الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي يتبع هذا الأسلوب في صنعها بقدر أكبر من الإلزام والديمومة. لهذا فهو نمط مناسب لعملية سن القوانين ووضع السياسات الطويلة المدى التي تحتاج لتأييد شعبي واسع، وقواعد إجرائية تفصيلية من جانب المؤسسات الحزبية، واللجان البرلمانية.
يجمع بين تلك الأنماط الثلاثة سمات مشتركة تشكل جوهر عملية صنع القرار. وأهم هذه السمات هي أنها قرارات تحدد التصرف أو العمل الذي يمكن اتخاذه في مواجهة مشكلة ما تمثل عقبة كأداء أمام صنع القرار. أي: إنه إذا لم تكن هناك مشكلة لانتفت الحاجة إلى صنع قرار مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن عملية الصنع تلك ما هي في الواقع إلا اختيار بين عدة بدائل مطروحة1.
1 Carl J. Friedrich، Man And His Government، op. cit.، pp. 76، 77.
ثانيا: نوعية القوى والعوامل والأساليب المؤثرة في صنع القرار
من أهم نماذج تلك القوى الجماعات الضاغطة، نناقش بعدها العوامل الذاتية لصانعي القرار، ثم الأساليب المستمدة من نظرية اللعبة.
1-
الجماعات الضاغطة Pressure groups or lnterest groups:
ويسميها بعض العلماء جماعات المصلحة، وهما اصطلاحان مترادفان. والفرق الوحيد بينهما -إن كان ثمة فرق- هو أن جماعة المصلحة قد تكون مؤقتة أحيانا، بمعنى أنها تتكون لتلبية حاجة ما أو حل مشكلة معينة، فإذا قضيت انحلت الجماعة وانتهى أمرها.
أ- الجماعات الضاغطة جماعات اختيارية توجد في كل النظم السياسية، بل وتدل الأحداث التاريخية على أنها كانت معروفة بشكل، أو بآخر في كل العصور.
رغم ذلك، فإنه وإن كانت علاقات التأثير والضغط موجودة دائما، إلا أنها تعكس في الأزمنة الحديثة الحاجات والآراء والطموحات المتعارضة في مجتمعات وصل تطورها إلى درجات عالية من التعقيد1. وتمارس تلك الجماعات ضغوطا على الأوساط السياسية والاقتصادية حتى تصدر قراراتها محققة لمصالحها، لكن ليس هناك حجم معين أو شكل محدد لتلك الجماعات، فقد تكون كبيرة جدا وقد تكون صغيرة غير أنها في كثير من الأحوال غامضة وغير محددة تماما. هنالك ملاحظة عامة تجدر الإشارة إليها قبل الدخول في التفاصيل؛ فحيث إن تلك التنظيمات لا تتواجد في فراغ وإنما في مجتمعات، فإنه يترتب على ذلك أن بنية كل منها ونشاطاتها تتأثر بشكل مباشر بدرجة تطور المجتمعات التي تتواجد فيها، وما إذا كانت مجتمعات عصرية متقدمة أو تقليدية متخلفة؛ مما يؤدي بالتالي إلى تباين كبير في شكل ومضمون ونتيجة الدور الذي تقوم به الجماعات الضاغطة في كل من هذين النوعين من المجتمعات.
يقسم العلماء2 تلك الجماعات إما تبعا لبنيتها ونشاطاتها والفروق
1 بعد اطلاعنا على ملخصات وافية بالفرنسية للكتابات الجديدة في موضوع الجماعات الضاغطة، ننصح في حالة عمل دراسات متخصصة، أو رسائل أكاديمية حول هذا الموضوع بضرورة الاطلاع على المقالات الثلاث التالية باللغة الإيطالية، وعلى المقالة الأخيرة بالأسبانية.
J. Klofac، Che cosa i " gruppi di pressione" ? ; S. Monti- Bragadin، "Note su gruppi di intersse e Pressione"، in: Gontrocorrente 6 (1-3) ، Janv. Sept. 74; L. Dion، "Alia ricerca di un metodo di analisi der partiti e dei gruppi di interesse "in: Controcorrente 6 (1-3) ، Janv. -Sept. 1975; L.A. Lopez Escutia، " Los grupos Pluralistas y la demo-cracia"، in: Pensamiento Politico، 54،! Oct. 73.
2 Maurice Duverger، Introduction a La Politique، Gallimard، Paris 1964، pp. 201، 203 ff، Jean Meynaud، Groupes De Pression، que sais-je ? Paris 1965، pp. 12-18.
بينها وبين الأحزاب والدول، وإما وفقا لدورها الهام كمرآة تعكس بدقة الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والصراعات الأيديولوجية في الدولة موضوع البحث.
