الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْملك المظفر
ركن الدّين، [بيبرس] بن عبد الله المنصوري الجاشنكير.
تسلطن بعد خلع [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون فِي عصر يَوْم السبت ثَالِث عشْرين شَوَّال سنة ثَمَان وَسَبْعمائة. وَقيل: فِي ذِي الْقعدَة فِي بَيت سلار.
وَركب من بَيت سلار إِلَى القلعة بخلعة السلطنة. وَتمّ أمره فِي الْملك. قيل: إِن خلعه الَّتِي خلعها على الْأُمَرَاء وَغَيرهم، فِي يَوْم سلطنته، وصلت إِلَى ألفي ومائتي خلعة.
وَاسْتقر بسلار فِي نِيَابَة السلطنة على عَادَته - على كره من سلار -.
وسارت البريدية بسلطنته إِلَى سَائِر الممالك.
وَتمّ أمره فِي الْملك، وأطاعه كل وَاحِد، لَوْلَا أَنه أَخذ فِي التَّعَرُّض إِلَى الْملك النَّاصِر مُحَمَّد [بن قلاوون] ، وَصَارَ يطْلب مِنْهُ مَا كَانَ مَعَه بالكرك من الْأَمْوَال والمماليك؛ فَأرْسل إِلَيْهِ النَّاصِر جملَة مستكثرة، وتأدب مَعَه فِي الْمُكَاتبَة، وَكتب لَهُ [مَعَ ذَلِك] : الملكي المظفري. وَهُوَ مَعَ ذَلِك لَا يرجع عَنهُ؛ لأمر يُريدهُ الله تَعَالَى.
كل ذَلِك [وَالْملك النَّاصِر] يترقق لَهُ، ويعرفه أَنه لم يبْق لَهُ غَرضا فِي الْملك، وَأَنه قنع بالكرك، وَإِن لم يَدعه على حَاله وَإِلَّا توجه إِلَى بِلَاد التتار.
هَذَا مَعَ مَا تحقق [الْملك] المظفر بيبرس [من] صدق كَلَامه أَنه قَانِع بالكرك، وَلَكِن فرَاغ الرزق وَالْأَجَل لَهُ أَسبَاب.
فَلَمَّا زَاد [الْملك] المظفر بيبرس على النَّاصِر فِي طلب مَا عِنْده، وأمعن فِي ذَلِك؛ ألجأت الضَّرُورَة تحرّك [الْملك] النَّاصِر [مُحَمَّد] وَطَلَبه الْملك ثَانِيًا. وَكَاتب مماليك أَبِيه النواب بالبلاد الشامية، مَا خلا الأفرم؛ [نَائِب الشَّام] ؛ فَإِنَّهُ كَانَ من أعوان بيبرس؛ فكاتب قراسنقر نَائِب حلب، وأسندمر كرجى نَائِب طرابلس، وقبجق نَائِب حماة، وبكتمر الجوكندار نَائِب صفد وَغَيرهم، فَأَجَابُوهُ الْجَمِيع بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة.
ثمَّ وَقع أُمُور يضيق هَذَا الْمُخْتَصر عَن [إيرادها] ، وَمن أَرَادَ الْعلم بِجَمِيعِ ذَلِك؛ فَعَلَيهِ ((بالنجوم الزاهرة [فِي مُلُوك مصر والقاهرة)) إنتهى] .
قلت: وَلما أفحش [الْأَمر بَين الْملك المظفر بيبرس هَذَا وَبَين][الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد بن قلاوون - وَهُوَ بالكرك - صَار أَمر النَّاصِر يقوى
وَأمر بيبرس يضعف، حَتَّى أَن بيبرس مَعَ عظم شوكته من خجداشيته ومماليكه لم يَقع بَينه وَبَين النَّاصِر مصَاف، بل جبن عَن لِقَائِه، وَصَارَ كلما جهز أحدا من العساكر توجه أعيانه إِلَى النَّاصِر.
