الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المذاهب الفلسفية التقدمية التي عرفتها البشرية منذ القدم مولدي قيمتها الإدراكية1.
1 V. A. Tumanov، Contemporary Bourgeois Legal Thought "A Marxist Evaluation of the Basic Concepts"، Moscow 1974 pp. 113-115، M. lovchuk، Philosophical Traditions Today، Moscow 1973، p. 49.
المادية الديالكتيكية، تأليف جماعة من العلماء السوفيت، تعريب بدر الدين السباعي، فؤاد مرعي، عدنان جاموس، الطبعة الثالثة، دمشق 1973، ص12، 13.
المبحث الثالث: الوضعية المنطقية
مدخل
…
المبحث الثالث: الوضعية المنطقية
Logical Positivism
تبلور ذلك التيار في النمسا عام 1928 وأنشأ مدرسة جديدة كان من أبرز مفكريها كارناب وفيتجينشتاين وشليك. وقد أرست المدرسة مبادئها على أسس وضعية ووجدت قبولا في بعض الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة وأصبحت تعرف بالوضعية المنطقية أو التجريبية المنطقية. اعتبر أنصار تلك المدرسة أن الوضعية الكلاسيكية السابقة لم تخل من عناصر ميتافيزيقية، وادعوا بأن وضعيتهم ستتكفل بتطهيرها من بقايا تلك العناصر.
تعاطفت الوضعية المنطقية مع الآراء السابقة المعادية للميتافيزيقا، وخاصة تلك التي عبر عنها دافيد هيوم ثم المدرسة الوضعية من حيث رد الأفكار والمشاعر إلى الانطباعات الحسية، واعتبار الحس أداة الإدراك الوحيدة. كان هيوم مثلا يعتبر الآثار الحسية هي المرجع الأخير الذي تقاس به صحة الأفكار وحقيقتها. فإذا أمكن إرجاع الفكرة إلى أصلها الحسي كانت صادقة، وإلا فهي وهم واختلاق من العقل.
لهذا وصف الوضعيون المناطقة فلسفات أفلاطون وأرسطو وسبينوزا وهيجل بأنها فلسفات تأملية، وأنكروا بصفة خاصة مهمة الفلسفة التقليدية ومجالها على
أساس أن ما يمكن معرفته عن العالم والإنسان، ومكانه منه يمكن الحصول عليه من العلوم الطبيعية التي تدرس الكون، والعلوم الاجتماعية التي تدرس الإنسان.
وقد تجلى رفضهم للمفهوم التقليدي للفلسفة في استبعادهم لكل من الفلسفة والأخلاق، ومن تصورهم الذي يربطون فيه بين الفلسفة والمنطق. فوظيفة التفكير الفلسفي لديهم هي الكشف عن المبادئ الأصلية، أو الفروض الأولية التي يقوم عليها كل علم.
إن الفلسفة من وجهة نظرهم ما هي إلا الدراسة المنطقية للمفاهيم والرموز، أو هي تحليل اللغة وتوضيح المعرفة التجريبية بترجمتها إلى قضايا تنصب على المضامين الحسية؛ لأنهم يرون أن اللغة تشتمل على ألفاظ خادعة ليس لها معنى وإن كانت تثير عند من يسمونهم بالفلاسفة التأمليين مشاكل لا وجود لها إلا في أذهانهم.
اعتبر الوضعيون المناطقة إذًا أن الفضل يرجع إلى مدرسة فينا في تقديم تعريف أدق للفلسفة، مؤداه أنها ليست سوى التحليل المنطقي للجمل والمفاهيم العلمية، وهو ما أسماه رودلف كرناب "1891-1970" بمنطق العلم. أما لودفيج فيتجينشتاين "1889-1951" فقد عرف الفلسفة بأنها توضيح الأفكار توضيحا منطقيا أي: توضيح القضايا وإزالة غموضها؛ توصلا إلى حقيقة معانيها، وليس وضع قضايا تفسر حقيقة الأشياء وطبيعة الموجودات.
تتحول الفلسفة طبقا لهذه المدرسة إلى مجرد منهج للبحث هدفه التحليل المنطقي للغة المستخدمة في الحياة اليومية، أو تلك التي يستعملها العلماء في بحوثهم بهدف إزالة اللبس والغموض الذي يعتري الأفكار مع بيان عناصرها حتى تبدو جلية واضحة1.
1 Rudolf Carnap، The Logical Syntax of Language، London 1959 "first publ. 1937"، p. 280.
زكي نجيب محمود، نحو فلسفة علمية، القاهرة 1958، ص6، 7؛ زكي نجيب محمود، قصة الفلسفة الحديثة، القاهرة 1936، الجزء الأول ص234، 2325، توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص266، 268، زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع سابق، ص74، 75.