ويهتم هذا التصنيف الأخير بتقسيم الجماعات الضاغطة إلى منظمات مهنية هدفها الأساسي الحصول على منافع مادية للمنتسبين إليها، أو حماية أوضاعهم المكتسبة، ثم إلى تجمعات ذات نزعة أيديولوجية وإن كانت متنافرة جدا تهدف إلى الدفاع عن مبادئ أو أوضاع روحية أو أخلاقية معينة. لكن يجب عدم المغالاة في تقدير أهمية هذه التصنيفات؛ إذ الغرض منها هو زيادة التوضيح، فكثير من الجماعات تستطيع الانتساب بصورة معترف بها إلى هذا النوع، أو ذاك من التنظيمات.
من حيث البنية، يمكن تقسيم الجماعات الضاغطة إلى جماعات جماهيرية، وأخرى قيادية. أما الأولى فهي ذات عضوية واسعة مثل: نقابات العمال والفلاحين وحركات الشبيبة واتحادات المحاربين القدماء، بينما تشتمل الجماعات الضاغطة القيادية على طوائف اجتماعية أقل عددا وإن كانت أقوى تأثيرا، وهي تضم غالبا نوعا مميزا من النخبة في مجال نشاط معين في المجتمع مثل: اتحاد الصناعات، واتحادات كبار الموظفين أو التكنوقراط، واتحادات الكتاب.
ويميل البعض إلى تصنيف تلك الأخيرة على حده بالنظر إلى المهمات النبيلة التي تضطلع بها، شأنها في ذلك شأن جماعات المفكرين والأكاديميين
…
إلخ.
من حيث النشاط1، يتخذ تحرك الجماعات الضاغطة أشكالا متعددة وإن كانت متداخلة. فهو أحيانا نشاط مباشر يتمثل في بذل المساعي لدى السلطة الحكومية أو البرلمان، وفي أحيان أخرى هو نشاط غير مباشر يؤدي إلى تحريك الجماهير، وبالتالي التأثير في الحكومة عن طريق الحملات
1 M. Duverger، lntroduction a La Politique، op. cit.، p. 205، Jean Meynaud، Les Groupes، De Pression، op. cit.، pp. 40-42.
الصحفية، أو التظاهرات والإضرابات والاعتصامات. قد يكون نشاط الجماعات الضاغطة علنيا صريحا أو سريا مموها، وينعكس هذا بالتبعية في الوسائل المستخدمة فتكون وسائل قانونية شريفة تتفق والنظام العام، أو تلجأ إلى وسائل الإفساد المتعددة أو العنف.
يؤثر في كل تلك الظواهر السياسية والقانونية والاقتصادية اعتبارات هامة تتعلق بعدد مؤيدي الجماعات الضاغطة، وإمكانياتهم المالية، وتنظيمهم الداخلي وولائهم. وتؤدي تلك العوامل مجتمعة إلى تحديد مدى فعالية تلك الجماعات الضاغطة فتمنحها القوة، أو تمنعها من وضع تكتيكات للتوجه إلى الرأي العام أو مفاتحة الحكومة أو السلطة التشريعية. بل قد تصل قوة إحداها إلى حد الاعتراف بها قانونا كشريك في صنع قرار سياسي ما.
لكن الجماعات الضاغطة تختلف عن الأحزاب1 من حيث إنه يندر أن يكون جل نشاط تلك الجماعات نشاطا سياسيا. فهي لا تشترك بشكل مباشر في محاولة الاستيلاء على السلطة أو في ممارستها، وإنما تكتفي بالضغط فقط. أي: إنها تحاول التأثير في المسئولين مع عدم السعي إلى وضع رجالها بطريقة مكشوفة في السلطة، مع إمكان ورود بعض الاستثناءات على ذلك.
لا ينفي هذا طبعا وجود علاقات خاصة بين الجماعات الضاغطة، وبعض الأحزاب تؤثر تأثيرا كبيرا في النشاطات السياسية والاقتصادية للدولة. وتتخذ تلك العلاقات صورا متعددة يغلب عليها أحيانا طابع الحياد فتلتزم الجماعة الضاغطة جانب الحذر من التدخل في الانتخابات والصراعات الحزبية، أو تطلب من منتسبيها التصويت لصالح المرشح الذي يؤيد مطالب الجماعة، بغض النظر عن انتمائه الحزبي.
1 lbid.، pp. 43-46، M. Duverger، lntroduction a La Politique op. cit.، pp. 201، 202.
