الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على كافة أوجه العصبية بالشكل الذي شرحناه آنفا. ولكن بعد أن يخرج الترف عن الحد ويسود الفساد والظلم، فإن فرعا من فروع العصبية الذي لا يزال يحتفظ بالصفات الأولى من صلابة، وحيوية قد يلعب دور السبب مرة أخرى في إحداث صراع صغير على السلطة بين الأجنحة المتنازعة للعصبية، ويولي حاكما جديدا مكان الحاكم الضعيف1.
يتضح من هذا استحالة اتخاذ موقف جامد من العلاقة بين العصبية والعمران البشري -سواء كان يدويا أو حضريا- بمعنى أن أيا منهما لا يمكن اعتباره سببا مطلقا، أو نتيجة مطلقة.
وأخيرا نستنتج أن ابن خلدون كان يعتقد بوجود علاقة ديناميكية بين الأسباب، والنتائج لا تترك أيا منها في مكانها بشكل جامد. فالأسباب لا تظل دائما أسبابا وكذلك الحال بالنسبة للنتائج، وإنما هناك حركة وتغير دائمان وحلول للأسباب محل النتائج وبالعكس وذلك في سلسلة متصلة من ردود الفعل المتبادل.
1 M. M. Rabie، The Political Theory of lbn Khaldun، op. cit. pp. 54، 55.
الفرض الرابع: القيود المفروضة على التعليل المثنوي، والميتافيزيقي
أ- القيود المفروضة على التعليل المثنوي، أو الثنائي:
حتى نستطيع إثبات النصف الأول من هذا الفرض المنهجي نشير بداءة ذي بدء إلى ظاهرتين يمكن ملاحظتهما من خلال مناقشاتنا السابقة. الأولى: أنه يبدو أن ابن خلدون في تناوله للمسائل الإيمانية ودور الدين في العمران كان يلجأ إلى القرآن الكريم، والسنة النبوية؛ ليستلهم منهما الإجابة على ما يعترضه من موضوعات. والثانية: أنه فيما خلا هذا الميدان كان يطبق الأسلوب العقلاني ليفسر كافة الظواهر ذات الطبيعة الزمنية. ولكن الأهم في نظرنا هو أنه لم يطبق هاتين الظاهرتين من طرق المعالجة بشكل جامد، أو في عزلة تامة عن بعضهما
وإنما استعان أحيانا بهما معا وفي نفس الوقت؛ لإثبات ظاهرة واحدة من الظاهرتين اللتين أشرنا إليهما الآن. وفي المقدمة أمثلة كثيرة على ذلك، منها مثلا رأيه حول عودة المسيح أو المهدي وهو رأي لا يمكن إدراجه تحت أي من الطريقتين المشار إليهما. فمن ناحية يسلم ابن خلدون بوجهة نظر الدين بشأن عودة المسيح ويعتبرها حقيقة غير قابلة للمناقشة. ومن ناحية أخرى فهو لا يكتفي بمجرد التحليل الديني للموضوع، بل يعبر عن عدم رضائه على الخرافات التي يلصقها البعض به، ويطبق نتائج دراساته فيضع ثلاثة شروط مادية يرى أنه لا بد من توافرها لعودة المسيح، وهي: ضرورة ظهوره بين جماعة قوية تلم شملها قوة العصبية لتشد أزره، وأن يكون متمتعا بصفات الزعيم حتى يستطيع تحقيق أهدافه، وأن يولد في ظروف تؤدي إلى بناء دولة قوية1.
وهناك مثال آخر في هذا الشأن هو وجهة نظره في قيمة، ودور العمل الإنساني. وقد سبق الاستشهاد برأيه في نهاية مناقشتنا للفرض الأول أعلاه، إذ يقول: "فالكل من عند الله. فلا بد من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتمول
…
".
ب- القيود المفروضة على التعليل الميتافيزيقي:
لإثبات النصف الثاني من الفرض المنهجي قد يكفي أن نسترجع بعض الأساليب الهامة التي ابتكرها ابن خلدون، وناقشناها في فروضنا السابقة؛ وذلك لتبيان مدى الاختلاف بين منهجه والمنهج الميتافيزيقي. وفي الواقع تكمن الخلافات الأساسية بين الاثنين في عدة نقاط أهمها:
- إيمانه بحتمية التغيير الاجتماعي الدائم.
- العلاقة الديناميكية بين الأسباب، والنتائج.
- الاهتمام الكبير الذي أولاه لدور المتناقضات في حياة الجماعة.
