌المبحث الثالث: الوضعية المنطقية

- ‌مدخل

- ‌أهم أوجه نقد الوضعية المنطقية:

- ‌المبحث الرابع: الماركسية

- ‌مدخل

- ‌أهم أوجه نقد الماركسية:

- ‌المبحث الخامس: البراجماتية

- ‌مدخل

- ‌أهم أوجه نقد البراجماتية:

- ‌المبحث السادس: الوجودية

- ‌مدخل

- ‌أهم أوجه نقد الوجودية:

- ‌الفصل الخامس: كلمة ختامية حول المادية والمثالية في الفلسفة

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: المذهب المادي

- ‌المبحث الثاني: المذهب الروحي

- ‌مدخل

- ‌مذهب الروحية المتكثرة:

- ‌الباب الثاني: المفهوم الليبرالي لمداخل ومناهج البحث

- ‌مدخل

- ‌الفصل السادس: العلوم الأكاديمية

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: المدخل التاريخي

- ‌المبحث الثاني: المدخل الاقتصادي

- ‌المبحث الثالث: المدخل الاجتماعي

- ‌المبحث الرابع: المدخل الجغرافي

- ‌المبحث الخامس: المدخل الفلسفي

- ‌الفصل السابع: الظواهر والقوى السياسية

- ‌المبحث الأول: المؤسسات

- ‌المبحث الثاني: القانون

- ‌المبحث الثالث: السلطة

- ‌المبحث الرابع: التأثير والقيم

- ‌المبحث الخامس: عملية صنع القرار

- ‌مدخل

- ‌أولا: نوعية القرار من حيث الجهة التي تصنعه

- ‌ثانيا: نوعية القوى والعوامل والأساليب المؤثرة في صنع القرار

- ‌المبحث السادس: الأهداف والوسائل

- ‌الفصل الثامن: الفروض والنظريات

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: مداخل بحث تركز على التأثيرات البيئية

- ‌المبحث الثاني: مداخل بحث تركز على الاعتبارات الايديولوجية

- ‌مدخل

- ‌تحفظات على استخدام المدخل الأيديولوجي:

- ‌المبحث الثالث: المدخل السلوكي

- ‌الفصل التاسع: المفهوم الليبرالي لمناهج البحث

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: منهج التحليل

- ‌المبحث الثاني: المناهج الكمية والكيفية

- ‌المبحث الثالث: المناهج الاستقرائية والاستنباطية

- ‌المبحث الرابع: المنهج المقارن

- ‌الباب الثالث: المفهوم الماركسي لمناهج البحث

- ‌الفصل العاشر: الميتافيزيقية والجدلية

- ‌المبحث الأول: أسباب الخلاف المنهجي بين الليبرالية والماركسية

- ‌المبحث الثاني: المنهج الميتافيزيقي

- ‌الفصل الحادي عشر: تطور المنهج الجدلي

- ‌المبحث الأول: المنهج الجدلي المثالي

- ‌المبحث الثاني: المنهج الجدلي المادي

- ‌الباب الرابع: البحث العلمي في السياسة

- ‌الفصل الثاني عشر: العلم والمنهج

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: شروط ارتقاء المعرفة إلى مرتبة العلم

- ‌التحقيق من صحة المعرفة

- ‌ المنهجية:

- ‌ الشمول والعمومية:

- ‌المبحث الثاني: خطوات المنهج العلمي

- ‌المبحث الثالث: أساليب حديثة لزيادة فعالية خطوات المنهج العلمي

- ‌المراجع:

- ‌المراجع العربية:

- ‌المراجع الإنجليزية:

- ‌المراجع الفرنسية:

- ‌فهرس الأعلام:

