الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهم أوجه نقد الوضعية المنطقية:
أدت تلك الدعاوى المتطرفة للاقتصار على الخبرة الحسية وإنكار دور العقل والاهتمام بمعنى القضية وليس بصدقها أو بكذبها، أدت إلى صراع فكري حادّ بين المدارس الفلسفية. فقد اتهم المعاصرون من أنصار الفلسفة التقليدية الوضعيين المناطقة بالتعصب والتعسف؛ لأنهم وضعوا أنفسهم في دائرة مغلقة هي القول بالواقع موضوعا وحيدا للبحث، وبالحس أداة وحيدة لإدراكه. كما اتهمهم الماركسيون بمحاولة إنكار الفلسفة لإبعاد الناس عن الفلسفة المادية بالذات التي تكشف بطريقة علمية حتمية قوانين تغير الطبيعة والمجتمع، ومن ثم يسخرون مذهبهم لخدمة النظام الرأسمالي القائم.
غير أنه من الملاحظ عدم وجود من يعترض على مطالبة الوضعية المنطقية بإزالة الغموض من التفكير الفلسفي، والالتزام بتحديد الألفاظ. لكن التطرف الذي عارضه كثير من المعاصرين هو حصر الفلسفة كلها في نطاق التحليل اللفظي والأشكال اللغوية وحدها والاستعانة في ذلك بمنهج قاصر من شأنه أن يؤدي إلى القضاء على خصوبة الفكر البشري، وهدم الفلسفة نفسها.
بالمثل، لا يمكن قبول موقف الوضعية المنطقية من استبعاد مشاكل رئيسية كطبيعة العالم والعلاقات بين الفكر والواقع بحجة أنها قضايا زائفة، ذلك أن الفكر البشري بحاجة إلى فهم العلاقة القائمة بين نظام الأفكار وترابطها من ناحية ونظام الأشياء وترابطها من ناحية أخرى. إن الأخذ بما ذهبت إليه تلك المدرسة من شأنه "حرمان التفكير الفلسفي من كل مضمون، واستبدال قضايا الفلسفة الحيوية الهامة ببرنامج هزيل يجدب الفكر"1.
يرفض المعاصرون من أنصار الفلسفة التقليدية ادعاء كل من الوضعية، والوضعية المنطقية بأن العلم لم يدع للفلسفة مجالا لبحث، ويفندون ذلك الادعاء
1 المرجع السابق، ص76، 77.
بأن المعرفة العلمية ذاتها تحتاج إلى أساس فلسفي. فالفلسفة وليس العلم هي التي تتناول الفروض العلمية بالبحث والتدليل.
حتى على افتراض أن العلم الوضعي قد تمكن من حل مشكلة ما، فإن العقل الإنساني سيظل يتطلب علما بالكل وبالمطلق، علما بالمبادئ والأسباب. إن المعرفة العلمية لا تكفي وحدها لحل المشاكل التي تواجه الإنسان، بل إن العلم نفسه ليس إلا حقيقة من الحقائق التي تعالجها الفلسفة. وهذه الأخيرة وليس العلم هي التي تبحث في طبيعة الأشياء ومبدئها ومصيرها.
كذلك رفض أنصار الفلسفة التقليدية المنهج الذي اتبعته الوضعية المنطقية وأسمته مبدأ التحقق. فقد أشرنا في مستهل استعراضنا للوضعية المعاصرة أنها استبعدت الميتافيزيقا والعلوم المعيارية من مجال البحث العلمي، استنادا إلى مبدأ التحقق الذي يقول بأن القضية التي يمكن التحقق منها بالرجوع إلى الواقع هي وحدها ذات معنى.
وقد علق الفيلسوف الإنجليزي آير على كلمة معنى بأن لها استعمالا صحيحا واحدا هو المعنى الذي يمكن التأكد من صوابه أو خطئه في حدود الخبرة الحسية، وهو ما انتقده أنصار الفلسفة التقليدية على أساس أن مبدأ التحقق هذا هو من قبيل تحصيل حاصل، إذ يجوز أن تكون العبارة ذات معنى يتعذر التحقق من صوابه بالخبرة الحسية.
