الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وليس هناك من شك في أن التحديات الداخلية، والخارجية التي تعرض لها المجتمع الإسلامي كان لها هي الأخرى تأثير كبير في نشأة التفكير الفلسفي الإسلامي وصياغة مفاهيمه. فمثلا، لا يمكن استبعاد الآثار البعيدة المدى الناجمة عن انتقال العرب من حياة البداوة إلى حياة الحضارة على حد قول العلامة عبد الرحمن بن خلدون. كذلك لا بد أن نأخذ بنظر الاعتبار الأحداث السياسية والاجتماعية السابقة على الفتنة الكبرى واللاحقة لها، وخاصة ظهور الفرق الإسلامية. أما التحديات الخارجية فقد ترتبت -في جانب منها- على محاولة تلك الفرق التصدي لآراء وحجج علماء العقائد الأخرى السائدة آنئذ كاليهودية، والمسيحية، والفلسفة اليونانية، وبقايا المذاهب الغنوصية القديمة في الشرق1.
1 المرجع السابق، ص59-61.
المبحث الثاني: منهج البحث الإسلامي
…
وليس هناك من شك في أن التحديات الداخلية، والخارجية التي تعرض لها المجتمع الإسلامي كان لها هي الأخرى تأثير كبير في نشأة التفكير الفلسفي الإسلامي وصياغة مفاهيمه. فمثلا، لا يمكن استبعاد الآثار البعيدة المدى الناجمة عن انتقال العرب من حياة البداوة إلى حياة الحضارة على حد قول العلامة عبد الرحمن بن خلدون. كذلك لا بد أن نأخذ بنظر الاعتبار الأحداث السياسية والاجتماعية السابقة على الفتنة الكبرى واللاحقة لها، وخاصة ظهور الفرق الإسلامية. أما التحديات الخارجية فقد ترتبت -في جانب منها- على محاولة تلك الفرق التصدي لآراء وحجج علماء العقائد الأخرى السائدة آنئذ كاليهودية، والمسيحية، والفلسفة اليونانية، وبقايا المذاهب الغنوصية القديمة في الشرق1.
1 المرجع السابق، ص59-61.
كمبدعين في مجال ابتكار المنهج العلمي الذي استفادت منه أوروبا ابتداء من عصر النهضة.
لتوضيح ذلك نقول: إن المنهج القديم الذي ارتبط باسم أرسطو، كان قائما على الاستنباط المستمد من القياس المنطقي، والحكم الذهني حيث كان الباحث يستخرج النتائج من مقدماتها القائمة. فالعلم لدى اليونان يبدأ بالكل، أما الجزئي فليس علما.
وقد رفض أغلبية مفكري الإسلام ذلك المنهج، وتحولوا إلى منهج جديد يقوم على الاستقراء أي: الاعتماد على الممارسة العملية والتجربة. وخلافا للفكر اليوناني سعى هؤلاء للتوصل إلى الحقيقة بالانتقال من الجزئي للوصول إلى الكلي، مع كشف الروابط بين الأشياء.
كانت هناك دوافع قوية متعددة لدى المفكرين المسلمين لنبذ منطق أرسطو ومنهجه، وهو ما اتضح في كتابات علماء أصول الفقه وعلماء أصول الدين "المتكلمين" والفقهاء. فالإمام الشافعي مثلا وهو واضع أسس علم أصول الفقه انتقد منطق أرسطو؛ لأنه يقوم على خصائص اللغة اليونانية التي تختلف عن اللغة العربية، مما أدى إلى حدوث تناقضات عند تطبيقه على البحوث الإسلامية. وقد أيد علماء اللغة والفقهاء فكرة ارتباط المنطق الأرسططاليسي باللغة اليونانية وخصائصها، ومخالفته للمنطق الإسلامي.
نبذ علماء أصول الدين "المتكلمون" ذلك المنطق أيضا انطلاقا من رفضهم للميتافيزيقا الأرسططاليسية التي تتعارض مع إلهيات المسلمين. وحيث إن ذلك المنطق وثيق الصلة بتلك الميتافيزيقا وترتبط أصوله بأصولها كان لا بد لهم من نبذه. وأخيرا رفضه الفقهاء بدورهم على لسان ابن تيمية أشهر ممثليهم، الذي انتقده لعدة أسباب أهمها: قصوره عن مسايرة اتجاه الإسلام لتلبية الحاجات الإنسانية المتغيرة بينما قواعده كلية وثابتة، كذلك بسبب عدم اشتغال الصحابة والأئمة بهذا المنطق مع توصلهم إلى نواحي العلم، وبالتالي الخوف من الخروج على ذلك التقليد.