الفصل: ‌الفرض الأول: التعليل الاقتصادي الاجتماعي

على بعض النقاط التي تميز علم العمران الجديد. وهذه النقاط التي لم يختلف عليها أحد من العلماء المتزنين هي: عمق وأصالة الأسلوب الذي انتهجه في دراسة المعلومات الاجتماعية والتاريخية، والتي كانت ميدانا خصبا لدراسات سابقة متعددة تنقصها المعالجة المنهجية1، اتجاهه العلمي الواضح والتزامه بالموضوعية وعدم التحيز، وأخيرا الطبيعة العلمية للاستنتاجات التي توصل إليها. فإذا كان معظم العلماء قد أثنى كل بطريقته -ومن زاوية اهتمامه- على علم العمران الجديد الذي ألفه ابن خلدون، لماذا إذًا نجد صعوبة في العثور على حد أدنى من الاتفاق على الصفات العامة التي تميز فكره، كما هو الحال في تصنيف المفكرين وتعريفهم طبقا للطابع الغالب، والمميز في كتاباتهم؟ هل يعني ذلك أن أسلوب تفكيره ومنهج العلم الجديد يفتقران إلى خط واضح، وطابع مميز؟ هذا هو السؤال الذي لا يزال يحتاج إلى إجابة.

في رأينا، هناك أربعة فروض أساسية يستند إليها منهج ابن خلدون:

الأول: التعليل الاقتصادي الاجتماعي.

الثاني: التفسير المادي لبعض عناصر العمران.

الثالث: العلاقة الديناميكية بين الأسلوب والنتائج.

الرابع: القيود المفروضة على التعليل المثنوي، والميتافيزيقي.

1 Pitirim Sorokin، Society، Culture and personality New York 1962. p. 20 also his book Social and Cultural Dynamics، New York 1937، Vol. 2 p. 155، Footnote 20.

ص: 61

‌الفرض الأول: التعليل الاقتصادي الاجتماعي

سنناقش هنا ثلاث نقاط لاختبار مدى صحة هذا الفرض، وهذه النقاط هي: تقييم ابن خلدون للدور الذي يلعبه أسلوب المعيشة، وتقسيم العمل والتخصص، وأخيرا دور العمل في العلاقات الاجتماعية.

ص: 61

1-

استخدام ابن خلدون أسلوب المعيشة كمعيار أساسي في التفرقة بين شكلي المجتمعين الأساسيين اللذين لاحظهما في جولاته الواسعة، وهما مجتمع البداوة1 ومجتمع الحضارة، والأول مجتمع يستنفد أفراده طاقتهم في إشباع حاجات الحياة الضرورية من طعام ومأوى عن طريق الصيد أو تربية الماشية أو الزراعة، وبمجرد انتقال أفراد مثل هذا المجتمع البدائي من حياتهم البدوية "أي: البدائية" الصعبة إلى حياة المدينة السهلة، وتغير أسلوب معيشتهم فإن كل صفاتهم وطبائعهم تتغير بالتالي. ونظرا لأهمية هذا الفرض المنهجي نسجل رأي ابن خلدون بالتفصيل:

"اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش. إن أهل البدو هم المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وإنهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد، ومقصرون عما فوق ذلك من حاجي أو كمالي. وهؤلاء سكان المدن والقرى والجبال.. الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان. ومن هؤلاء من ينتحل في معاشه الصنائع، ومنهم من ينتحل التجارة. وتكون مكاسبهم أنمى وأرفه من أهل البدو؛ لأن أحوالهم زائدة على الضروري ومعاشهم على نسبة وجدهم.. فيتخذون القصور والمنازل، ويجرون فيها المياه

فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة. ولهذا نجد التمدن غاية للبدوي يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها. ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف وعوائده عاج إلى الدعة، وأمكن نفسه إلى قياد المدينة"2.

1 بمعنى المجتمع البدائي. انظر تفصيل ذلك في:

M. Mahdi، lbn Khalduns Philosophy of History، op. cit.، pp. 193، 194.

2 اعتمدنا في بحثنا على نسخة من المقدمة، أشرف على طبعها الدكتور علي عبد الواحد وافي "سنشير إليها فيما بعد باسم/ المقدمة طبعة وافي" وهي أصلح الطبعات للأغراض العلمية بما احتوته من ضبط وتصحيح للأخطاء الشائعة في الطبعات الأخرى، وإضافة للفصول الناقصة. انظر الطبعة الأولى، 4 أجزاء، القاهرة 1957 صفحات 407-414.