هناك صورة ثانية أكثر شيوعا تتمثل في إقامة علاقات وطيدة بين الجماعة الضاغطة، وحزب معين يتم من خلالها تبادل المصالح والمنافع، إذ تقوم الجماعة بدعم الحزب في الانتخابات وتقديم الإعلانات المالية إليه، بينما يتولى الحزب الدفاع عن مطالب تلك الجماعة.
تبدو الصورة الثالثة واضحة في بعض الدول المتقدمة، حيث يتمكن أحد الأحزاب القوية التنظيم من تحويل بعض الجماعات الضاغطة إلى منظمات ملحقة فيشرف عليها، ويضع الخطوط العريضة لتحركاتها من خلال أعضائه القياديين الذين يسيطرون على تلك الجماعات، كما يقوم بالدفاع عن مصالحها سواء داخل البرلمان أو خارجه. ويعطي ديفرجيه مثالا على ذلك بالحزب الشيوعي في فرنسا الذي برع في هذا النوع من التكتيك، إذ تضم الجماعات الضاغطة التي يستطيع التأثير فيها عضوية واسعة من المتعاطفين، وغير المتعاطفين مع الحزب. من أمثلة تلك الجماعات: اتحاد النساء الفرنسيات، واتحاد الشبيبة الجمهورية، والمناضلون من أجل السلام.
ولا يجب أن تخفي هذه الصورة الأخيرة وضعا آخر مغايرا لها تماما. فكما يسيطر الحزب أحيانا على جماعة أو جماعات ضاغطة، فإنه على العكس من ذلك قد يكون الحزب نفسه مجرد واجهة للمصالح الحيوية لإحدى الجماعات الضاغطة القوية، ومثال ذلك حزب المحافظين كواجهة للاحتكارات في بريطانيا.
هذا، وقد سبقت الإشارة إلى أن الجماعات الضاغطة توجد في كل النظم السياسية، وليس في الدول الرأسمالية فقط. ففي الاتحاد السوفيتي على سبيل المثال، هناك تعدد في مراكز صنع القرار، وإن بدا ذلك بشكل آخر. فالهيئات الإدارية والوزارات والمؤسسات العامة والتعاونيات المحلية تلعب دور الجماعات الضاغطة في علاقتها بالسلطة المركزية، وغيرها من مراكز صنع القرار، وخاصة الحزب الشيوعي السوفيتي ومجلس السوفيت الأعلى1.
1 lbid.، pp. 206، 207.
ومن وجهة نظر القانون الدولي العام، تختلف الجماعة الضاغطة عن الدولة من حيث إنها لا تتمتع بحق السيادة، وليس لها بعثات دبلوماسية "باستثناء الفاتيكان"، ولا تمتلك إقليما معينا وإنما تزاول نشاطها في دولة واحدة، أو عدة دول. وهناك بعض أوجه الشبه بين ما سبق ذكره، وبين بعض التنظيمات على الصعيد الدولي بحيث يمكن اعتبارها بشكل من الأشكال كجماعات ضاغطة تعكس مصالح دولية مختلفة، قد تكون اقتصادية أو سياسية أو دينية أو مزيجا منها.
من أمثلة الجماعات الضاغطة الاقتصادية السياسية منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" والشركات المتعددة الجنسية والاتحاد العالمي لنقابات العمال. وتعتبر الكنيسة الكاثوليكية في روما، وكذلك الوكالة اليهودية من الجماعات الضاغطة الدينية السياسية. ومن أمثلة جماعات الضغط السياسية الكومنترن والكومنفورم فيما مضى، وتنظيم الدولية الاشتراكية حاليا.
وباستخدام وسائل البحث الحديثة يمكن دراسة الجماعات الضاغطة في كل دولة. وليس كذلك الحال بالنسبة لاستقصاء تأثير هذه الجماعات على العلاقات الدولية1، والمنظمات الإقليمية والعالمية، إذ يصادف الباحث صعوبات جمة؛ لأن الجماعات الضاغطة القوية تمارس نشاطاتها كما سبقت الإشارة بشكل غير مباشر، وأحيانا بطرق خفية وملتوية، مستخدمة في ذلك شبكة معقدة من الاتصالات الشخصية مع القائمين بالسلطة أو طرقا متعددة للتأثير على الرأي العام لاستمالته إلى المواقف التي تخدم مصالحها، وذلك من خلال وسائل الإعلام العصرية المتقدمة.
ب- استعرضنا أعلاه كيفية الاستفادة من الخصائص العامة للجماعات الضاغطة كمدخل للبحث، وتناولنا أنواعها المختلفة وعلاقاتها المتبادلة والفروق الأساسية التي تميز
1 T. Mathisen، Methodology ln The Study of lnternational Relations، op. cit.، pp. 148-156، cf. M. duverger، Methodes de La Science Politique، op. cit.، pp. 331، 332.