ويدلل أحد مفكري الإسلام المعاصرين1 على أن هذه الأسباب على وجاهتها ليست الوحيدة لنبذ علماء المسلمين للمنطق الأرسطي؛ لأنها -على أي حال- لا تعدو كونها الجوانب السلبية التي اكتشفوها فيه فاستندوا إليها في هدمه. أما العلة الحقيقية لتركهم إياه فتتجلى في رأيه في الجانب الإنشائي لنقدهم الذي تمثل في المنهج التجريبي أو الاستقرائي السابق الإشارة إليه أي: الذي يقوم على التجربة وتنظمه قوانين الاستقراء. مثل هذا المنهج التجريبي هو المعبر عن روح الإسلام ليس كمذهب وجودي أو فلسفي، وإنما كوضع من أوضاع الحياة العملية التي تنكر النظر، والفكر المجردين.
من هذا يتضح خطأ من ظنوا أن مفكري المسلمين عامة اعتمدوا على منطق أرسطو. فمن المعلوم أن هذا الأخير كان يقوم على المنهج القياسي المعبر عن روح الحضارة اليونانية التي تستند إلى النظر الفلسفي والفكري، والتي لم تعترف بالتجربة، وهي بذلك تختلف عن روح الحضارة الإسلامية.
ويمكن القول: إن توصل مفكري الإسلام إلى منهج الاستقراء جاء نتيجة معاناة وتجربة، اكتشفوا على أثرهما -وبشكل علمي- عقم المنهج اليوناني القائم على القياس الصوري "أي: الشكلي". لقد كان هذا القياس -كما ذكرنا- قرين مرحلة مبكرة من التطور البشري، وبالتالي كان محدود الفائدة فيما أعقب ذلك من عصور؛ إذ كان يبدأ بمقدمات عامة، وينتهي إلى نتائج جزئية. كان هدفه إذًا إقامة البرهان على حقيقة معلومة وليس الكشف عن حقيقة جديدة.
وتجدر الإشارة إلى أن كلا من الطرفين استخدم كلمة قياس بأسلوب مغاير؛ فالقياس لدى أرسطو يشير إلى حركة فكرية ينتقل فيها العقل من حكم كلي إلى أحكام جزئية، أو من حكم عام إلى حكم خاص بواسطة الحد الثالث، على
1 علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام "ونقد المسلمين للمنطق الأرسططاليسي"، القاهرة 1947، ص240، 241، 243.
العكس من ذلك، ينتقل قياس المسلمين من حالة جزئية إلى حالة جزئية أخرى؛ لوجود جامع بينهما.
هناك احتمال حدوث لبس آخر بين القياس الأصولي "أي: القياس في رأي علماء أصول الفقه" وبين التمثيل الأرسططاليسي "وهو الطريق الاستدلالي الثالث في منطق أرسطو". أما مبعث اللبس فقد يحدث من أنهما يبدوان وكأنهما من طبيعة واحدة حيث ينتقل الفكر من جزئي إلى جزئي. وفي الواقع، هناك اختلاف كبير بين هذين الأسلوبين في القياس يتبين من النقطتين التاليتين:
- اعتبر المتكلمون وكثير من الأصوليين -قبل عصر الغزالي- القياس الأصولي، أو قياس الغائب على الشاهد موصلا إلى اليقين1، بينما التمثيل الأرسطي يوصل إلى الظن فقط.
- أرجع الأصوليون القياس إلى نوع من الاستقراء العلمي القائم على فكرتين، أو قانونين هما:
أ- قانون العلية أي: إن لكل معلول علة، بمعنى "أن الحكم ثبت في الأصل لعلة كذا"2. فحكم التحريم في الخمر معلول بالإسكار.