ص: 62

يتبين من هذا أن وسائل المعيشة التي يستخدمها الإنسان تلعب دورا هاما في تمييز ابن خلدون بين مجتمعي البداوة والحضارة. فالوسائل البدائية البسيطة التي يلجأ إليها الإنسان في الصحراء أو التلال تؤدي إلى شكل بدائي بسيط من أشكال الحياة، بينما تؤدي الوسائل المتطورة إلى شكل معقد ومتقدم من أشكال الحياة، ووجود الناس البدائيين في الصحارى والتلال سابق على وجود القرى والمدن. وبالمثل، فإن العادات تتولد نتيجة لشيوع الرفاهية تالية زمنيا لانتشار العادات التي تنتج عادة من مجتمع يعاني من شظف العيش، أو لا يعرف سوى إشباع ضروريات الحياة. وموضوع دراسة ابن خلدون هنا هم الناس في ارتباطهم بشكل معين من أشكال الإنتاج في حياتهم الواقعية التي يمكن ملاحظتها، وقياس درجة تطورها وليس في عزلة تصورية من وحي الخيال. فدرجة تطورهم إذًا تتوقف على الطريقة التي يحصلون بها على معاشهم. وفي الواقع لم يكن ابن خلدون ليقنع بمقارنة عادية بين أسلوب وأسلوب آخر متطور لحياة البشر، ولكن كان مهتما بتتبع آثار الانتقال من أسلوب إلى آخر على الأشكال الحضارية المختلفة، والطابع المميز للجماعات البشرية.

2-

وقبل أن نتكلم عن رأي ابن خلدون في الوسائل التي يلجأ إليها الإنسان لمواجهة عجزه كفرد عن إشباع حاجاته اليومية -أو ما اصطلح على تسميته فيما بعد بظاهرة تقسيم العمل-نلاحظ أنه كان يتمتع بمعرفة عميقة للحياة الاقتصادية التي عاصرها، وبدور القوى المؤثرة في التطور الاجتماعي، وهي حقيقة تتجلى في النقاط الثلاث التي نتعرض لمناقشتها الآن. ومما يدعو إلى الدهشة بالنسبة إلى مستوى التطور في القرن الرابع عشر أنه أظهر فهما تاما لهذه القوى المؤثرة التي تعبر عن نفسها في القوى المنتجة في المجتمع "سواء البدوي، أو الحضري" والعلاقات التي تنمو بين الناس من أجل الحصول على الضروريات، أو كماليات الحياة. ففي الباب الأول من المقدمة "في العمران البشري على الجملة" شرح ابن خلدون

ص: 63

بعض السمات الأساسية لظاهرة تقسيم العمل، والأسباب الاقتصادية التي تجعلها ظاهرة لا يمكن الاستغناء عنها.

"إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء، وغير موفية له بمادة حياته منه.. فلا بد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف. وكذلك يحتاج كل واحد منهم أيضا في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه"1.

حقيقة: إن ابن خلدون -بسبب ظروف البيئة التي عاش فيها- لم يكن دقيقا تماما في اعتباره أن القبيلة هي الشكل الأول من أشكال الجماعات البشرية وفاتته الأشكال المتعددة التي سبقت تشكيل القبيلة، ولكنه كان واعيا بمغزى تقسيم العمل كظاهرة متغيرة مرتبطة بالنواحي المادية للحياة الاجتماعية. فهو لم يعتبرها ظاهرة ساكنة بلا حراك، تتحكم فقط في الأشكال المبكرة من التنظيم الاجتماعي البشري، بل لاحظ أيضا تأثير تطور العوامل الاقتصادية على سمات هذه الظاهرة. أي: إنه كلما ارتفع مستوى المعيشة كلما زادت الحاجة إلى تقسيم العمل لمواجهة نمو الطلب، ليس فقط على الضروريات، وإنما أيضا على الكماليات؛ لإشباع التطلعات المتطورة.