وَخرج النَّاصِر بِجَمِيعِ النواب من الشَّام وَقصد الديار المصرية، فَلم يثبت بيبرس وتسحب من قلعة الْجَبَل، وَكَانَت الْعَامَّة تكرههُ وتميل إِلَى النَّاصِر مُحَمَّد.
وَاتفقَ فِي أَوَائِل سلطنته شراقي الْبِلَاد؛ فَقَالَت الْعَامَّة:
(سلطاننا ركين ونايبنا دقين [صلى الله عليه وسلم] يجينا المَاء من أَيْن
…
)
(يجيبوا لنا الْأَعْرَج يجى المَاء ويدحرج
…
) .
فَبلغ بيبرس ذَلِك؛ فشوش على جمَاعَة مِنْهُم؛ فحقدوا عَلَيْهِ.
فَلَمَّا أدبر سعده، وَنزل من القلعة، عدت الْعَامَّة خَلفه وأبادوه حَتَّى أشرف على الْهَلَاك، لَوْلَا أشغلهم بنثر الذَّهَب عَنهُ.
وَسَار بيبرس نَحْو الصَّعِيد بعد أَن خلع نَفسه من الْملك.
ثمَّ كتب إِلَى النَّاصِر يَقُول: ((الَّذِي أعرفك [بِهِ] )) أنني قد رجعت لأقلدك بغيك؛ فَإِن حبستني عددت خلْوَة، وَإِن نفيتني عددت ذَلِك سياحة، وَإِن قتلتني كَانَ ذَلِك [لي] شَهَادَة.
فَلَمَّا وقف النَّاصِر على كِتَابه، أَمر لَهُ بصهيون؛ ليقيم بهَا. وَسَار بيبرس من ظَاهر الْقَاهِرَة، وَلم يحضر إِلَى النَّاصِر؛ فَعظم ذَلِك على النَّاصِر وَأرْسل بمسكه؛ فَأمْسك من قريب [مَدِينَة] غَزَّة.
وأحضر بَين يَدي النَّاصِر؛ فوبخه، وَعدد لَهُ ذنُوبه ثمَّ خنقه بِوتْر بَين يَدَيْهِ حَتَّى كَاد يهْلك، ثمَّ أطلقهُ وَزَاد فِي سبه، ثمَّ خنقه ثَانِيًا، إِلَى أَن مَاتَ فِي شَوَّال سنة تسع وَسَبْعمائة.
فَكَانَت دولة بيبرس على مصر دون السّنة.
وَكَانَ رحمه الله ملكا عَاقِلا ثَابتا، كثير السّكُون وَالْوَقار، جميل الصِّفَات، دبر مملكة النَّاصِر مُحَمَّد مَعَ سلار سنينا كَثِيرَة، وَحسنت سيرته.
وَهُوَ صَاحب الخانقاة دَاخل بَاب النَّصْر من الْقَاهِرَة.
وَكَانَ أَبيض أشقر، مستدير اللِّحْيَة، مليح الشيبة. وَهُوَ أول مُلُوك الجراكسة - إِن صَحَّ ذَلِك -. وَقيل: إِنَّه كَانَ تركي الْجِنْس.
قلت: والأقوى عِنْدِي أَنه كَانَ جركسيا؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَينه وَبَين آقوش الأفرم نَائِب دمشق صداقة عَظِيمَة. وَقيل: قرَابَة. والأفرم كَانَ جركسيا؛ فعلى هَذَا يكون بيبرس [الجاشنكير] جركسيا؛ لكَونه قرَابَة الأفرم. إنتهى.
وَمِمَّا قيل فِي [الْملك] المظفر [بيبرس الجاشنكير هَذَا] لما تسحب [عَنهُ أَصْحَابه] وزالت دولته:
(تثنى عطف مصر حِين وافى
…
قدوم النَّاصِر الْملك الْخَبِير)
(فَذَاك الجاشنكير بِلَا لِقَاء
…
وَأمسى وَهُوَ ذُو جأش نَكِير)
(إِذا لم تعضد الأقدار شخصا
…
فَأول مَا يراع من النظير)