ب- قانون الاطراد في وقوع الأحداث أي: إن العلة الواردة إذا وجدت تحت ظروف مشابهة؛ أنتجت معلولا متشابها "أي القطع بأن العلة "علة الأصل" موجودة في الفرع" فإذا وجدت أنتجت نفس المعلول. فإذا كان الإسكار في الخمر يؤدي إلى التحريم، ثم وجدنا الإسكار
1 السيوطي، المواقف، الجزء الثاني، ص22. أشار إليه الدكتور علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص84، 85.
2 الزركشي، البحر المحيط، الجزء الخامس، ص125. أشار إليه الدكتور علي سامي النشار، نفس المرجع السابق، ص85.
في أي شراب آخر، جزمنا بوجود التحريم فيه1. هناك إذًا نظام في الأشياء، واطراد في وقوع الأحداث.
أقام المسلمون القياس الأصولي على القانونين اللذين أقام عليهما جون ستيوارت ميل استقراءه العلي العلمي في القرن التاسع عشر، فإذا كان الاستقراء يستطيع أن يصل إلى العلاقات الثابتة الكلية؛ فذلك لأنه يستند إلى أن حوادث الطبيعة متناسقة أو مطردة. والاستقراء عند ميل هو أن تستنتج من عدة حالات معينة لظاهرة من الظواهر أن هذه الظاهرة تحدث في كل حالة تشبه هذه الحالة، أو الحالات المعينة في ناحية من النواحي. فهو يقوم على الجزم بوجود النظام في العالم، ويعبر عن هذا بأن "هناك أشياء في الطبيعة إذا ما حدثت مرة، فلا بد من أن تحدث ثانية إذا ما تحققت لها درجة كافية من المشابهة في الظواهر"2.
يتبين من هذا أن الرأي المتقدم الذي عبر عنه المسلمون -قبل ميل- من إقامة الاستقراء على قانوني التعليل والاطراد في وقوع الأحداث، ثم استناد قياسهم الأصولي على هذين القانونين يجعله مناقضا للتمثيل الأرسطي، ومن ثَمَّ مناقضا للمنطق الأرسطي نفسه.
تزخر كتابات مفكري الإسلام في العلوم الطبيعية والاجتماعية بأدلة عديدة على تقدم منهج البحث الإسلامي. ففي مجال العلوم الطبيعية والرياضية شرح الحسن بن الهيثم مفهومه للاستقراء في رسالته عن الضوء بقوله: "ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواصّ الجزئيات"3.
1 نفس المرجع السابق.
2 علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص86.
3 جلال محمد موسى، منهج البحث العلمي عند العرب "في مجال العلوم الطبيعية والكونية"، بيروت 1972، ص272، 275.
واهتم جابر بن حيان في بحوثه الكيميائية العديدة "في رسائله ومصنفاته" بمبدأ قياس الغائب على الشاهد. فهو يحاول استخراج علة الشيء ثم البحث عنه فيما يشبهه من الأشياء المجهولة، حتى إذا استيقن من اشتراك المعلوم والمجهول في علة واحدة، قاس الثاني على الأول في حكمه المنبثق من تأثير تلك العلة، مع بناء قياسه على قانوني العلية والتناسق والنظام في الكون. وقد أولى ابن حيان أهمية فائقة للتجربة العلمية، وفي هذا يقول:"إن واجب المشتغل في الطبيعيات والكيمياء هو العمل وإجراء التجارب، وإن المعرفة الحقيقية لا تحصل إلا بها"1.
وفي مجال الطب، أبدع أبو بكر الرازي، وابن سينا "في مؤلفيهما: الحاوي في الطب، والقانون في الطب" في وصف، وتشخيص الأمراض مع بيان الروابط بين العلل المتشابهة عن طريق التفسير الناتج من المشاهدة الفعلية التي يتبعها وضع فرض يتحقق منه الطبيب عن طريق التجربة. مثال ذلك: القرد الذي سقاه الرازي زئبقا ليتحقق من صحة فروضه عن خواص الزئبق العلاجية. ولا يزال العلماء يجرون تجاربهم حتى اليوم على القردة قبل تعميم استعمال الدواء للإنسان.
وفي مجال الصيدلة، توصل ابن سينا "في القانون" إلى معرفة قوى الأدوية بطريقتين هما: التجربة والقياس مع تقديم التجربة لاختبار تلك الأدوية ومعرفة قوتها من حيث الطعم والرائحة واللون وسرعة الاستجابة، وقد وضع ابن سينا لذلك شروطا سبعة تتضح أهميتها من أن جون ستيوارت ميل لجأ إلى مثيلاتها "في القرن التاسع عشر" للتحقق من صحة الفروض، وهي القواعد الثلاث التي وضعها ميل للتحقق من الفروض، وهي قواعد: الاتفاق والاختلاف والتغير النسبي2.