وحتى نتلافى تكرار ما سبق إثباته، سنناقش بإيجاز بعض الأمثلة الهامة لتلك
1 lbid.، pp. 37. 43، 44.
الخلافات، وخاصة ما يتعلق منها بدور المتناقضات في النتائج التي توصل إليها.
1-
اختلف ابن خلدون مع المنهج الميتافيزيقي في شرحه لظواهر مثل العمران، البداوة، الحضارة والعصبية. فقد كشفت كتاباته أنه يعتبر كلا منها ظاهرة مركبة قابلة للتغيير والانتقال من شكل إلى آخر. فالعمران مثلا قد يكون يدويا أو حضريا. والعمران البدوي "أو البدائي" نفسه ليس له شكل محدد؛ لأن نوع الحياة المتخلفة التي يعبر عنها قد توجد في الصحراء أو الجبال أو القرى الصغيرة. وبالمثل، فإن ظواهر مثل العمران الحضري والعصبية ليس لها شكل مفرد أو محدد. هذا علاوة على أنه بتغيير أسلوب الحياة المادية، فإن الملامح المميزة لهذه الظواهر ووظائفها -كما في حالة العصبية- تتغير بالتبعية1. فالتغيير من شكل إلى آخر، أو من مرحلة إلى أخرى كثير الحدوث، ويخضع للتغيرات البيئية المحيطة التي تحدث في العمران البشري.
2-
اختلف ابن خلدون مع المنهج الميتافيزيقي أيضا في تحليله لجوهر كل ظاهرة على حدة، وكشف أن كلا منها قد تحتوي على صفات الخير والشر في نفس الوقت2، أي: إن الشيء الواحد، أو الظاهرة الواحدة يمكن أن تتضمن صفات وعناصر متناقضة. فمثلا يتميز الناس الذين يعيشون في ظل البداوة بالشجاعة والفضيلة وعدم الالتواء، ولكنهم في نفس الوقت أجلاف متخلفون وينقصهم الأخذ بأسباب الحياة المنظمة. وبالإضافة إلى تحليل جوهر كل ظاهرة، تعرض ابن خلدون لأشكال هامة أخرى من التناقض تتولد من العلاقات المتشابكة للقوى الاجتماعية. من ذلك النظريات التي وضعها عن نمو واضمحلال الإمبراطوريات،
1 المقدمة، طبعة وافي، صفحة 407 وما بعدها. لدراسة أشمل لتأثير مثل هذا التغيير على وظائف العصبية، انظر مؤلفنا:
The political Theory of lbn Khaldun، op. cit. op. 52.
2 كذلك: علي الوردي، منطق ابن خلدون، مرجع سابق، صفحات 78-81.
وعن أسباب دورات هذا النمو والاضمحلال1. ويمكن ملاحظة فكرة التناقض في خلفية كثير من آرائه. مثال ذلك التناقض الرئيسي بين أسلوب الحياة البدائية وأسلوب الحياة الحضرية، وهو التناقض الذي ينبع منه تناقضات كثيرة فرعية. فالجماعات البدائية تتصارع حتى تستطيع الجماعة التي تعيش أكثر أنواع الحياة خشونة -وبالتالي تتمتع بأقوى مشاعر العصبية- التغلب على الجماعات الأخرى، وفرض سيطرتها عليها. وينشأ التناقض التالي بين هذه الجماعة الموحدة القوية الشكيمة، وبين دولة حضرية مجاورة آيلة للتحلل ويتمخض الصراع بينهما إن آجلا أو عاجلا عن انتصار الجماعة البدوية الموحدة واستيلائها على الدولة الضعيفة. إلا أن الأطماع الشخصية والظروف السياسية الجديدة التي لم يألفوها تمثل خطرا بالنسبة لنظام حكمهم الجديد، ويتولد عن ذلك صراع قوي داخل الجماعة التي كانت يوما ما موحدة وذات عصبية قوية. ويتزايد العداء بين أعضاء الجماعة، وبين قائدهم الذي استولى على سلطة الملك؛ وذلك بسبب محاولته الاستئثار بالحكم دونهم. ولتدعيم سلطته وتقويتها في وجه أبناء عصبيته يستورد الحاكم مرتزقة لمساندته، ويؤدي الموقف الجديد إلى تناقض آخر بين العصبية التي أقصيت عن الحكم وبين المرتزقة الجدد، وهو تناقض ينذر بالخطر ليس فقط لأن أهل العصبية يتخلون عن قائدهم، وعن مساندة الهدف المشترك الذي جاء بهم إلى الحكم، وإنما أيضا لاشتراكهم في مؤامرات من أجل أحداث تغيير قد يكون في صالحهم. ويزيد تدهور الموقف بسبب الفوضى الاقتصادية والاضطرابات السياسية، وهي ظروف مناسبة تعطي
1 يدرج بعض العلماء المعاصرين ابن خلدون ضمن المفكرين الذين تشكل فكرة صراع المتناقضات ركنا أساسيا في نظرياتهم. انظر في ذلك:
H. Becker and H. Barnes، Social Thought from Lore to Science ، New York، 1961 (ifirst published in 1938) pp. 706-708; Don Martindale Communirty Character and Civilization London 1963، pp. 119 ff.
