الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفكر المادي والمثالي منذ مئات القرون1. يقول إنجلز في ذلك: "نحن لا ندافع أبدا عن وجهة النظر الهيجلية التي تتخذ من الروح أو العقل أو الفكرة نقطة بدء، وتعتبر العالم الواقعي نسخة من هذه الفكرة، ولقد سبقنا فويرباخ إلى ذلك ورفضها
…
ولكن بعد ذلك كله يبقى الجدل الهيجلي".
الخلاصة هي: أنه بينما يتفق ماركس مع هيجل على المنهج الجدلي، فإنهما يختلفان حول طبيعته. ويشرح ماركس ذلك في إحدى مراسلاته، قائلا:"إن دورينج يعرف تماما أن منهجي ليس هو المنهج الهيجلي طالما أني مادي وهيجل مثالي. إن الجدل الهيجلي هو الصورة الأساسية لجميع أنواع الجدل، ولكن بعد أن ننزع عنه غلافه المثالي، وهذا بالضبط هو ما يميز منهجي عن منهجه"2.
1 انظر الفصل الخامس أعلاه.
2 F. Engels، Anti-Duhring، op. cit.، pp. 457، 458، Selected Corresponence، p. 100.
أشار إليها إمام عبد الفتاح إمام، المنهج الجدلي عند هيجل، مرجع سابق، ص335.
المبحث الثاني: المنهج الجدلي المادي
يقول هيجل: إن الحقيقة ليست مجموعة من المبادئ المقررة، إنما هي عملية تاريخية وانتقال من درجات دنيا إلى درجات عليا في المعرفة، وحركتها هي حركة العلم نفسه. أما العلم، فإنه لا يمكن أن يتقدم إلا بنقد نتائجه هو باستمرار والقدرة على تخطيها. أي: إن محرك كل تغير عند هيجل هو صراع الأضداد.
رغم ذلك يعتبر الماركسيون هيجل مفكرا مثاليا؛ لاعتقاده بأن الطبيعة والتاريخ البشري هما مظهران للفكرة المطلقة، أي: إن الوجود المادي نتاج للفكرة. يعلق إنجلز على ذلك بقوله:
"إن التطور الجدلي الذي يظهر في الطبيعة والتاريخ، أي: التسلسل العلمي للتقدم في سيره الحتمي من الأدنى إلى الأعلى خلال كل الحركات الملتوية، والتراجعات المؤقتة. هذا التطور الجدلي عند هيجل ليس
…
إلا انعكاسا للحركة الكامنة الذاتية للفكرة
…
وهذا الوضع الفكري المقلوب هو الذي كان يهمنا استبعاده. فقد اعتبرنا.... أفكار مخنا، من وجهة النظر المادية، انعكاسات للأشياء بدلا من أن نعتبر الأشياء الواقعية انعكاسات لهذه المرحلة أو تلك من مراحل الفكرة المطلقة. ومن هنا تحول الجدل إلى علم القوانين الكلية للحركة في العالم الخارجي، وفي الفكر البشري على السوء
…
"1.
يعلق ماركس أيضا: "إن منهجي الجدلي لا يختلف في أساسه عن المنهج الهيجلي فحسب، بل هو نقيضه تماما. فحركة الفكر التي يجعلها هيجل ذاتا يسميها الفكرة، هي عنده صانعة الواقع، وليس هذا الواقع إلا الصورة الظاهرية للفكرة. أما عندي، فحركة الفكر ليست على العكس إلا انعكاسا للحركة الواقعية منقولة، ومحولة إلى المخ البشري"2.
يعزو الماركسيون هذا الانقلاب في موقف ماركس وإنجلز من فلسفة هيجل إلى التقدم الكبير الذي أحرزته العلوم الطبيعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر مما حدا بهما إلى التفكير في أن الجدل يقوم على أساس موضوعي. ومن هذه الاكتشافات العلمية الحاسمة:
- اكتشاف الخلية الحية التي تترقى منها أشد العضويات تركيبا.
