الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
مفهوم الفلسفة لدى فلاسفة العرب والمسلمين:
تأثر بعض مفكري العرب والإسلام من أمثال: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد بالفكر اليوناني القديم، وانعكس ذلك في كتاباتهم. لكن هل امتدَّ ذلك التأثير إلى الفكر الإسلامي بصفة عامة؟ وهل أثر في مفهومهم للفلسفة؟ ثم هل أدى التأثير اليوناني بهؤلاء المفكرين إلى اتباع منهج أرسطو في بحوثهم الطبيعية والاجتماعية؟ نحاول الإجابة على السؤال الأول في الأسطر التالية، ثم نجيب على السؤال الآخر في المبحث الثاني. وفي المبحث الثالث، نتناول منهج ابن خلدون1 بصفته أبرز عالم سياسة عربي، وذلك بهدف استقصاء مدى تأثره بالطابع التجريبي، والمعالجة الدقيقة الشاملة للماديات والروحانيات التي تميز بها منهج البحث الإسلامي.
بالنسبة للسؤال الأول، نلاحظ أن الفلسفة اليونانية لم تكن الوحيدة التي أثرت في الفكر الإسلامي، وإنما تعرض أيضا لمؤثرات قوية من جانب الفلسفات الغنوصية القديمة التي عرفتها مدنيات الشرق، وكذلك من جانب التصوف الفلسفي. وفي إطار دراستنا لمناهج البحث سنقصر اهتمامنا على تأثير الفلسفة اليونانية؛ لارتباطها بمنهج أرسطو أساسا، مع مراعاة أن ذلك التأثير نفسه كان محدودا وقاصرا على مجموعة منتقاة من الفلاسفة العرب والمسلمين الذين ذكرنا أشهرهم في مستهل كلامنا.
تردد إذًا صدى المفهوم اليوناني القديم للفلسفة في بعض اتجاهات الفكر العربي والإسلامي؛ فقد أطلق الكندي على بحوث ما بعد الطبيعة اصطلاح الفلسفة الأولى وعلم الربوبية، وعرف الفارابي الفلسفة بأنها العلم بالموجودات بما هي موجودة وفرّعها إلى حكمة إلهية وطبيعية ومنطقية ورياضية. وكان يرى أنه ليس بين موجودات العالم شيء إلا وللفلسفة فيه مدخل، وعليه عزي، ومنه علم بمقدار الطاقة البشرية.
أما تلميذه ابن سينا فقد تعرض في رسائله التسع في الحكمة، والطبيعيات إلى تعريف الفلسفة بأنها استكمال النفس البشرية لمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه، على قدر الطاقة البشرية، أي: التماس العلم بطبيعة الموجودات بما هي كذلك عن طريق النظر العقلي.
1 محمد محمود ربيع "منهج ابن خلدون في علم العمران" في: مجلة مصر المعاصرة، القاهرة، إبريل 1970، انظر دراسة مبكرة للموضوع في مؤلفنا:
M. M. Rabie، The Political Theory of lbn Khaldun، Lyden، 1967، Ch. Two.
ثم فرع ابن سينا الفلسفة إلى حكمة نظرية وحكمة عملية، وقسم الحكمة النظرية إلى ثلاث: طبيعية تتعلق بما في الحركة والتغير بما هو كذلك، وحكمة رياضية تتعلق بما من شأنه أن يجرده الذهن من التغير وإن كان وجوده مخالطا للتغير، وحكمة تنصب على ما وجوده مستغنٍ عن مخالطة التغير. هذه هي الفلسفة الأولى أي: ما بعد الطبيعة، والفلسفة الإلهية جزء منها ويراد بها معرفة الربوبية، ومبادئ الحكمة النظرية بأقسامها الثلاثة مستفادة من أرباب الملة الإلهية على سبيل التنبيه، وإن كان تحصيلها بالكمال إنما يكون بالنظر العقلي على سبيل الحجة.