الفرصة لجماعة بدوية جديدة تبحث عن حياة الراحة والرفاهية في المدن. ويصل التناقض إلى مرحلة الصدام، وتسقط الدولة بتكتلاتها المتصارعة، وينشأ نظام حكم جديد، وتبدأ دورة أخرى من حلقات العمران بتناقضات جديدة.
3-
والنقطة الهامة الأخيرة في الخلاف بين المنهج الخلدوني، والمنهج الميتافيزيقي هي العلاقة التي يمكن تتبعها في مناقشاته بين عاملي الصراع والتغيير، وقد تساعدنا آراء ابن خلدون في تطور العصبية على توضيح ذلك. إذا تتبعنا تسلسل دراساته نجد أن العصبية في العمران البدوي تلعب دورا حاسما وتقوم بمهمة القوة الموحدة للجماعة. ولكن بعد الانتقال إلى العمران الحضري يحدث صراع بين القوى المكونة للعصبية بسبب ما سبقت الإشارة إليه من محاولة زعيمها -الذي أصبح ملكا- الاستئثار بأبهة الحكم لنفسه، واستبعاد قوة العصبية التي جاءت به إلى السلطة. ويتضافر الاضطهاد الذي يتعرض له أفرادها مع التأثيرات الضارة الناجمة عن انغماسهم في النعيم والملذات على كسر شوكة العصبية، وانحلال عقدها تدريجيا. ولكن حيث إن هدف العصبية كما يشرح ابن خلدون هو بناء نظام حكم ملكي والانتقال من شقاء البداوة إلى نعيم الحضارة، فإننا نستخلص من ذلك النتائج الآتية:
- تساعد العصبية على خلق الظروف التي تؤدي إلى الصراع ثم إلى إحداث التغيير.
- العصبية تجسيد للعناصر الكامنة التي تعمل على إحداث مثل هذا الصراع.
- تؤدي العصبية بذلك إلى تدمير نفسها بنفسها1.
ملاحظة أخيرة حول مغزى المنهج الخلدوني للعلوم الإنسانية:
شرحنا في مقدمة هذا البحث كيف أدت التفسيرات الجزئية للمنهج الخلدوني -والتي استعرضناها في مستهل بحثنا- إلى صعوبة التوصل إلى حد أدنى من الاتفاق على الملامح الأساسية لهذا المنهج، والأسس التي ينبني عليها رغم الكتابات القيمة التي تعرضت للموضوع وخاصة في السنين الأخيرة.
1 M. m. Rabie، The Political Theory of lbn Khaldun، op. cit. p. 46.
وبعد مناقشتنا للفروض المنهجية الأربعة لعلم العمران نستطيع التقدم بإجابات متوازنة عن الأسئلة التي سبق أن وجهناها في بداية البحث1. فقد كان مما يدعو إلى القلق أن يؤدي التعارض الشديد في الآراء حول منهجه أن يظن قارئ المقدمة أن هذا المنهج يفتقر إلى التماسك، وإلى خط واضح مميز. وفي الواقع كان من الممكن أن نصل إلى هذه النتيجة -كما أوضحنا- لو أجرى البحث بشكل جامد وعلى أساس التفرقة بين الظواهر بأسلوب الأبيض والأسود. ولكن مثل هذه الطرق والأساليب غير العملية في البحث مضللة، علاوة على أن ابن خلدون نفسه عارض التفسيرات الجامدة للأحداث والظواهر كما عارض أيضا التفسير الجامد لبعض المبادئ التي كانت مطبقة في الخلافة الإسلامية2، وفضل على ذلك التفسيرات والمفاهيم النسبية.