قد تكون العبارة ذات معنى في استعمال آخر، لا يقصد به المعنى الذي يمكن التثبت منه بالخبرة الحسية وحدها، أي: هناك إمكانية لوجود استعمالات صحيحة أخرى للفظ معنى، إلا أنه نتيجة للموقف الجامد لتلك المدرسة لا يمكن هنا تجنب حدوث تناقض، إذ تصر الوضعية المنطقية على أن العبارات التي تحمل معنى في غير الاستعمال الحسي لا يمكن أن تكون صادقة، ولا كاذبة.
يمكن ملاحظة هذا التناقض من افتراض حالة يكون فيها مبدأ آير ذا معنى في استعمال من الاستعمالات التي لا يقرها. فإذا طبقت وجهة نظره
لا يكون مبدؤه صادقا، ولا كاذبا في هذه الحالة؛ لأنه في تحديده لنوع العبارات التي تحمل معنى يقرر قضية -كمقياس لاختبار العبارات- لا تحمل بدورها أي معنى، أو لعلها ذات معنى يعتقد أنه لا يتصل بالحق أو الباطل، وهو ما يهدم الوضعية المنطقية من أساسها على حد قول نقاد هذه المدرسة ذوي الاتجاهات الفلسفية المتعددة1.
التناقض الثاني الذي قد ينشأ عن الأخذ بمنهج تلك المدرسة هو أن القوانين العلمية التي ترددها كثيرا، وتبدي إعجابها بها تغدو مجرد تعبيرات عقلية مجردة لا تشير إلى مدلول حسي في عالم الواقع. فهي تعتبر -والحال كذلك- عبارات فارغة لا تحمل معنى.
علاوة على هذا، فإنه من الخطأ الفصل بين العلم والفلسفة بحجة أن ما يدخل في مجال العلم، طبيعيا كان أو رياضيا، فهو بلا معنى. يكذب الواقع ذلك، إذ هناك تعاون أو تكامل لكشف ما زال مجهولا في عالم الحقائق. والفرق بين العلم والفلسفة هو أن لكل موضوعه والمناهج التي تلائم ذلك الموضوع.
يبحث العلم في الجزئيات المحسوسة، ويستعمل لذلك منهج الاستقراء الذي يستهدف وضع القوانين المفسرة للظواهر. وتبحث الفلسفة فيما وراء الجزئيات المحسوسة من حقائق لا يتيسر البحث فيها بغير المناهج العقلية. إن اختلاف موضوع البحث، والمناهج المستعملة لا يمنع من التعاون بين الاثنين في دراسة هذا العالم وتفسير ظواهره.
1 w. H. BARNES، tHE PHILOSOPHICAL PREDICAMENT، PP. 116، 117، B. RUSSEL، lOGIC AND KNOW LEDGE، P. 376.
أشار إليهما الدكتور توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص283، 283، حول حدود المعرفة الإنسانية، وادعاءات الفلاسفة، ودور المنهج العلمي. قارن آراء مدرسة التحليل المنطقي المعاصر كما عبر عنها برتراند راسل:
B. Russel، History of Western Philosophy، op. cit. pp. 862- 864
هذه هي بعض الأسباب التي دعت أنصار الفلسفة التقليدية إلى نقد الوضعية المنطقية. فقد سلم هؤلاء بإمكان اتخاذ الخبرة الحسية أداة للمعرفة الصادقة، ولكنهم شددوا على وجود عالم من الحقائق وراء العالم المحسوس، يتعذر إدراكه بغير العقل.
لهذا تعرضت تلك الوضعية المعاصرة للاتهام بالتعسف والتعصب. أما التعسف فبسبب افتقارها إلى دليل يثبت أن الحس أداة وحيدة لإدراك الحقائق، ومعيار أقصى لاختبار العبارات كما يبدو التعصب في الغرور الذي استبدّ بالوضعيين المناطقة فحاولوا إنكار العقل، وطالبوا الباحثين بعدم التفكير في مصير الإنسان وطبيعة النفس البشرية وكنه الألوهية، وإلا خرجوا من نطاق العلم وتحولوا إلى شعراء وفنانين، أو عابثين يظنون الهذر كلاما يحمل معنى.