بينها وبين الأحزاب وبين الدولة كشخص من أشخاص القانون الدولي العام. ثم نستعرض فيما يلي بإيجاز أيضا كيفية الاستفادة من مداخل أخرى للبحث تتمثل في الدراسات التي اهتمت بالعلاقة بين الجماعات الضاغطة، وظاهرتي السلطة والنفوذ مع إبراز القوى المادية، والمعنوية التي تؤثر في صنع القرار.
تهتم الدراسات المتعلقة بالجماعات الضاغطة، بالتركيز على أسلوب استخدام السلطة والنفوذ غير الرسميين. وتحسن التفرقة بادئ ذي بدء بين حالتين: الأولى إذا اقترنت محاولة الفرد للتأثير في سلوك آخر بإمكانية توقيع الجزاء عليه. في هذه الحالة يمارس الفرد الأول سلطة، أما إذا لم تتوفر له تلك القدرة فإنه في هذه الحالة الثانية يمارس نفوذا فقط. ويمكن معالجة ذلك النوع من الدراسات تحت ثلاثة أقسام فرعية:
- دراسات تهتم بالعوامل الكامنة للسلطة والنفوذ.
- دراسات تهتم بالشهرة كمؤشر على تمتع البعض بالسلطة والنفوذ.
- دراسات تهتم بالسلطة، والنفوذ الواقعيين.
تتناول الدراسات في القسم الأول العوامل، أو القدرات الكامنة لدى الأفراد الذين يتولون السلطة أو يمارسون النفوذ. مثال ذلك الموارد المادية التي لديهم، أو المناصب التي يشغلونها كما هو الحال في أصحاب الثروات الضخمة أو المسيطرين على وسائل الإعلام أو زعماء الاتحادات والهيئات المختلفة كالغرف التجارية، والنقابات العمالية
…
إلخ.
من الواضح أن هؤلاء جميعا يفترض أنهم يمتلكون القدرة المادية، أو يحتلون مراكز عامة وحساسة تمكنهم من ممارسة الإقناع والإكراه أو كليهما معا. بهذا الشكل يمكن أن يعزى قرار لمسئول حكومي استنتاجا بأنه نتيجة السطوة، أو النفوذ الذي مارسته عليه هيئة خاصة، أو نقابة ما.
ومن المفيد علميا وعمليا حسن تقييم الأداة الرئيسية التي تستخدمها الجماعات الضاغطة في عالمنا المعاصر للحصول على التأثير المطلوب المؤدي إلى
صنع قرارات تتمشى ومصلحتها، تلك الأداة الرئيسية تتمثل في العامل الاقتصادي الذي تتم ممارسته وفقا لمصلحة الجماعة الضاغطة، وللظروف المحيطة من حيث الرغبة في تحريك ردود فعل معينة، أو تجنبها.
وتعد الانتخابات الأمريكية للرئاسة أحد الأمثلة على ذلك من حيث محاولة المرشح الجمهوري الحصول على تأييد الجماعات الضاغطة المكونة من رجال الأعمال لضمان الحصول على ترشيح حزبه كممثل له في تلك الانتخابات. بالمثل يحاول المرشح الديمقراطي جمع تأييد الاتحاد العام لنقابات العمال كعنصر هام يضمن ترشيح الحزب الديمقراطي ليمثله في الانتخابات1.
في القسم الثاني، تتناول الدراسات آراء عدد من الأفراد المرموقين ممن يطلق عليهم عادة الدوائر المطلعة، والذين يطلب منهم تحديد الشخصيات التي يرون أنها في مركز السلطة والنفوذ في مجتمع ما، أي: إن تلك الشخصيات سيتم تحديد مدى تمتعها بالنفوذ والسلطة بمقدار ما تحظى به من شهرة2.
في القسم الثالث، تتناول الدراسات السلطة والنفوذ الواقعيين للجماعات الضاغطة. قد تكون هناك دراسة توضح كيف، أو إلى أي مدى استطاعت جماعة من تلك الجماعات التأثير في صنع قرار أو مجموعة من القرارات
1 Jean Meynaud، Les Groupes De Pression، op. cit.، p. 55; cf. C. Wright Mills، The power Elite، New York 1956، cited by Dyke 151; V. O. Key، Jr.، Politics، Parties & Pressure Groups، op. cit.، pp. 17، 18، 159; cf. Maurice Duverger، Les Partis Politiques. HuitiemeEd.، Prais 1973 "premiere ed. 1951"، p، 176.