"فإذا كثرت الأعمال كثرت قيمها بينهم، فكثرت مكاسبهم ضرورة، ودعتهم أحوال الرفه والغنى إلى الترف وحاجته من التأنق في المساكن والملابس،

1 المقدمة، طبعة وافي، صفحات 272، 273. والجدير بالذكر أنه قبل أن يدرس ابن خلدون هذه الظاهرة في مقدمته التي ألفها في عام 1377، وكذلك قبل أن يبحثها آدم سميث في كتابه "ثروة الأمم" عام 1776، فإن الفيلسوف الإغريقي أفلاطون سبقهما إلى ذلك بدراسة بعض جوانب ظاهرة تقسيم العمل:

See his dialogue with Adeimantus، "We have different aptitudes، which fit us for different Jobs". The Republic، part two، Section l، Translated by H. D. P. Lee in: The Penguin classics. London 1963 "First published in 1955".

ص: 64

ومتى زاد العمران زادت الأعمال ثانية، ثم زاد الترف تابعا للكسب وزادت عوائده وحاجاته، واستنبطت الصنائع لتحصيلها، فزادت قيمها وتضاعف الكسب في المدينة لذلك ثانية.. وكذا في الزيادة الثانية والثالثة؛ لأن الأعمال الزائدة كلها تختص بالترف والغنى بخلاف الأعمال الأصلية التي تختص بالمعاش1.

ولا يجب أن ننسي أن هذه النتائج التي توصل إليها ابن خلدون، والتي قد تبدو بديهية وواضحة الآن كتبت في القرن الرابع عشر أي: قبل أن يعيد آدم سميث دراسة ظاهرة تقسيم العمل بأربعة قرون. بل أكثر من ذلك، فقد بحث ابن خلدون ظاهرة التخصص، وأوضحت كتاباته أنه كان يفرق بين نوعين: تخصص فردي وتخصص إقليمي، وإن كان المجال يضيق هنا عن الإفاضة في هذا الموضوع إلا أننا سنشير بإيجاز إلى آرائه. فقد خصص فصلا في الباب الرابع في مقدمته تكلم عن اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع دون بعض، شرح فيه كيف أن الصنائع تستجاد كلما كثر الطلب عليها. ولا يكثر الطلب عليها إلا إذا كانت تسد حاجة مباشرة وهامة بالنسبة لسكان المصر أي: تشبع حاجاتهم لاستهلاك سلعة معينة أو الاستفادة من خدمة لازمة لهم في معاشهم، وكل هذا مرتبط بالعمران المستبحر أي: المزدهر الذي تتفاوت صوره من بلد إلى آخر، وبالتالي تتفاوت حاجاته مما ينعكس على نوع الصنائع التي تختص بذلك البلد أو المصر. ويبدو فهم ابن خلدون لظاهرة التخصص الإقليمي هذه في قوله: "وبقدر ما تزيد عوائد الحضارة، وتستدعي أحوال الترف تحدث صنائع لذلك النوع، فتوجد بذلك المصر دون غيره. كذلك يظهر فهمه لظاهرة التخصص

1 المقدمة، طبعة وافي، صفحة 860.

CF.... "pius on se rapproche des types sociaux les plus eleves، plus la division du travail se deve loppe"،

Emile Durkheim، De la Division du Travail Social، paris 1893.

ص: 65

الفردي فيما كتبه في الباب الخامس من المقدمة، حيث بيّن أن من حصلت له ملكة في صناعة فقل أن يجيد بعدها ملكة أخرى. فإذا أجاد الخياط مثلا ملكة الخياطة رسخت في نفسه، فلا يجيد من بعدها ملكة النجارة، أو البناء إلا إذا كانت المهنة الأولى لم ترسخ في نفسه بعد. والسبب الذي يقدمه ابن خلدون هو "أن الملكات صفات للنفس وألوان فلا تزدحم دفعة

حتى أهل العلم الذين ملكتهم فكرية فهم بهذه المثابة.. إلا في الأقل النادر من الأحوال"1.

