الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التي يؤمن بها الفرد مفيدة غالبا في تفسير سلوكه أو التنبؤ به، فإن تلك المعرفة ليست دائما سهلة عند التطبيق1.
رغم كل تلك التحفظات، يجب عدم المغالاة في الصعوبات التي قد تعترض الباحث عند استعماله لهذا المدخل الذي أثبت فائدة كبيرة في تفسير الأسباب، والخلفيات وراء قيام نظم الحكم في الدول الرأسمالية والفاشية والاشتراكية، وكذلك شرح أسباب ونتائج الحركة القومية التي اجتاحت أوروبا ثم بقية أنحاء العالم بعد ذلك.
ولا شك أنه سيكون من دواعي الاستغراب أن يقوم باحث بوصف التطورات السياسية الهامة التي حدثت في العالم خلال الأحقاب القليلة الماضية دون أن يشير إلى واحدة، أو أكثر من تلك الأيديولوجيات. ليس هذا فقط، بل إن مهمة الباحث عند محاولته تفسير أو التنبؤ بسلوك شخص ما في بريطانيا أو الولايات المتحدة مثلا ستكون أسهل بكثير لو توفرت لديه معلومات صحيحة يعتمد عليها حول انتماءات ذلك الشخص، وما إذا كان رجعيا أو محافظا أو تقدميا. ولو أننا اتخذنا من اتساع المكان المخصص لدراسة مداخل البحث مقياسا لمدى فائدتها لتعين إفساح مكان أكبر لتلك الفروض التي تركز على الاعتبارات الأيديولوجية.
1 Dyke، pp. 165-178.
المبحث الثالث: المدخل السلوكي
انتشرت في السنين الأخيرة مصطلحات تتحدث عن العلوم السلوكية والسلوك السياسي، والمدخل السلوكي. وينسحب اصطلاح "العلوم السلوكية" على كل العلوم التي توجه اهتماما خاصا لسلوك الحيوانات، وخاصة الإنسان. بهذا المفهوم، فإن كل العلوم الاجتماعية بما فيها التاريخ وعلم النفس تعتبر علوما سلوكية. كذلك، فإن اصطلاح "السلوك السياسي" يعني كل أنواع
النشاط السياسي الإنساني، كما أن دراسة السلوك السياسي هي بعينها دراسة السياسة، وليست فقط فرعا أو مجالا واحدا منها.
يمكن تمييز المدخل السلوكي عن طريق معرفة طبيعة الهدف الذي يخدمه. فإذا أخذنا في الاعتبار أنه هدف علمي لكان للفظ هدف في هذا السياق عدة معانٍ منها: تطوير التعميمات أو الأحكام العامة حول السلوك السياسي، بمعنى وضع فروض للعلاقات السياسية، واكتشاف أوجه التماثل والاتساق أو اكتشاف القوانين، واقتراح النظريات. وكلما كان مستوى التعميم رفيعا، زادت قيمة العمل العلمي.
تعني عملية الهدف أيضا، وفي نفس الوقت الإصرار بلا كلل على تمحيص التعميمات، وأن تكون تلك بدورها قابلة للتمحيص للتأكد من صحتها. هذا مع تجنب الفروض المعيارية حيث إن الهدف هو الوصف بما في ذلك تفسير السلوك المعياري.
وتعني المطالبة بالتحقق من التعميمات اللجوء إلى التجريب والاعتماد على الملاحظة، وليس على الحقائق البديهية، والدقة في تعريف المفاهيم، والوضوح في صياغة الفروض وإطلاق اصطلاح فروض على التعميمات حتى تثبت صحتها.
بالإضافة إلى العمومية والقابلية للتمحيص، فإن مفهوم الهدف العلمي يفيد المنهج ضمنا، أي: إن الهدف هو تطوير مجموعة من التعميمات أو الأحكام العامة التي ثبتت صحتها، والتي يمكن أن تكون معا بناء متماسكا لتعطي وصفا شاملا، وتفسيرا لمجال السلوك قيد البحث1.