2 Floyd Hunter، Community Power Structure، A study"rr" of Decision Makers، Chapel Hill 1953، reviewed in: Public Administration Review، 14، Summer 1954، pp. 205-212، cited by Dyke.، p. 152; cf.، J. Meynaud، Les Groupes De Pression، op. cit.، pp. 26ff.
المختلفة1. كما قد تجرى دراسة أخرى تتضمن محاولة لبحث تاريخ قانون ما، أو الموافقة على صرف إعانات ضخمة نتيجة لضغوط جماعات معينة في المجلس النيابي مثلا، وبحث مدى السلطة والنفوذ غير الرسميين اللذين تمت ممارستهما لإصدار القانون أو تقرير الإعانة، والوسائل المشروعة وغير المشروعة التي اتبعتها الجماعات الضاغطة في هذا المجال.
من أوضح الأمثلة على ذلك السطوة غير العادية للجماعات الصهيونية واليهودية على السواء2، وما تمارسه من وسائل الإغراء والإرهاب ضد أعضاء مجلس الكونجرس الأمريكي لإكراههم على اتخاذ مواقف تتعارض تماما مع المصالح الأمريكية، وخاصة في الشرق الأوسط وتتفق مع المصالح التوسعية، والعنصرية الضيقة لإسرائيل.
2-
العوامل الذاتية لصانعي القرار:
تختلف الدراسات هنا من حيث الطبيعة، والمجال عنها بالنسبة للدراسات الأخرى حيث يعتمد على تاريخ حياة المسئولين وخلفياتهم وسلوكهم. ويرى أنصار التحليل النفسي أن الحصول على تقرير عن الحالة العقلية لشخص ما قد يغني عن تاريخ كامل لسيرته، اكتفاء بتعرية الدوافع الكامنة لديه.
لم يجد ذلك المدخل تأييدا عاما بين علماء السياسة، وإنما تعرض لنقد شديد بسبب خلطه بين أشياء ومستويات مختلفة. فمثلا في حالة توجيه أسئلة عن الأسباب التي دعت الزعيم الروسي لينين إلى تطوير الماركسية، ووضع نظريات جديدة للقضاء على النظام القيصري بالأسلوب الثوري، وليس عن طريق الانتخابات
1 Earl Latham، The Group Basis of Politics، 1952، cited by Dyke، p. 152، M. Duverger، Les Partis Politiques. op. cit.، pp. 175-178.
2 V. O. Key، Jr.، Politics، Parties & Pressure Groups op. cit.، p. 112،
محمد محمود ربيع، أزمة الفكر الصهيوني المعاصر، القاهرة 1971، ص131.
بالمفهوم الغربي، ثم الاشتراك في صنع القرارات التي أدت إلى ثورة أكتوبر الاشتراكية وتأسيس الاتحاد السوفيتي، لا يكفي للإجابة على كل ذلك القول بأن الدوافع الكامنة لديه كانت هي حكم القيصر بالإعدام شنقا على شقيق لينين. تمثل تلك الإجابة تبسيطا ساذجا للحقيقة لا يقبله البحث العلمي. ورغم أنه لا بأس من معرفة الجذور النفسية والظروف العائلية، إلا أنه لا بد من تحليل ودراسة جوهر نظرياته ومدى صحتها وفعالياتها. إنه من غير المعقول منطقيا في رأي بريشت دحض نظريات، أو اكتشافات علمية اعتمادا على روايات وأقاصيص عن حياة الصبا أو التجارب السعيدة أو التعسة في حياة هذا أو ذاك من العلماء والمفكرين1.
هناك دراسات أخرى تركز على عدد كبير نسبيا من الأفراد الذين يكونون الصفوة في المجتمع كأعضاء المجلس التشريعي، أو قضاة المحكمة العليا. في هذه الحالة، يتم استقصاء صفات معينة كالوضع الطبقي والجذور العرقية والسن والتعليم والانتماء الديني والتدرج الوظيفي أو المهني ومستوى الدخل والميول الأيديولوجية. من البديهي أن مثل هذا الاستقصاء لا يجدي في حالة اشتراك أعداد غفيرة في صنع القرار كالناخبين مثلا. ولا مناص في هذه الحالة من الالتجاء إلى أسلوب المسح عن طريق العينة2.
1 A. Brecbt، Political Theory، op. cit.، p. 13.
2 Donald R. Mathews، The Social Background of Political Decision Makers، Garden City 1954; John R. Schmiclhauser، "The Justices of the Supreme Court: A Collective Portrait"، In: Midwest Journal of Political Science، 3، Feb. 1959، pp. 1-57; H.D. Lasswcll، et. a!.، Comparative Studies of Elites: An Introduction and Biblio-graphy، Stanford 1952، cited by Dyke، pp. 150،151; cf.H. McClosky، Political Inquiry، op. cit.، pp. 33،34.