فمثلا إذا قصرنا دراستنا لكتابات ابن خلدون على العلاقة المتبادلة بين الدين والمجتمع، فإن النتيجة التي سنخرج بها هي أنه مفكر مثالي. وبالمثل إذا قصرناها على تفسيراته الاقتصادية، أو حججه المادية الكثيرة التي استعان بها، فإننا سنعتقد أنه مفكر مادي. وحيث إننا لا نستطيع أن نلجأ إلى مثل هذا التكنيك في تحليلنا؛ لأن المفكر الذي نتعرض لمنهجه بالدراسة هو نفسه الذي طبق كلا من الأسلوبين المشار إليهما، فإنه يصبح من غير المأمون دمغ منهجه بأي من هذين التعميمين المتطرفين المشتقين كل على حدة من أسلوب معالجة يبدو ثنائيا في الظاهر. لهذا فإننا لا نستطيع القول: إن منهجه يستند فقط إلى أساس ديني كما لا نقدر على دمغه بأنه مادي. والاستنتاج الذي يمكن أن نخرج به من كل مناقشاتنا هو أنه منهج مركب، وجديد يضاعف من قيمته وأصالته أن ابن خلدون -وهو المؤمن الغيور على الدين- لم يسبق بأي مفكر من أية عقيدة سياسية أو دينية نجح في التوصل إلى ما توصل إليه من معالجة علمية مبتكرة
1 انظر أعلاه صفحة 55.
2 راجع في ذلك دراستنا لموقفه من العلاقة بين تدهور الخلافة الإسلامية وظاهرتي تنصيب خليفتين في آن واحد والتخلي عن مبدأ القرشية أي: عن شرط أن يكون الخليفة من قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قبيلة "قريش". فبالنسبة للظاهرة الثانية مثلا نلاحظ أسلوبه =
للعلاقات المتبادلة بين العوامل الاقتصادية، والظواهر الاجتماعية.
والنقطة الأخيرة التي نريد إيضاحها هي أن منهج ابن خلدون كمفكر عبقري لا يمكن بحثه كظاهرة منعزلة في ميدان دراسة المناهج وعلاقاتها بالنظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهو بهذا يستحق منا نظرة شاملة أخيرة قد تلقى الضوء على مكانه في حقل دراسة المناهج. وسواء ترك علم العمران والمنهج الخلدوني آثارهما على المفكرين السياسيين والاجتماعيين1 الذين جاءوا بعده أم أن منجزاته العلمية ظلت مجهولة، فإن هذا لا يقلل بحال من الأحوال من الحاجة إلى إعادة النظر في تطور المناهج العلمية في العلوم الإنسانية، والاعتراف بفضله في هذا المجال.
ويقدم بحثنا الموجز هذا بعض المؤشرات الإيجابية على أن منهج ابن خلدون يمكن اعتباره مرحلة متوسطة بين المناهج المجردة التي كانت سائدة قبله في العصور الوسطى من جانب، وبين المناهج الوضعية والمادية لكبار المفكرين الذين ظهروا بعده وخاصة في أوروبا من جانب آخر. هذا علاوة على أن استحالة تصنيف منهجه بشكل مطلق، وحاسم تحت عناوين ميتافيزيقية أو مادية لهو دليل آخر على أنه يمثل مرحلة انتقال بين الاثنين.
= العلمي في عدم التمسك الجامد بمبدأ جرت العادة على تطبيقه، وذلك على أساس أنه ما دامت عصبية العرب عامة، وعصبية قريش خاصة قد فقدت القوة التي بها يكون الحكم والمحافظة على المصالح العامة، فإن مثل هذا الشرط في رأيه أصبح لا ضرورة له. ويختلف موقفه هذا عن موقف الفقهاء الذين اتخذوا موقفا جامدا بإصرارهم على ضرورة مراعاة شرط القرشية حتى ولو افتقر الخليفة الجديد إلى المساندة، والقوة اللتين تمكنانه من تنفيذ المسئوليات والشروط الأخرى لتولي منصب الخليفة.
1 ينادي بعض العلماء بضرورة القيام بمزيد من الدراسات لبحث أوجه الشبه الهامة بين الأفكار التي أوردها ابن خلدون في علم العمران، وآراء بعض المفكرين الذين جاءوا بعده مثل بودان وأوجست كونت. انظر في ذلك تمهيد الدكتور علي عبد الواحد وافي لمقدمة ابن خلدون صفحة 177، كذلك الدكتور عبد العزيز عزت "تطور المجتمع البشري عند ابن خلدون" في أعمال مهرجان ابن خلدون، مرجع سابق، صفحات52، 53، كذلك:
H. Becker، and Harry Elmer Barnes، Social Thought from Lore to Science، op. cit.، p. 349.