1 المرجع السابق، ص182، 183، 274، 275.
2 المرجع السابق، ص186، 287، 276.
لم يكن كل هذا يعني الاقتصار على التجربة على حساب العقل، وإنما اهتم منهج البحث الإسلامي بأية أداة يمكن أن توصل إلى المعرفة الحقة مع تحري العدل والبعد عن الهوى. ونظرا للمكانة الخاصة التي يحتلها العقل في المفهوم الإسلامي، أحاطه العلماء بضمانات حتى لا يأخذ كل شيء على عواهنه، وقد برز في هذا المجال الفيلسوف العربي الغزالي الذي سبق الفيلسوف الفرنسي ديكارت في اعتماد الشك كوسيلة للتوصل إلى الحقيقة. يقول الغزالي:"فمن لم يشكّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال"1.
أما في مجال العلوم الاجتماعية، فتكفي الإشارة إلى إنجازات ابن حزم والغزالي وابن تيمية والبيروني وابن خلدون. وسندرس في المبحث الثالث منهج ابن خلدون كمثال على تأثر مفكري العلوم الاجتماعية المسلمين بمنهج البحث الإسلامي، وإن كان ابن خلدون قد أثرى ذلك المنهج وخاصة في اكتشافه للعلاقة الديناميكية بين الأسباب والنتائج عند ملاحظته للصراع بين القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ونظرا للمغزى الهام الذي تمثله كتاباته في المقدمة بالنسبة لمناهج البحث في السياسة -وهي موضوع دراستنا- خصصنا له ذلك المبحث المستقل.
وأخيرا يمكن القول بأن منهج البحث الإسلامي لم يهتم فقط بالتركيز على بعض الخطوات المنهجية الرئيسية مثل: جمع المعلومات الحسية لمشاهدتها تمهيدا لدراستها، واعتماد الشك كأسلوب يوصل إلى اليقين، والحكم القائم على الدليل والبرهان، وإنما تعدى ذلك إلى إرساء قواعد ما يمكن أن يسمى بآداب البحث العلمي التي تعد مكملة لنظرة الإسلام الشاملة لمتطلبات الإنسان المادية
1 أنور الجندي، مقدمات المناهج "العودة إلى منابع الفكر الإسلامي الأصيل"، القاهرة 1977، ص8.
والروحية والأخلاقية1.
وآداب البحث العلمي كما استنبطها مفكرو الإسلام هي:
- عدم إصدار أحكام جازمة قبل التروي.
- امتناع الباحث عن إصدار أحكام إلا في حدود اختصاصه.
- عدم المكابرة.
- قول الحق والدعوة إليه والدفاع عنه.
هذا، وقد حظي منهج البحث الإسلامي ببعض الأصوات الموضوعية القليلة في أوروبا، والتي اعترفت بفضله على تقدم الدراسات العلمية والمنهجية فيها. من ذلك قول بعض العلماء:"لم يكن روجر بيكون في الحقيقة إلا واحدًا من رسل العلم، والمنهج الإسلامي إلى أوروبا المسيحية. ولم يكف بيكون عن القول لمعاصريه بأن معرفة العرب وعلمهم هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة"
…
"إن ما ندعوه بالعلم ظهر في أوروبا كنتيجة لروح جديدة في البحث، ولطرق جديدة في الاستقصاء طريق التجربة والملاحظة والقياس، ولتطور الرياضيات في صورة لم يعرفها اليونان. وهذه الروح وتلك المناهج أدخلها العرب إلى العالم الأوروبي"2.
1 سيد أبو المجد، "الملكات العقلية في القرآن الكريم"، محاضرات الموسم الثقافي الثاني لجامعة الأزهر، نوفمبر 1959، ص10. استشهد به الدكتور فاضل زكي محمد، الفكر السياسي العربي الإسلامي، بغداد 1976، ص140.
2 Briffault، Making of Hunanity، pp. 190، 202،
أشار إليه الدكتور علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص244، 245.