تفيد الدراسات من هذا القبيل في تحقيق هدفين؛ فهي تزودنا بمعلومات عن نوعية الأشخاص الذين يشتركون عادة في الانتخابات، أو نوعية هؤلاء الذين يشغلون عادة مراكز قيادية في العمل السياسي أو الحكومي. كذلك تساهم تلك الدراسات في تفسير السلوك السياسي، والتنبؤ به.
من الواضح أن التوقعات التي نعلقها على مثل تلك الدراسات يمكن أن تتحقق إذا كان موضوع الاستقصاء فردا أو أفرادا قليلين، وبشرط أن تكون المعلومات المطلوبة متاحة. أما حيث تكون هناك أعداد غفيرة، فإن الاعتبارات العملية تفرض قدرا أكبر من انتقاء المعلومات المطلوبة.
معنى ذلك أنه في هذه الحالة الأخيرة لا يمكن البحث في أهداف، أو قواعد تعتبر خاصة بكل واحد من هؤلاء، وإنما الشائع هو الأخذ بالمعلومات التي يسهل الحصول عليها رغم أنها قد لا تكون هامة بالنسبة لكل أنواع القرارات. وإذا كانت المعلومات صالحة كأساس للتنبؤ، فإن الأرجح أن يغلب عليها الطابع النسبي والاحتمالي. لهذا، فقد نستطيع التنبؤ بأنه من كل 1000 شخص أن 600 منهم سيتخذون قرارا معينا، رغم استحالة التنبؤ بالقرار الذي سيتخذه كل واحد منهم على حدة.
يضاف إلى هذا ازدياد عدم القدرة على التنبؤ بسلوك فرد ما، إذا لم يدرج بالبيانات ما قد يطرأ على وضعه ودوره في المجتمع. فالشخص الذي أصبح عضوا في البرلمان، أو قاضيا قد يستمر، أو لا يستمر في التأثر في مركزه الجديد بنفس العوامل التي كانت تؤثر فيه سابقا، أو يتأثر بالعوامل التي تؤثر عادة في أفراد في مثل وضعه المادي باستثناء مركزه الجديد. بينما قد يعرض المركز الجديد هذا الشخص لضغوط وتوقعات جديدة، ويفتح أبعادا أخرى أمامه مما ينتج عنه سلوك أكثر اتفاقا مع الوضع، أو الدور الجديد.
هذا، ويجمع بعض الباحثين بين المدخلين السابقين في مدخل واحد. فبدلا من التركيز على استقصاء خلفية وظروف صانعي القرارات أو قوة وثقل
الجماعات الضاغطة، فإن المدخل الجديد الذي تركز عليه الدراسات هو على أفراد يشتركون في عملية صنع قرارات معينة. وقد تم تطبيق ذلك المدخل بأشكال مختلفة سواء تلك المرتبطة بتجارب حية من واقع الحياة، أو بتجارب معملية. ولا ننسى أن نسبة عالية من الكتابات القديمة والمعاصرة في السياسة ونظم الحكومات عالجت عملية صنع القرار، كما أن بعض الدراسات المتقدمة حول السلوك الانتخابي هي دراسات في صنع قرارات معينة عن طريق أخذ العينات، وعمل النماذج التوضيحية1.
إن أكثر الدراسات تحليلا لهذا المدخل هي دراسة ريتشارد سنايدر التي رغم اهتمامها الأساسي بالسياسة الدولية، فإنه يمكن تطبيقها أيضا في السياسة الداخلية2.
يرى سنايدر أن اللجوء لهذا المدخل يستلزم أولا وبداهة اختيار القرار موضوع البحث، وهو قرار يفترض أنه قد تم اتخاذه بالفعل، وأن الهدف هو التفسير وليس التنبؤ. جنبا إلى جنب مع اختيار القرار يتم تحديد الجهة التي صنعته، سواء أكان فردا مسئولا أو وكالة حكومية أو الحكومة بأكملها.
لكي تبدأ عملية تفسير القرار يلزم معرفة الوضع، والإطار التنظيمي الذي اتخذ في ظله ذلك القرار مع الإحاطة بالسمات المركبة التي قد ترتبط بذلك
1 Samuel J. Eldersveld.،" Theory and Method in Voting Behaviour" Research"، In: Journal of Politics، 13 Feb. 1951، pp. 70-87، cited by Dyke، p. 152; H. McClosky Political Inquiry، op. cit.، pp. 276°.
2 Richard C. .Snyder، "A Decision - Making Approach to the study of Political Phenomena"، in: Roland، Young، ed، Approaches to the study of Politics، op. cit.، pp. 3-38; R. G. Snyder،l et. al.، Decision-Making as an Approach to the Study of International Politics، Princeton 1954، cited by Dyke p. 152.