من ناحية أخرى، يمكن تمييز المدخل السلوكي بواسطة الأساليب المستعملة في البحث، بحيث تكون تلك قادرة على التوصل إلى نتائج يعتد بها
1 Dyke، pp. 158، 159.
وفي نفس الوقت تسمح بتكرار اللجوء إليها، أي: إنه إذا قام شخص آخر بالدراسة، فسيصل إلى نفس النتائج.
يرتبط المدخل السلوكي أيضا، علاوة على الهدف والأسلوب بنوع السؤال المطروح، أو نوع البحث المطلوب. وقد سبق القول: إنه في مجال الوصف تتحدد الأسئلة بتلك التي يمكن تقديم إجابات يعول عليها، اعتمادا على الأساليب المتاحة. فإذا حدث تناقض بين الرغبة في الوصول إلى مستوى عالٍ من التعميم، وبين الرغبة في تحقيق درجة عالية من الثقة، فإن تلك الأخيرة يجب أن تسود.
إن الدارس الذي يتبنى المدخل السلوكي لا يطرح أسئلة عامة نتيجة لتأثره بالمفاهيم الوضعية. فهو لا يسأل مثلا عن سبب تحلل وانهيار الإمبراطورية الرومانية، وما إذا كانت القوة العسكرية المتاحة للدول الاشتراكية أكبر من مثيلتها في الغرب، أو ما إذا كانت الليبرالية ستنتصر في إفريقيا. كما أنه لن يركز على الأيديولوجيات أو الدساتير أو القوانين أو الهيكل التنظيمي للمؤسسات.
بدلا من ذلك، فإنه يقتصر على طرح أسئلة تحتاج إلى دليل ومنطق محدودي النطاق نسبيا، ويركز على سلوك أفراد أو جماعات صغيرة نسبيا. إن الدراسات حول الدوافع النفسية وصفات وخصائص صانعي القرار، والعوامل التي تؤثر في صنعه سواء من جانب الناخبين أو المسئولين أو غيرهم تعتبر دراسات سلوكية، وكذلك الدراسات حول توزيع الآراء والمواقف المختلفة1. من هذا يتضح أن المدخل السلوكي ليس منفصلا بالضرورة عن بعض المداخل الأخرى، أي: إنه يمكن اللجوء في دراسة ما إلى كل من المدخل السلوكي، ومدخل صنع القرار مثلا.
هناك ملاحظة عامة على تصنيف المداخل الموضحة أعلاه، وهي أنها كلها تقريبا تقع داخل تقسيم معين من التقسيمات السابق بيانها، باستثناء بعض المحاولات الحديثة لإضافة نماذج أخرى من مداخل البحث، أو تنقيح المداخل
1 Cf. A. Brecht، Political Theory، op. cit.، pp. 36، 37.
المتبعة واستعمالها كمعايير في علم السياسة. والنماذج المقترحة هي: أسلوب الإقناع الفلسفي، أسلوب بناء نماذج جديدة، أسلوب المعادلات الرياضية. وتسعى تلك المحاولات إلى تحقيق هدفين هما: تدعيم الطابع العلمي لعلم السياسة، والقضاء على الخلافات والانقسام بين علمائها حول المنهج والأساليب المتبعة1.
وليس هناك من قيد على كل المداخل المذكورة، أو المقترحة سوى أن دارسي السياسة كثيرا ما يلجئون إلى التوفيق بينها مع مزج أنواع مختلفة من المعلومات مع بعضها البعض، وهو أسلوب قد يكون مرغوبا فيه في كثير من الحالات.
كذلك لا يمكن اعتبار أن أي مدخل منها هو الأحسن دائما، إذ يعود الأمر إلى الباحثين أنفسهم في حرية الاختيار بينها على أساس عدد من الاعتبارات، منها مثلا مهاراتهم وخبراتهم الذاتية التي تملي عليهم اختيار مدخل دون آخر، وطبيعة المشكلة التي يواجهونها، ونوعية القارئ أو المستمع الذي يتوجهون إليه بالدراسة. في نفس الوقت، يجب أن يكون الهدف هو تطوير النظريات السببية التي يمكن تطبيقها في الموضوعات المتعلقة بتفسير الأحداث والتنبؤ بها، وإمكانية السيطرة عليها.
1 R. T. Golembiewski، et. al.، A Methodological Primer for Political Scientists، op. cit.، pp. 11 ff.