بالمثل، قسَّم ابن سينا الحكمة العملية إلى ثلاث: مدنية تتناول ما ينبغي أن يكون عليه التعاون بين الناس على مصالح الأبدان وبقاء النوع الإنساني، وحكمة منزلية تتناول ما ينبغي أن يكون عليه التشارك بين أفراد المنزل لتنتظم به المصلحة المنزلية، وحكمة خلقية تهدف إلى معرفة الفضائل وكيفية اكتسابها والرذائل وكيفية تجنبها. هذه الحكمة العملية بأقسامها الثلاثة تستفاد من الشريعة الإلهية، وإن كانت قوانينها وتطبيقها على الجزئيات تعرف بالنظر العقلي. كما أن العلوم الحكمية في رأي ابن سينا لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا تختلف باختلاف الأمم والأديان.
في معرض المقارنة بين الاثنين، نجد أن الحكمة في رأي الفارابي هي معرفة الوجود الحق، والوجود الحق هو واجب الوجود بذاته. بينما ذهب ابن سينا إلى أن العلم الإلهي هو أشرف العلوم الفلسفية؛ لأنه الحكمة بالحقيقة والفلسفة الأولى والحكمة المطلقة. فهو العلم بأول الأمور في الوجود، وهو العلة الأولى وأول الأمور على العموم، وهو أيضا المعرفة بالله.
وكما اعتبر بعض مؤرخي الغرب المعاصرين أن الفلسفة والعلم بمعناهما النظري هما من إبداع اليونان، مشككين بذلك في مدى إسهام الحضارات الشرقية القديمة في هذين المجالين، فإنهم بالمثل استندوا إلى التأثيرات اليونانية في بعض
اتجاهات الفكر العربي والإسلامي؛ ليشككوا أيضا، وبشكل غير موضوعي، في مدى أصالة الفلسفة الإسلامية.
إن الرأي الغالب لدى مفكري الإسلام المعاصرين هو أن التأثير اليوناني كان قاصرا على مدرسة الفارابي التي اعتبروها امتدادا للفلسفة اليونانية باللغة العربية. وقد ذهبوا أيضا إلى القول بأن ذلك التأثير لم يمتد إلى الفكر الفلسفي الإسلامي بصفة عامة، الذي تتمثل بدايته الحقيقية في نظرهم في كتابات المتكلمين والفقهاء، وخاصة الإمام الشافعي، يضاف إلى هذا أن مفهوم هؤلاء للفلسفة اختلف عن مفهوم اليونان، وخاصة في الميتافيزيقا1.
فمن جهة، يعتبر الإسلام أن العقل البشري عاجز عن إدراك "الشيء في ذاته" أو "الماهية". وقد حدد القرآن الكريم موضوعات ما بعد الطبيعة تحديدا تاما، ونهى عن الخوض فيما خلفها على أساس أنها من "المسائل التوقيفية" التي لم يشأ الوحي أن يكشف عنها حتى للرسول نفسه. يستطيع الإنسان أن يبحث في الكون وآفاقه، ولكن حرم عليه البحث في "الجوهر" إذ إنه لن يستطيع الوصول إلى حقيقته، أي: للإنسان أن يبحث فقط عن "الخصائص" ولكن ليس عن "الماهية".
من جهة أخرى، هاجم الفقهاء المسلمون الفلسفة اليونانية بصفتها تصويرا خاصا ذاتيا للكون. فالميتافيزيقا نتاج العبقرية الذاتية في تأملها للوجود ومحاولة التوصل إلى ما يقوم عليه من علل ومبادئ، بينما الإسلام دين اجتماعي ينكر التوحد. أنزل القرآن للمسلمين "ميتافيزيقاهم" وحدد لهم الغيبيات وآفاق العقل الإنساني في جني المعرفة كما أسلفنا، وبالتالي حرم عليهم الخوض في علل الوجود. فهم لم ينشغلوا كما فعل اليونان بالجوهر أو الماهية أو الكنه، وإنما تحولوا إلى ما دعا إليه الدين الجديد من دراسة الحياة الإنسانية ومتطلباتها، وقياس جزئياتها بنظر عقلي في أحكام العبادات مع الاعتماد على الملاحظة والتجريب.
1 مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، القاهرة 1944، علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، الطبعة السادسة، القاهرة 1975، الجزء الأول، ص54-57.