الإطار. مثلا يستدعي صنع القرارات الهامة في السياسة الخارجية أن نأخذ في الاعتبار كمية ضخمة من المعلومات الخاصة بعدد من الدول في المجالات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية.
أما إذا افترضنا أن عملية صنع القرار تمس عددا من الأشخاص، فإن أسئلة لا بد وأن تثار حول الدوافع ومجالات اختصاصاتهم وشبكة الاتصالات والإعلام المتاح. يكمل ذلك أن البيانات التي يحتاجها البحث في معظم الطرق المعروفة المشار إليها، يحتاج إليها أيضا ذلك المدخل الذي يركز على الأشخاص في عملية صنع القرار.
من الواضح أن هؤلاء الأشخاص قد يتأثرون بنشاطات جماعات الضغط، وأن النتائج التي سيصلون إليها قد تكون محكومة بأوضاعهم، وظروفهم الخاصة مما يمكن معه تصنيف المدخلين السابقين اللذين تناولا عملية صنع القرار ضمن هذا الأخير. هذا. وقد تكون الرغبة في السلطة من بين الدوافع التي تتضمنها عملية صنع القرار تماما، كما هو الحال بالنسبة لبعض المعلومات التي قد تكون لها علاقة به كالمعلومات السيكولوجية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، أو الإطار القانوني، أو العرفي الذي تتم داخله هذه العملية.
تكمن نقطة الضعف الرئيسية لهذا المدخل في طابع الشمول الذي يتصف به. فإذا تم فعلا دراسة القرارات بالشكل الشامل الذي يقترحه تحليل سنايدر، فإن عددا قليلا نسبيا من تلك القرارات هي التي سيكون ممكنا عمليا وضعها قيد البحث. ولا يساعد الإطار الذي يقترحه على تبسيط وتسهيل المهام المطلوبة؛ لأنه يشير إلى احتمال ارتباط قدر كبير من البيانات بالقرار، دون تقديم معايير للاختيار بينها.
وإذا سلمنا بأن عملية التفسير العلمي يجب أن تكون من الناحية الواقعية عملية انتقائية، لتبين لنا أن الإطار الذي يضعه سنايدر يقترح وجهة نظر مضادة ترى أن يغطي الشرح والتفسير كل شيء. وفي هذا المجال قد يكون مفيدا
الإشارة إلى رأي هيربرت سايمون بأن القرار هو "وحدة ضخمة جدا للتحليل، وأنه يجب تقسيمه إلى الفروض المكونة له"1.
3-
نظرية اللعبة Game theory:
يمكن تعريف تلك النظرية التي وضعها فون نيومان بأنها مجموعة من العمليات الرياضية التي تهدف إلى إيجاد حل لموقف معين يحاول فيه الفرد جاهدا أن يضمن لنفسه حدا أدنى من النجاح عن طريق أسلوبه في المعالجة رغم أن أفعاله وأسلوبه لا تستطيع تحديد نتيجة الحدث بشكل كامل، وإنما مجرد التأثير فيه2.
ويلجأ بعض العلماء إلى هذه العمليات الرياضية كوسيلة مستحدثة في دراسة عملية صنع القرار حيث يشبهون صانعي القرارات باللاعبين في بعض ألعاب التسلية كالشطرنج، والبوكر، والبريدج. وكما أن تصرفات هؤلاء اللاعبين تخضع لقواعد وحسابات دقيقة، فإن تصرفات صانعي القرارات تخضع أيضا لقواعد وحسابات يمكن دراستها بمنهج رياضي، يساعد على التنبؤ بما ستكون عليه قراراتهم، وما ستكون عليه نتائج هذه القرارات.
ويتشابه اللاعبون وصانعو القرار في وجود قدر معين من التعاون، والتنازع يسمح بإجراء المقارنة بين العمليتين، فالمشاركون في لعبة البوكر مثلا يصطنعون طريقة الإيهام، ويتبادل لاعبو البريدج الإشارات. ويتطلب كل من الإيهام أو تبادل الإشارات معلومات تشبه تلك التي يحتاج إليها صانعو القرار قبل اتخاذ قراراتهم. وتتوقف اللعبة على نوع المعلومات المتبادلة تماما كما يتوقف
1 Herbert Simon، Administrative Behaviour، quoted by Dyke p. 153.
2 Julius Gould، William L. Kolb، eds.، A Dictionary of the Social Sciences، UNESCO، New York 1964، p. 280،
حسن صعب، علم السياسة، الطبعة الرابعة، بيروت 1976، ص216.
