الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: المذهب المادي
هذا المذهب قديم قدم الفلسفة نفسها، وهو أسبق في الظهور من المذهب الروحي؛ ذلك لأن الإنسان تعرف في البداية على الأشياء المادية وتعامل مع البيئة القاسية وانصرف إلى محاولة التأقلم معها ليحافظ على بقائه. هكذا اتجه العقل بطبيعته إلى المحسوس أولا، ثم تجاوزه إلى البحث فيما وراءه لكشف المجهول من أسراره.
وهناك صورة مبكرة للأفكار والمذاهب المادية. من تلك الأفكار مثلا ما عبر عنه فنان مصري قديم بإنشاده: "ليس ثمة شيء يصرفنا إلى رواية الأقاصيص عن العالم الآخر
…
فلنشغل أنفسنا بشئون الدنيا"1.
كما يمكن العثور على جذور المذهب المادي فيما ردده البابليون من أن الماء هو أصل الموجودات، وهو رأي نقله عنهم فيما بعد فلاسفة الإغريق من الطبيعيين الذين فسروا الوجود برده إلى الماء، كما فسره بعضهم الآخر برده إلى الهواء
…
إلخ.
تعرف المادة بأنها ذلك الجسم أو الشيء الذي له وزن ويشغل حيزا ويبدو على صلابة أو سيولة أو غازية. ويفسر أحد المذاهب المادية أصل الوجود بأن الكون في البداية كان مجرد سديم غازي متوهج تتعذر معه الحياة العضوية، أو وجود كائنات حية يصدر عنها نشاط روحي أو عقلي.
عندما بردت الأرض وتهيأت ظروف الحياة العضوية ظهرت النباتات والحيوانات ثم الإنسان، أي: إن النشاط العقلي والروحي ظهر بعد وجود الحياة العضوية التي نشأت متأخرة. يستنتج الماديون من ذلك أنه من الخطأ الظن بوجود
1 ورقة البردي المسماة "أنشودة عازف القيثارة" أشار إليها روجيه جارودي، كتابه: الحرية، باريس 1955، ص27، استشهد به إسماعيل المهدوي في تقديمه لجورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، مرجع سابق، ص5.
روح أو عقل مستقل عن الكائن الحي؛ لأن نشأته متصلة بهذاالكائن ونهايته مرتبطة بنهايته.
إلا أن أنضج صور المذهب المادي في العصور القديمة ظهرت على يد الفيلسوف الإغريقي ديمقريطس "460-370 ق. م" واقترنت باسمه، بينما كان هو بدوره متأثرا بمذهب الجواهر المفردة الذي نادى به أستاذه ليوكيبوس. اعتقد ديمقريطس أنه لم يكن هناك في بداية الكون إلا شيئان فقط هما: الذرات والفراغ.
تتألف كل الموجودات من جواهر مفردة أو ذرات Atoms يفصل بينها فراغ. هذه الذرات هي عبارة عن جسيمات مادية ثابتة، أبدية، في حركة دائمة وهي غير قابلة للانقسام. تلك الذرات ليس لها صفات أخرى كاللون أو الطعم أو الصوت، ولا تختلف بينها إلا من حيث الشكل والحجم والموقع.
وحيث إن الحركة من الصفات الأساسية لتلك الذرات، فإنه ينشأ عن تحركها اجتماع بعضها بالبعض الآخر فتتكون الأجسام متخذة صورتها المحددة، وإذا انفصلت تلك الذرات تحللت الأجسام وفسد الكائن العضوي، بذلك تصير الأشياء في نظره مجرد امتداد وحركة. يكمل تلك النظرة المادية إيمانه بالعلاقات السببية، وبالحتمية مع إنكاره لعامل المصادفة التي اعتبرها نتيجة للجهل، وكان لديمقريطس آراء سياسية مميزة، فقد كان من مؤيدي الديمقراطية اليونانية وانتقد الطبقة الأرستقراطية المالكة للعبيد.
تضاءل بعد ذلك نفوذ ذلك المذهب في الفلسفة اليونانية، إذ قاوم سقراط وأفلاطون وأرسطو النزعة المادية في تفسير الوجود، ولم تدب الحياة مرة أخرى في تلك النزعة إلا بعد ظهور كتابات الفيلسوف اليوناني أبيقور "341-270 ق. م". والجدير بالذكر أن الفضل في وضع المذهب المادي بصورته الشائعة في أوروبا في القرن الثامن عشر إنما يرجع إلى عالم الطبيعيات والفيلسوف الإنجليزي
إسحاق نيوتن "1643-1727" الذي لم يمنعه إيمانه الديني من استخلاص النتائج المادية من مكتشفاته العلمية، وخاصة اعترافه بالحقيقة الموضوعية، وقدرة الإنسان على معرفة الإنسان.
وغني عن البيان أن التفسير المادي للموجودات يتطور بتطور العلوم -وخاصة العلوم الطبيعية- شأنها في ذلك شأن مناهج البحث. ففي مؤلفه الرئيسي المسمى المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية وضع نيوتن أسس منهج علمي جديد ضمّنه قواعد التفسير في الفلسفة.
ساهم في تطوير المذهب المادي بعد ذلك الفيلسوف الفرنسي باول هنري أولباك "1713-1789" وذلك من خلال كتبه الأربعة، وخاصة مؤلفه الرئيسي نظام الطبيعة. دافع الفيلسوف الفرنسي عن أولوية المادة، وهاجم الفلسفة المثالية وخاصة آراء الفيلسوف الإنجليزي بيركلي، ورفض كل نظرية تدعي أن وراء الظواهر المحسوسة عالما أو موجودات غير مرئية.
اعتبر أولباك أن المادة والحركة أزليتان تتحكم فيهما قوانين ضرورية، وعن طريقهما يمكن تفسير كل شيء في الوجود، ومن ثم اتجه إلى إنكار وجود النفس البشرية أو وجود قوة خالقة، كما أنكر أن للطبيعة غاية أو هدفا تعمل على تحقيقه.
خلاصة المذهب المادي: أن العقل صورة من صورة المادة التي تتميز بالقوة والتنوع والحركة والحياة والتفكير، ولكنه لا وجود لعقل أو روح بشكل مستقل عن المادة. ويفسر المذهب المادي ظواهر الحركة في الجسم البشري بأنها وظائف لأعضاء الإنسان، فالتفكير وظيفة المخ أو على حد قول أولباك: فإن العقل هو الجسم منظورا إليه من ناحية بعض وظائفه، والتذوق وظيفة اللسان. بعبارة