لكل ذلك تعتبر وضعية القرن العشرين تيارا متطرفا من الوضعية السابقة يذهب أنصاره إلى إنكار كل موجود إلا إذا كان محسوسا. فليس هناك فكر ولا تفكير، وإنما ألفاظ وجمل. وكل لفظ من تلك الألفاظ لا يعبر عن شيء محسوس يمكن التثبت منه بالتجربة، لا يحمل معنى يوصف بالصدق أو الكذب.
استبعدت الوضعية المنطقية الميتافيزيقيا، والعلوم المعيارية من مجال البحث العلمي استنادا إلى مبدأ التحقق Principle of Verification الذي يقول: إن القضية التي يمكن التحقق منها بالرجوع إلى الواقع هي وحدها ذات معنى. بعبارة أخرى: فإن معنى القضية هي طريقة التحقق من صوابها. فالعبارة التي يتعذر إثبات صوابها، أو خطئها في حدود الخبرة الحسية تكون غير ذات معنى.
لقد أصبح مبدأ التحقق من وجهة نظرهم هو المقياس الذي تحدد به معاني العبارات، ودلالاتها بهدف ربط القضايا بالواقع كطريقة لاختبار معناها. ولما كان من المتعذر ربط قضايا الميتافيزيقا، والعلوم المعيارية كالجمال والأخلاق بعالم الواقع الحسي، تم استبعاد هذه القضايا من مجال البحث العلمي.
انطلاقا من تلك المفاهيم انتقد دعاة الوضعية المنطقية الفلاسفة التقليديين؛ لأنهم يخلعون ما بأنفسهم على العالم الخارجي أي: يصفون الكون وصفا ذاتيا. إزاء ذلك نصحوا بأن يلتزم الفلاسفة في ألفاظهم، وعباراتهم دقة تقربهم من دقة العلماء.
نادى الوضعيون المناطقة بأن تكون الفلسفة شبيهة بالعلم، ليس بمعنى إقحام الفلاسفة في ميادين لا شأن لهم بها، كأن يبحثون في الفلك مثلا مع علماء الفلك، وفي الطبيعة مع علماء الطبيعة
…
إلخ، وإنما بمعنى التزام الدقة التامة في استخدام
الألفاظ والعبارات التزاما يقرب الفيلسوف من العالم في دقة استخدامه للمصطلحات العلمية. والهدف من ذلك هو تحديد الألفاظ الفلسفية بطريقة لا تدع كلمة بغير مسمى، مما يمكن تعقبه بالحواس كوسيلة لجعل الفلسفة علمية في منحاها ومنهجها.
لكن النقد الأهم من وجهة نظرهم هو محاولة الفلاسفة التقليديين الاعتماد على الفكر الخالص وحده في وصف الوجود الخارجي، والتوصل إلى "مبدأ" يضم الكون بما فيه، ومن فيه.
علاجا لذلك، نصحت الوضعية المنطقية بأن تحصر الفلسفة بحثها في مشكلات جزئية محددة. فبدلا من أن يحاول الفيلسوف البحث عن "مبدأ" يضم الكون بما فيه ومن فيه، فإن عليه أن يقنع بالبحث في مفهوم واحد من مفاهيم العلم، حتى تنمو المعرفة الفلسفية عن الموضوع الواحد نموا تدريجيا.
ولأهمية هذه النقطة في كشف موقف الوضعية المنطقية من موضوع القيم والعقل وموقع الإنسان من الكون، نورد النص التالي:
"الفيلسوف المعاصر ذو النزعة العلمية متواضع، يرضيه أن يجتزئ من هذا الكون الفسيح كله بجملة أو طائفة قليلة من الجمل، يقولها العلماء في موضوعات اختصاصهم، أو يقولها الناس في أحاديثهم الجارية، فيتناولها بالتحليل المنطقي الذي يفصل مكوناتها تفصيلا يضعه في الضوء بعد أن كان خبيئا
…
حتى إذا ما ظهرت الهياكل العارية للغة التي نستخدمها، ظهرت بالتالي حقيقة الفكرة التي نعرضها، فيزول الغموض الذي كان قمينا أن يخلق المتاعب ويثير المشكلات. وحسبك أن تعلم في هذا الموضع أن رجال التحليل في الفلسفة الحديثة لم يكادوا يتناولون بالتحليل مشكلات الفلسفة التقليدية، حتى تبين لهم في وضوح الإشكال وأن الأمر كله غموض في لغة الفلاسفة، هو الذي خيل لهم أنهم إزاء مشكلات تريد الحل، ولا حل هناك".