- اكتشاف تحول الطاقة. فالحرارة والكهرباء والمغناطيسية والطاقة الكيماوية
1 F. Engels، "Ludwing Feuerbach and the End of Classical German Philosophy"، op، cit.، pp. 358، 486،
المبادئ الأساسية للفلسفة، مرجع سابق، ص34-36.
2 Karl Marx، Capital، op. cit.، p. 19.
وغيرها هي صور مختلفة كيفيا لواقع مادي واحد.
اكتشاف داروين في كتابه أصل الأنواع أن كل الكائنات الحية نتاج تطور طبيعي اعتمادا على بحوثه في علم الحفريات، وعلى الحيوانات المختلفة1.
هذا بالإضافة إلى تقدم العلوم الأخرى مثل نظرية كانت ولابلاس التي تفسر المجموعة الشمسية بإرجاعها إلى سديمية من السديميات، ومولد علم الجيولوجيا التي ساعدت كلها مجتمعة على فهم الطابع الجدلي للطبيعة بوصفها وحدة لكل هائل في صيرورة، أي: في حالة تحول مستمر وفقا لقوانين حتمية وتولد باستمرار وجوها جديدة، وإدراك أن النوع البشري والمجتمعات البشرية هي لحظة في هذه الصيرورة الكونية2.
يضيف الماركسيون أن تأصيل المنهج الجدلي، وزيادة خصوبته كانتا تسيران جنبا إلى جنب مع تقدم العلوم الطبيعية. فمثلا لم يستطع المفكرون الماديون قبل ماركس -ديدرو، هيلقيشيوس في القرن الثامن عشر- اكتشاف المنهج الجدلي؛ لأن علوم المادة الحية كانت لا تزال في مهدها. فالمادية الجدلية نفسها لم تظهر إلا بعد التقدم العلمي الذي أثبت فكرة التطور وتغير نوع إلى آخر، وهي الفكرة الجدلية الأولى.
ولا يجب أن ننسى أنه في القرن الثامن عشر أيضا كانت الميكانيكا العقلية لنيوتن هي السائدة، وهي التي لم تكن تعرف سوى أبسط أشكال الحركة أي: التغير المكاني وإنكار التحولات الكيفية في الطبيعة. ولعل هذا هو السبب في تسمية مادية القرنين السابع عشر والثامن عشر بالمادية الميكانيكية3 التي
1 F. Engels "Ludwig Feuerbach" op. cit.، pp. 374، 388.
2 F. Engels، "Ludwig Feuerbach"، op. cit.، 373.
3 lbid، p. 372، V. Afanasyev، Marxist Philosophy، op.، cit.، p
.15.
يعتبرها الماركسيون ميتافيزيقية؛ لعدم فهمها لحقيقة التغير وتجاهلها لصراع الأضداد بصفة خاصة.
ما هو الجدل إذًا؟ وما هو دوره؟ وما هي علاقته بالميتافيزيقا؟ يقول إنجلز: "ينظر الجدل إلى الأشياء والتصورات في تسلسلها، وفي علاقاتها المتبادلة وفعلها المتبادل والتحول الذي ينتج عن ذلك، وفي نشأتها وتطورها وانهيارها".
هكذا يتعارض الجدل من جميع النواحي مع الميتافيزيقا ليس لأنه لا يعترف بالسكون، ولا بالفصل بين مختلف وجوه العالم الواقعي، بل لأنه يرى في السكون وجها نسبيا من وجوه الواقع بينما الحركة مطلقة، كما يرى أن كل فصل بين الأشياء هو فصل نسبي؛ لأنها تترابط بطريقة أو بأخرى وتتفاعل كلها مع بعضها1.
يهتم الجدل بالحركة في كل عصورها سواء كانت تغيرا مكانيا، أو تغيرا من حالة كمية إلى أخرى كيفية، ويفسرها على أساس قانون صراع الأضداد الذي يعتبر أهم قوانين الجدل. فكل الأشياء والظواهر تحتوي على جوانب متعارضة، وإن كانت مرتبطة عضويا؛ ومن ثم تشكل الوحدة التي لا تنفصم بين الأضداد.
