الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: المفهوم الماركسي لمناهج البحث
الفصل العاشر: الميتافيزيقية والجدلية
المبحث الأول: أسباب الخلاف المنهجي بين الليبرالية والماركسية
…
الباب الثالث: المفهوم الماركسي لمناهج البحث
الفصل العاشر: الميتافيزيقية والجدلية
لا تعترض الماركسية على استخدام مدخل أو آخر، أو حتى عدة مداخل لبحث شيء أو ظاهرة ما بالشكل الذي عرضناه أعلاه. كما أنها لا تعترض أيضا على تبني أحد المناهج العلمية المذكورة أعلاه كالتحليل أو المنهج الكمي، الكيفي، الاستقرائي، الاستنباطي، المقارن.
المبحث الأول: أسباب الخلاف المنهجي بين الليبرالية والماركسية
إن الخلاف بين الفلسفتين الماركسية والليبرالية ليس خلافا سطحيا حول انتقاء مدخل أو أكثر، أو اختيار منهج دون آخر بقدر ما هو خلاف جوهري حول موقف كل منهما من العالم والوجود وشكل الطبيعة ومغزى قوى وعلاقات الإنتاج في المجتمع.
سنوجز فيما يلي أهم نقاط هذا الخلاف، آخذين في الاعتبار أن الماركسية لا تعترف بوجود منهج ما إذا اقتصر على مجرد عدة طرق آلية مختلفة للدراسة، يختارها الباحث بالصدفة دون أن تكون للمنهج علاقة بالظواهر المختبرة.
ترى الماركسية على العكس من ذلك أن المنهج يتحدد إلى درجة كبيرة بطبيعة تلك الظواهر، وقوانينها الجوهرية.
سبقت الإشارة إلى أن المفكرين، والفلاسفة اهتموا بدراسات المنهج منذ ظهرت الحياة المدنية المنظمة على الأرض بهدف اكتشاف أفضل الطرق العلمية للتوصل إلى حقيقة الكون والوجود والإنسان.
كان طبيعيا أن تتأثر تلك الدراسات بظروف الحياة، ومستوى التقدم العلمي والفني والإنتاجي في كل عصر وهو ما ظهر على شكل ارتقاء مستمر في أساليب التفكير، والتأصيل المنهجي كلما حققت البشرية خطوات إلى الأمام.
لهذا ينطلق الماركسيون من فرض يقول بأن معرفة الواقع -أي: الطبيعة والمجتمع- هي ضرورة لإمكان تغييره. ولما كان الإنسان يعرف الواقع من خلال مختلف العلوم، فإن الحصول على معرفة يعتد بها لا يكون إلا عن طريق مفهوم علمي للعالم الذي هو الفلسفة الماركسية أي: المادية الجدلية.
وكما ظهرت فلسفات ومناهج بحث تعكس وتتلاءم مع أسلوب الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، ظهرت أيضا فلسفات وتعديلات أساسية على مناهج البحث التقليدية تحاول تفسير الاتجاه المقابل نحو الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج الرئيسية، والاشتراكية بتطبيقاتها المتعددة.
لكن لم يكن المنهج المادي الجدلي أول المناهج، أو الكتابات التي دافعت عن ذلك الاتجاه المقابل. فقد سبقته كتابات كثيرة تعتبر ذات اتجاه مادي -ونواة مثالية في أغلب الأحوال1- وإن كان المنهج المادي الجدلي يعتبر أكثرها تطورا وتعبيرا عن الأساليب الجديدة للإنتاج والملكية الجماعية والفكر المصاحب لها.
ليس المقصود من كلمة مادية معناها الدارج المبتذل، وهو الرغبة العارمة في التمتع باللذات وحصر الفكر في الحاجات المادية للحياة فحسب. وقد رفض فردريك إنجلز زميل ماركس ذلك المفهوم، وعزاه إلى التحيز القديم ضد المادية أيام محاكم التفتيش، إذ يقول:
1 Friedrich Engels، "Ludwig Feuerbach and the End of Classical German Philosophy" in: Marx Engels، Selected Works، Vol. II، Moscow 1955،p. 372; G. Plekhanov، Selected Philosophical Works، op. cit.، pp. 537ff،
قارن: محمد محمود ربيع، منهج ابن خلدون في علم العمران، مرجع سابق، ص215، 233-236.
"فالمتعصب الأعمى هو الذي يفهم المادية بمعنى الشراهة والسكر والملذات الحسية والحياة المترفة والشهوة والبخل والطمع والجري وراء الربح والمضاربة في البورصة، أي باختصار: كل الرذائل الدنيئة التي ينغمس فيها "البرجوازي" هو نفسه سرا"1.
أما الفكر الماركسي فيتناول كلمة مادية من حيث هي مفهوم فلسفي يتضمن طريقة معينة في فهم ظواهر الطبيعة -كما هي في الواقع- وتفسيرها على أساس مبادئ محددة، وبالتالي فهم وتفسير مظاهر الحياة الاجتماعية.
فالمادية هي النظر إلى العالم ومواجهته ووضع مفهوم له يعمل كأساس لمختلف العلوم، أي: إن ذلك المفهوم هو التفسير العام والأساس المتين لكافة أنواع الإنتاج العلمي. على عكس ذلك المثالية التي تعتبرها الماركسية فلسفة للهروب من الواقع، ومن ثم يصبح معنى المادية الجدلية النظر إلى العالم في تطوره الواقعي؛ لأن الجدل يدرس القوانين التي تفسر تطور المجتمع.
إن الشرط الجوهري للتطوير الناجح للمعرفة يتركز في التطبيق الواعي للمنهج العلمي. وتعتبر القوانين الموضوعية للواقع أساس كل مناهج المعرفة، ولعل هذا هو سبب العلاقة القوية بين المنهج والنظرية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن موضوعية الواقع تعني أنه غير ذاتي، أي: إنه موجود في الخارج، ومستقل في وجوده عن تفكير الإنسان ووجوده.
إن المادية الماركسية ليست هي والعلوم شيئا واحدا؛ لأنها لا تتناول وجها واحدا محددا من وجوه العالم الواقعي كما يفعل كل علم من تلك العلوم، وإنما هي مفهوم للعالم في مجموعه، أي: المفهوم الذي تعترف به العلوم ضمنا. معنى ذلك: أنه كل علم يدرس وجها من وجوه "الطبيعة بما هي كذلك"، أما
1 جورج بوليتزير، المادية والمثالية في الفلسفة، مرجع سابق، ص15. كذلك انظر أعلاه، الفصل الرابع، حاشية 20.