القرار السياسي على المعلومات التي تتوفر لصانعي القرارات في تعاونهم، أو تنازعهم قبل التوصل إلى قراراتهم. كما يتشابه الطرفان أيضا في حرية الحركة الناتجة من القدرة على الإيهام والتكتل والتواطؤ والمساومة، ومن ثم يتوقف نجاح اللاعب أو صانع القرار على إتقانه لتلك الأساليب.
أي: إن النظرية هي عبارة عن محاولة لإيجاد حل بالمعادلات الرياضية لمشكلة اختيار الإستراتيجية المثلى "للاعب" مع أخذ التصرفات المحتملة لخصمه، أو خصومه في الاعتبار. وحيث يكون هناك أكثر من خصم، فإن الإستراتيجية الممكنة هي عمل توفيق أو اتفاق بشرط ألا يكون ذلك ممنوعا بحكم قواعد اللعبة.
ورغم أن تلك النظرية يمكن استخدامها لتحليل ألعاب التسلية البحتة كالبوكر، فإن أهميتها للمتخصصين في العلوم الاجتماعية تكمن في التشابه بين ألعاب التسلية التي تشتمل على وضع إستراتيجية، وبين كثير من مواقف الحياة الواقعية التي يدرسها هؤلاء المتخصصون. مثال ذلك المشاكل الاقتصادية للتسعير في ظل المنافسة غير الكاملة، وكذلك مشاكل المساومة الجماعية.
تشير كلمة اللعبة في هذه النظرية إلى مجموعة الاصطلاحات والقواعد المتبعة في اللعب، وليس لعملية اللعب الفعلية ذاتها. من ناحية أخرى، تعتبر النظرية مدخلا لبناء نموذج يهدف إلى توضيح الخاتمة التي قد تنتهي إليها مواقف الصراع. لهذا يرى البعض أن النظرية نموذج لمواقف الصراع بين أناس متعددين حيث تكمن الوسائل الرئيسية للحل في التواطؤ، أو التوفيق1.
ويهدف دارسو هذه النظرية إلى تطوير خطة قد تساعد صانعي القرار على اختيار مشروع عمل وإستراتيجية لمواجهة موقف يتضمن نوعا من المنافسة
1 R. D. Luce، H. Raiffa، Games and Decisions، New York 1957، p. 10، lbid.، p. 280.
أو الصراع مع اللجوء إلى التبسيط، على أمل أن يتيح ذلك سلامة إدراك الموقف، والذي يتعذر تحقيقه بغير ذلك.
هذا التبسيط يمكن أن ينعكس في افتراض وجود عدد ضئيل جدا من الأحزاب في حلبة الصراع -اثنين أو ثلاثة عادة- وأن البدائل المطروحة للاختيار أمام كل حزب ضئيلة أيضا، وأن الأهداف التي يسعى إليها كل حزب أو المعايير التي تأخذ بها تلك الأحزاب في الحكم على الأشياء معروفة للجميع. وحيث إن بعض اللعبات -كالبوكر مثلا الذي سبقت الإشارة إليه- تتضمن شكلا مبسطا من المواقف التي تقتضي صنع القرار، فإن دراسة المشاكل أخذت تميل إلى مثل هذه اللعبات، وأصبحت المادة كلها تسمى نظرية اللعبة1، أي: نظرية القواعد والضوابط التي يؤخذ بها في مثل تلك المواقف، أو بالقياس عليها.
لقد أصبح هذا المدخل الخاص بدراسة مشاكل الصراع والإستراتيجية مستعملا أيضا في المناقشات النظرية السياسية الدولية، والتخطيط العسكري رغم عدم وجود اتفاق بين المعنيين على إمكان تحقيقه لأية فائدة عملية. فمثلا لخص أحد علماء الاجتماع الفكرة الأساسية في النظرية في معرض دراسته لدور العسكرية الأمريكية بقوله: إنه إذا حدثت تحركات أمريكية حفزت الخصم إلى تصرف معين وترتب على ذلك ردود فعل أمريكية، فإنه عن طريق أخذ ردود الفعل تلك في الاعتبار يمكن رسم إستراتيجية تهدف إلى دفع الخصم، أو إرغامه على اختيار أسلوب عمل مناسب للسياسة الأمريكية.
رغم ذلك، فإنه يصر على أن وضع نظرية اجتماعية للعلاقات الدولية مبنية على نظرية اللعبة تلك، يبدو وكأنه أمل لا يمكن تحقيقه؛ لأن الأخيرة لم تذهب في مجال وضع الفروض والمفاهيم إلى أبعد من مجرد الاعتماد على الحدس في
1 Dyke، pp. 153، 154.