نشاهد ذلك في التناقضات بين السالب والموجب داخل الذرة، وفي التفاعلات الكيميائية، وفي الخصائص المتعارضة للكائن العضوي بين المحافظة على الصفات الوراثية وبين القدرة على تطوير صفات جديدة بهدف التكيف مع الوسط والبيئة، وفي النشاط الذهني للإنسان بين الانفعال والكبت، وفي عمليات المعرفة بين الاستقراء والاستنباط والتحليل والتركيب وفي المجتمع الواحد بين أمراء الإقطاع والأقنان أو بين الرأسمالية والعمال. وبينما يعزل الميتافيزيقي بين الأضداد، يرى الجدلي استحالة وجود بعضها دون البعض الآخر، وإن كل حركة أو تغير أو تحول لا يفسره إلا صراع الأضداد2.
1 F. Engels، Anti-Duhring، op.، cit.، p. 459.
2 المبادئ الأساسية للفلسفة، ص32، 33،
V. Afanasyev، op. cit.، 98، 99.
يقول إنجلز: "كل كائن عضوي يكون في كل لحظة هو نفسه وليس هو نفسه؛ لأنه في كل لحظة يتمثل مواد غريبة ويستبعد أخرى. وبعد زمن طويل أو قصير تكون مادة هذا الجسم قد تجددت تماما، وحلت محلها ذرات أخرى من المادة.
وإذا نظرنا إلى الأشياء عن كثب، لوجدنا أيضا أن قطبي تناقض ما، كالموجب والسالب مثلا، لا ينفصلان بقدر ما هما متنافران. فبالرغم من أن لكل منهما قيمة النقيض antithesis فهما متداخلان تداخلا مشتركا. وشبيه بذلك العلة والمعلول "أو السبب والنتيجة" فهما تصوران لا قيمة لهما إلا عند تطبيقهما على حالة جزئية.
إلا أنه بمجرد النظر إلى هذه الحالة الجزئية في ارتباطها الكلي بمجموع العالم، يذوب هذان التصوران وينحلان بالنسبة إلى الفعل المتبادل الشامل الذي تستبدل فيه العلل والمعلولات بعضها بعضا باستمرار. فما كان الآن أو ههنا معلولا يصبح علة هناك أو فيما بعد، والعكس بالعكس"1.
يسير الأمر على نفس الوتيرة في المجتمع، حيث توجد وحدة وصراع الأضداد في صورة صراع الطبقات، كما أن صراع الأضداد هنا كما هو محرك للتطور هو أيضا محرك للفكر2.
تتضح من ذلك الأهمية الكبيرة التي يحتلها الجدل في هذا المنهج المادي؛ ولهذا نشير إلى أهم معانيه طبقا للمفهوم الماركسي. فالجدل قد يعني واحدة أو أكثر من النقاط التالية، فهو:
- فن البحث في حقيقة الآراء، واختبار مدى صحة المناقشة.
- المناقشة المنطقية.
1 F. Engels، Anti-Duhring، op.، cit.، 35، 36.
2 V. Afanasyev، Marxist Philosophy op. cit.، pp. 99 ff.
- نقد التناقضات الميتافيزيقية، والحلول التي تقدم وفقا لها.
- دراسة التناقض في جوهر الأشياء.
- دراسة القوانين التي تفسر تطور المجتمع.
وأخيرا، ودون الدخول في تفصيلات جديدة، تجدر الإشارة إلى القوانين الثلاثة الأساسية التي تبنتها المادية الجدلية، وهي: وحدة وصراع الأضداد كمحرك للتطور، الانتقال من التغيرات الكمية البطيئة إلى التحولات الكيفية العنيفة والمفاجئة، نفي النفي أي: انتقال الفعل أو الإدراك أو المعرفة بعد سلسلة من العمليات إلى مرحة أعلى وأرقى.