الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أنه لا بد من كلمة حق تقال في هذا المجال، وهي أن تلك المشكلة الأخيرة يعاني منها الباحثون بشكل نسبي، وبدرجات متفاوتة. بمعنى أنه يندر أن يتجرد هؤلاء في اختيارهم للمشاكل أو في أبحاثهم عموما من تأثير ولاءاتهم أو انتماءاتهم السياسية والدينية والاجتماعية، وإن ادعى كثيرون بغير ذلك، فالموضوعية في البحث العلمي -كما هو معروف- شيء نسبي1.
= Economic Theory and Underdeveloped Regions، London 1957، pp. ioiff.; Ajit Kumar Biswas،.htm''Some Observations on Methodological Issues In Economic Research"، In: A.K. Dasgupta، Methodology of Economic Reasearch، London 1968، pp. 138، 139.
1 A. Brecht، Political Theory، op. cit.، pp. 2986°.; C.J. Friedrich، Man and His] Government، op. cit.، pp. 67ff.; cf. D.C. Schwartz، "Toward1 a More Relevant and Rigorous Political Science"، op. cit.، p. 119.
المبحث الثاني: مداخل بحث تركز على الاعتبارات الايديولوجية
مدخل
…
المبحث الثاني: مداخل بحث تركز على الاعتبارات الأيديولوجية
قبل أن يتبنى الباحث المدخل الأيديولوجي لا بد وأن يكون على دراية تامة، وبالتالي أن يحدد موقفه من الصراع المستعر بين اتجاهين ينادي أولهما "ممثلا أساسا في الفلسفتين الوضعية، والوضعية المنطقية" باستقلال العلم عن القيم وعدم الاعتراف بما يعجز المنهج العلمي عن إثبات صحته أو وجوده، بينما ينادي الثاني بدرجات متفاوتة بصعوبة الفصل بين الاثنين. ويندرج تحت هذا الاتجاه الماركسيون وبعض الليبراليين الذين اكتشفوا عقم الاتجاه الأول.
لقد تعرضت الفلسفة السياسية لأشكال كثيرة من الهجوم والنقد، وخاصة في أوائل القرن الحالي على أيدي المطالبين بالتحرر من سطوة القيم في الدراسات العلمية من أمثال ماكس فيير الذي وجدت كتاباته صدى كبيرا لدى عدد من علماء السياسة كأرنولد بريشت2 الذي يعد من أبرز من عبر عن اتجاه
1 A. Brecht، Political Theory، op. cit.، pp. 3-162; cf. M. Duverger، MethodesDe La Science Politique، op. cit.، P. 453.
فيير القائم على ضرورة استقلال العلم عن القيم، أي: التمييز بين عمليات التفسير والتقييم في العلوم الاجتماعية، وما يترتب عليه من الدعوة للحياد إزاء القيم.
كان من أهم أوجه النقد أن الفلسفة السياسية ما هي إلا سلسلة من التفسيرات للأيديولوجيات، وأنها تحمل تبريرات لأفكار مسبقة تمثل في الغالب طبقة معينة، أو أية مصالح أخرى. أي: إن الفلسفة السياسية لا تقوم على الأسس العلمية للمشاهدة والوصف والقياس والتحليل، وإنما هي معيارية تشتمل في رأيهم على قيم ومعايير مستهلكة.
إلا أنه ليس هناك اتفاق على هذا الموقف حتى بين المفكرين الليبراليين أنفسهم. فكارل يواكيم فريدريش مثلا -رغم تسليمه بأخطاء بعض الفروض التي وردت في كتب أفلاطون الثلاثة: الجمهورية، والسياسة، والقوانين- يتساءل متعجبا: هل كان أفلاطون مخطئا في إصراره على أن القانون والحق هما المشكلتان اللتان تواجهان كل مجتمع سياسي؟ يطرح ذلك موضوع العدالة وبالتالي يفتح الباب على مصراعيه للتساؤل: ما هي الفضيلة؟ وما هو المعيار؟
ثم يرفض فريدريش ما ذهب إليه هارولد لا سويل -متأثرا في ذلك بديوي ونور ثروب- من أن دراسة "المشاكل" نفسها كمدخل هي السمة المميزة لعلم السياسة، بمعنى استبعاد أية قيم معيارية من الدراسة. ويتساءل فريدريش ثانية: هل تنكر أي عالم مدقق في أي وقت لأولوية دراسة "المشاكل"؟ 1.
1 C.J. Friedrich، Man and His Government، op. cit.، pp. 4، 5; Cf.،" Anyone who attempts the most simple descripion of Society is in fact involved in Constant ordering and classification.The 'principles of such selectivity are those of some political doctrine، [whether half-backed or wellbacked." Bernard Crick، In [Defence Of Politics، Penguin، Middlesex England 1973 "first publ. 1962" ، pp. 198، 199، igoff.