"الفيلسوف المعاصر
…
لا شأن له "بشيء" من أشياء الوجود الواقع، بل يحصر نفسه في "الكلام"، كلام هؤلاء العلماء ليحلل منه ما قد تركوه بغير تحليل"1.
لعل أخطر ما في هذه الدعوة -كما سنبين بعد قليل- هو أنه لا شأن للفلسفة بالحديث عن العالم أو الطبيعة أو العقل أو الحق أو المطلق أو ما وراء الطبيعة
…
وإنما حسبها أن تحصر نفسها في "الكلام" تحلله وتفرغه وتجرده، مقتصرة على تناول صور التركيب وما ينشأ فيها من علاقات.
اتهم دعاة الوضعية المنطقية الفلاسفة التقليديين بأنهم يثيرون مشاكل عويصة لا وجود لها إلا في أذهانهم، وعزوا ذلك إلى خطئهم في فهم معاني الألفاظ نتيجة استخدامهم ألفاظا في قضاياهم لا تشير إلى مدلول حسي محدد من جهة، أو لاستخدامهم لفظا في غير المعنى الشائع من جهة أخرى.
كمثال على ذلك، انتقدوا استعمال الفلاسفة التقليديين للفظ إنسان ليس تعبيرا عن أفراد الإنسان الموجودين في العالم المحسوس، ولكن كإشارة إلى معنى كلي ليس له مدلول في عالم الواقع يمكن أن يخضع للمشاهدة الحسية، وإن كان يطلق كاسم على جميع أفراد الإنسان. مثل هذه النظرية الميتافيزيقية -من وجهة نظرهم- لا تقنع بالمعلومات التي تقدمها العلوم تعريفا له؛ لأن الإنسان عند التقليديين "ماهية" أو "جوهر" يعبر عن طبيعته وحقيقته، ولا يستقيم مفهوم الإنسان بغيره.
يتمثل الموقف الصحيح كما تراه الوضعية المنطقية في ضرورة قيام أصحاب المنطق التقليدي بتحليل ألفاظهم منطقيا، يتخذ من الواقع محكا لمعرفة مدى صواب الفكرة. ولو فعلوا لاكتشفوا أن الواقع المحسوس ليس به إلا "أفراد" وأن الماهية أو الجوهر لفظ لا يشير إلى مدلول حسي فهو إذًا بلا
1 زكي نجيب محمود، نحو فلسفة علمية، مرجع سابق، ص7، 8، 10-12.
معنى، أو بعبارة أخرى: لا يحمل معنى يمكن وصفه بالصدق أو الكذب، أي: إن صفات أية كلمة هي التي تحدد مفهومها، تلك الصفات التي تخضع للحس ويمكن عن طريق التجربة التثبت من مدى صحة معناها، وفي هذا يقول الوضعيون المناطقة:
"ولما كانت العلوم تبحث عن "طبيعة" الإنسان أو جوهره أو ماهيته أو حقيقته التي تخرج عن نطاق هذه العلوم ومناهجها، ظن أصحاب الفلسفة الميتافيزيقية أن "مفهوم" الإنسان لا يتيسر عن طريق هذه العلوم ومناهجها التجريبية القاصرة، ووكلوا إلى الفلسفة مهمة حل هذا الإشكال المزعوم".
هكذا يقدم التحليل المنطقي للألفاظ في رأي هذه المدرسة حلا لذلك الإشكال الذي تعتقد أن الفلاسفة التقليديين قد وقعوا فيه، وتؤكد أن ما تقدمه العلوم من مادة عن الإنسان باعتباره فردا معينا كافٍ في تصور مفهومه.
إن المنطق من وجهة نظر تلك المدرسة هو جوهر الفلسفة، إذ يقرر كارناب أن المهمة الرئيسية للفلسفة هي تحليل العلم كما سبق أن ذكرنا، بينما يحصر الفيلسوف الإنجليزي المعاصر آير مفهوم الفلسفة في نطاق الألفاظ والتعريفات، مؤكدا أن كل مهمتها هي أن تعمل على توضيح معرفتنا التجريبية بترجمتها إلى قضايا تنصب على مضامين حسية، وما عدا ذلك يعتبر قضايا زائفة.
يشرح ذلك ما ذكرناه من أن الوضعية المنطقية لا تعترف بما تعارف المفكرون على تسميته بالمشكلات الفلسفية، وتنظر إليها على أنها مجرد غموض في استخدام الرموز اللفظية التي يكفي توضيحها، أو سلامة استخدامها لتتلاشى تلك المشكلات وكأن لم تكن1.
1 المرجع السابق، ص11، توفيق الطويل، أسس الفلسفة، ص60، 61، زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع السابق، ص76.