3-

وجه ابن خلدون عناية كبيرة إلى دراسة دور العمل في العلاقات الاجتماعية، فلم يلجأ إلى أسباب دخيلة لتفسير الظوهر الاجتماعية الحية. فمثلا، إذا كانت بلد من البلاد تتمتع بمستوى عالٍ من المعيشة، فإن البحث عن أسباب ذلك يجب ألا يتجه إلى الخرافات، أو ترديد روايات العامة التي تفسره بالعثور على كنوز مدفونة. أو ما شاكل ذلك من الأوهام. إن السبب الوحيد في رأيه الذي يمكن أن يعزى إليه مثل هذه الرفاهية هو مجهود وعمل أبناء هذا البلد لبناء وازدهار عمرانهم، وبذلك يجنون ثمار عملهم الذي يتمثل في تحسن ظروف معيشتهم. ولعل من دواعي الفخر لمفكرنا العربي أنه عزز هذا الاتجاه الواقعي برأي آخر سبق به مدرسة الاقتصاديين الكلاسيك بزمن طويل، ونعني به قياسه قيمة المنتجات، والخدمات بكمية العمل المبذول فيها.

"فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول؛ لأنه إن كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وإن كان مقتنى من الحيوان والنبات والمعدن، فلا بد فيه من العمل الإنساني كما تراه، وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع. وإذا تقرر هذا كله، فاعلم أن ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات إن كان من الصنائع، فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله وهو القصد بالقنية، إذ ليس هناك إلا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وإن كان من غير الصنائع، فلا بد في قيمة ذلك المفاد

1 المقدمة، طبعة وافي، صفحات 885، 930، 931.

ص: 66

والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به، إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها"1.

نستخلص من دراسة هذا الفرض المنهجي الأول حول أسلوب المعيشة، تقسيم العمل والتخصص، ودور العمل في تحديد قيمة المنتجات أنه يمثل الأساس الذي ارتكزت عليه آراؤه في المسائل الزمنية، وفي نفس الوقت يشير إلى بداية ظهور اتجاه واقعي جديد في الفكر السياسي لم يسبقه إليه أحد وهو اتجاه يدخل في اعتباره التأثيرات المتبادلة للعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. أي: إن الطريقة التي تتبعها الجماعة في التكسب والعلاقات الاجتماعية المتشابكة التي تترتب على ذلك هي التي تكون في نظره هيكل العمران البشري2.

1 المرجع السابق، صفحات 896، 860-862.

2 لم يقصر ابن خلدون أسلوب دراسته الواقعي، والتسليم بنتائج المشاهدات الحية على الدراسات الاقتصادية والاجتماعية فحسب، وإنما تعدى ذلك إلى رفضه للاتجاهات الفكرية المجردة. من ذلك نقده للقائمين بصناعة المنطق الذين يغالون في الغوص على المعاني والقياس، ويبتعدون عن الواقع فيقعون في الخطأ. وصناعة المنطق في نظره غير مأمونة العواقب؛ لبعدها عن المحسوس، ولهذا أبدى عدم رضائه عن فلاسفة المسلمين المتأخرين الذين تكلموا في القياس وحذفوا النظر فيه بحسب المادة. "ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاح المنطق، وألحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته، وهي الكلام في الحدود والرسوم

ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادته، وحذفوا النظر فيه بحسب المادة، وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشعر والسفسطة. وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما، وأغفلوها كأن لم تكن وهي المهم المعتمد في الفن". ويعلق الدكتور علي عبد الواحد وافي على الجملة الأخيرة، بقوله: أي: مع أنها المهم المعتمد في الفن؛ لأنها تتعلق بمادة القياس من حيث صدق مقدماته وانطباقها على الواقع. "المقدمة، طبعة وافي، صفحة1106". ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط؛ لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس. "المرجع السابق، صفحة 1247".

ص: 67