يستند تحد آخر لاتجاه الحياد ذلك -عبر عنه تشارلس تيلور- إلى التفرقة بين القواعد التي يقوم عليها الخير، وتلك التي تقوم عليها الميول. يحتاج الخير إلى تفسير، وليست كذلك الميول أخذا في الاعتبار بأن التفسير والبحث عن الأسباب إنما يستمدان من حقل التجربة1.
ويمكن القول: إنه بعد تجارب طويلة في حقول دراساتهم الأكاديمية، فإن أعدادا متزايدة من هؤلاء المفكرين يبتعدون أكثر فأكثر عن الاتجاه المتطرف الذي ساد الأحقاب الأولى من القرن الحالي، وبدءوا يسلمون باستحالة الفصل التحكمي بين حقلي التجريب والقيم.
1 من الأشكال الجديدة لانتعاش المذهب الطبيعي ما ذهبت إليه الفلسفة التحليلية المعاصرة من الربط بين القيم والحقائق. انظر مقالة تيلور وكذلك طوفان المقالات حول ذلك الجدل في:
إسكنر
تحوي هذه الدراسة الأخيرة هجوما مباشرا على الأسس الفلسفية لما يسعى بحياد العلوم الاجتماعية. انظر حاشية 1 في المقدمة أعلاه.
إسكنر
يحفل الأدب السياسي بالكثير من المرادفات في هذا الشأن. فقد جرت العادة على التمييز بين النظريات التي تقوم على التجريب وتلك التي تعتمد على القيم، أو بين السلوكية -وهو التعبير الذي يستخدمه البعض في الولايات المتحدة للأسلوب التجريبي- وبين الفلسفة السياسية. ويحلو للبعض أحيانا أن يميزوا بين ما هو كائن، وبين ما يجب أن يكون وهو شكل آخر لنفس الخلاف.
يسلم بعض المفكرين بأن طوفان الكتابات حول هذا الخلاف المستعر بين المثقفين إنما يعكس تمييزا مصطنعا بين وسائل المعرفة المختلفة؛ لأن القرارات السياسية هي بطبيعتها تتأثر بقيم صانعيها.
لهذا، فإنه لا داعي لافتراض وجود انقسام أو تعارض بين النظريات التجريبية، وتلك المستمدة من القيم حيث إنها متكاملة وتعتمد كل منها على الأخرى. إن التفرقة بين مجالات التفسير والتقييم ليست بالوضع الذي يتصوره البعض، كما وأن الفصل بينهما ليس في صالح أي منهما1.
توضح كتابات أخرى نفس التمرد على المغالاة في اتجاه النسبية حول هذا الموضوع، وترى ضرورة الاستفادة من الأسلوبين والدمج التام بينهما في عملية تطوير نظريات تجريبية تسترشد بالقيم. يضيفون إلى ذلك مزية أخرى، وهي أنه بتطوير تلك النماذج التجريبية ذات القيم يساعد كل أسلوب منهما على كشف قصور الأسلوب الآخر، ومن ثم يلفت الانتباه إلى ضرورة تعديله وتحسينه2.
1 Fred M. Wirt، Morey، Brakeman، Introductory Problems in Political Research، Englewood Cliffs، N. J. 1970، pp. 2، 3; Stephen L. Wasby، [Political Science، The Discipline and its Dimensions، An Introduction، New York 1970، p. 303.
2 Robert T. Golembiewski، et. al.، A Methodological Primer for Political Scientists، Chicago 1969. pp. pp. 450-455.
ثم يصل النقد أقصاه بتعرية الادعاء بإمكان وجود موضوعية كاملة في البحث العلمي، وعدم تأثر الباحث بأية اعتبارات بيئية أو قيم ذاتية. ففي الواقع العملي يقوم علماء السياسة باختيار وتنظيم المادة التي يستعملونها في بحوثهم أو محاضراتهم. وهم يحتاجون من أجل ذلك إلى إجراء عمليات انتقاء حقيقة ما دون حقيقة أخرى، أو شكل تنظيمي معين دون شكل آخر، أو خطة بحث دون أخرى وهكذا. قد تكون عملية الانتقاء عشوائية، ولكنها في الأغلب الأعم ليست كذلك، وإنما تحكمها معايير يأخذ بها كل باحث1.
وقد عبر عالم آخر عن ذلك بقوله: إنه رغم المطالبة ببحوث محايدة، أو خالية من القيم فإن عدم وجود معيار متفق عليه لاختيار الموضوعات الهامة للدراسة يدفع العلماء إلى اختيار موضوعات أخرى تتفق مع مصالحهم الخاصة، واختيار المتغيرات التي يدرسونها من تلك الموضوعات.
"وإذا كنا عاجزين عن تنحية قيمنا جانبا بشكل كامل في اختيار ما ندرس، فإن ذلك يبرز نقدا هاما هو أن التفرقة بين الحقائق والقيم تتناقض مع تجربتنا الذاتية"2.