ولعلنا نجد بعض الاتفاق في المواقف بين أنصار التيار التقليدي المعاصر، وبين الماركسيين في دمغ الوضعية المنطقية بالميتافيزيقية التي ادعت في البداية أنها قادرة على تطهير الوضعية الكلاسيكية من بقايا عناصرها. يرى التيار التقليدي أن تلك المدرسة قد جمعت بين النزعة المنطقية الصورية، وبين النزعة التجريبية الحسية دون التدليل على العلاقة بين المنطق والتجربة. كما أن من حاول من أعضائها تناول هذه العلاقة مثل فيتجينشتاين وقع في الفكر الميتافيزيقي.
حول نفس الموضوع، تعرضت الوضعية المعاصرة للنقد أيضا؛ لأنها احتفظت بكل عناصر التفكير الميتافيزيقي حيث استبدلت بالعلم المادي الذي يعرفه العالم عالما ميتافيزيقيا من التجربة الحسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن محاولتها الهرب من الميتافيزيقيا برفض البحث في علاقة الفكر بالواقع أوقع أصحابها في مناقشات ميتافيزيقية عميقة. وما البحث في دلالات الألفاظ المسمى بالسمانتيكس إلا نظرية ميتافيزيقية.
هذا، وقد اتفقت الفلسفة التقليدية مع الماركسية في نقطة جوهرية أخرى هي رفض موقف الوضعية المنطقية من إنكار الفلسفة، على أساس أنه موقف غير واقعي يخفي بالضرورة نظرة محددة ترقى إلى الفلسفة.
إن التفلسف من وجهة النظر التقليدية طبيعي بالنسبة لكل إنسان ناطق، حتى لقد قال أرسطو:"فلنتفلسف إذا اقتضى الأمر أن نتفلسف، فإذا لم يقتض الأمر ذلك وجب أن نتفلسف لنثبت أن التفلسف لا ضرورة له". لهذا فإن الوضعيين فلاسفة حتى ولو أنكروا ذلك؛ لأن إنكار الفلسفة هو نفسه موقف فلسفي1.
وجهت الفلسفة الماركسية نقدا شديدا للوضعية المنطقية، وأخذت عليها تظاهرها بإنكار الفلسفة مما دفع العلماء المتأثرين بها إلى رفض كل الفلسفات، وإن كان هذا غير ممكن في الواقع. فلا يجوز في العلم البقاء "مع الوقائع على انفراد" وإبقاء النظرية على عتبة المختبر وإرغامها على الصمت بانتظار ما تقوله الوقائع، بشكلها المجرد بذاتها. فبدون التفكير النظري لا يوجد العلم؛ لأنه ليس مدعوا لوصف الظواهر فقط، وإنما عليه أيضا أن يفسرها.
ترى الماركسية أن هناك نقطة حاسمة عندما ينتقل العالم من جمع ووصف الوقائع والعمليات إلى وضع القوانين والاستنتاجات النظرية. عندئذ لا يستطيع أي مفكر ذي تفكير واسع -سواء كان حقل تخصصه الطبيعة أو الكيمياء أو علم الأحياء أو المجتمع- أن يتجنب الفلسفة والنظرة إلى العالم ونظرية المعرفة. وكل المسألة تنحصر في الفلسفة التي سيطبقها بوعي أو بدون وعي، وهل هي الفلسفة المادية العلمية أم المثالية غير العلمية أم التوفيقية التي هي خليط من الاثنتين2؟
لهذا ترفض الماركسية موقف الوضعية المنطقية الداعي إلى أن يقصر الباحث عمله في حدود معمله، وترى فيه موقفا يتعارض مع العلم والواقع؛ لأن الباحث
1 توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مرجع سابق، ص 286-289، 292، 293، قارن زكي نجيب محمود، نحو فلسفة علمية، مرجع سابق، ص2، 5، 6.
2 المادية الديالكتيكية، مرجع سابق، 26، 27،
Cf.، Jean-Francois Revel، Pourquoi des philosophes? Paris 1957، p. 149، cited by Theodor Oizerman، Problems of The History of Philosophy، Moscow 1973. p. 460.