إذا انتقلنا لكلمة أيديولوجية نفسها، فقد نستطيع فهم معانيها إذا تذكرنا أن للناس معتقدات حول ما يمكن اعتباره حقائق وقيما. فهم يعتقدون أن بعض التعبيرات، أو الفروض تمثل أوصافا صادقة للواقع الحي، كما يعتقدون أن هناك تعبيرات وفروضا أخرى تشير إلى ما هو حسن وحقيقي وعادل. أي: إنهم يحتفظون بمعتقدات حول ما هو قائم فعلا، وحول ما يجب أن يكون.
فمن ناحية، لا يمكن تسمية المعتقدات التي تقتصر على الواقع بالأيديولوجية، وهو ما يعني أن تلك الأخيرة لا يمكن أن تكون وصفية خالصة. من ناحية
1 انظر المقدمة أعلاه.
2 STEPLMEN L. WASBY، POLITICAL SCIENCE، OP. CIT.، P. 28.
أخرى يجب أن يشتمل البناء الفكري على معتقدات تدور حول قيم حتى يمكن القول بوجود أيديولوجية، وهو ما يعني في هذه الحالة الثانية أن الأيديولوجيات معيارية دائما -على الأقل في جانب منها- أي: إنها تعكس أو توحي بمفاهيم حول "ما يجب أن يكون"1.
يطلق اصطلاح أيديولوجية أحيانا على أية مجموعة من المعتقدات تدور حول "ما يجب أن يكون" بشرط أن تكون تلك المعتقدات متماسكة ومترابطة منطقيا، وبالتالي فإنه يمكن إطلاق هذا الاصطلاح على أي بناء فكري ذي صفة معيارية، هذا ويرتبط الإيمان بمجموعة من القيم عادة بالاستعداد لتقبل بعض فروض وصفية ذات طابع نسبي.
فهؤلاء الذين يؤمنون بالأيديولوجية الليبرالية مثلا يؤكدون -من منطلق أنها قيمة من القيم- أن شخصية الإنسان جديرة بالتبجيل، وأن كرامته يجب أن تصان وتحترم. في نفس الوقت يعتقدون أن البشر قادرون من الناحية الواقعية على حكم أنفسهم ديمقراطيا، وأن الحكومة الديمقراطية غالبا ما تحترم الفرد وتحافظ على كرامته. بمعنى آخر، فإن قبول الناس للخضوع لنظام ديمقراطي مشروط بتحقيق قيمة من القيم.
أما الماركسيون فينتقدون القيم الرأسمالية للحكم، على أساس أن العبرة بالأفعال وليس بالأقوال، إذ ما فائدة النصوص الدستورية أو الشعارات التي تتحدث كثيرا عن احترم الفرد، وصون كرامته إذا لم تكفل حرية التعبير عن الرأي، وفقا للمفهوم الليبرالي؟ إن الاغتيالات التي يتعرض لها زعماء حركة الحقوق المدنية، والمعاملة التي لقيها المعارضون لحرب فيتنام لا يمكن بحال أن تنهض كأدلة على احترام النظم السياسية الليبرالية للفرد أو صيانة كرامته. تلك هي بعض التفسيرات التي يسوقها الماركسيون لأسباب الفشل في تحقيق القيم
1 Dyke، pp. 172، 173.
الليبرالية في مجال الواقع، ويطرحون من جانبهم قيما أخرى، شارحين وسائل تحقيقها.
ثم أدخل كارل مانهايم تعديلات على المفهوم السابق للأيديولوجية، وأضاف إليه أن المعتقدات ترتبط بوضع المشاهد الذي يعيش في بيئة ما. فخبرة الناس التي يكتسبونها من المعيشة في المجتمع هي التي تصوغ مفهومهم لطبيعة مصالحهم، وبالتالي فإنهم ينظرون إلى المشاكل الاجتماعية على ضوء مصالحهم. فمعتقداتهم إذًا -أي: أيديولوجياتهم- هي انعكاسات لمصالحهم، ولا يصح تناولها كشيء واقعي1.
إن الجدير بالملاحظة أن النتيجة التي انتهى إليها مانهايم من أن كل المعتقدات تتأثر بمصالح معتنقيها وبوضعهم الاجتماعي تتفق مع رأي ماركس القائل بأن الأفكار هي من خلق ظروف الحياة المادية المتغيرة. ويقر مانهايم أن المعيار الاسمي للخطأ والصواب يكمن في اختبار الشيء ذاته وإن كان يستدرك بأن ذلك الاختبار ليس عملا منعزلا، بل يتم في وضع يتأثر بالقيم والدوافع الإرادية2.
وبغض النظر عن المفهوم الذي سيؤخذ به لاصطلاح أيديولوجية، فإن ما يمكن أن يسمى بمعتقدات أيديولوجية تزود معتنقيها بدوافع ومبررات للعمل مع ما يصحبها من قواعد وتعاليم. وعندما تشتمل تلك المعتقدات على أيديولوجية فإنها -أي: المعتقدات- لا تكون عشوائية فجة، وإنما ترتبط ببعضها في بناء فكري متماسك.
1 Karl Mannheim، ldeology and Utopia "An lntroduction to the Sociology of knowledge"، London 1960 "first publ. 1936"، pp. 49 ff.
2 lbid.، p. 4.