الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْملك الْمَنْصُور
حاجى - وَهِي سلطنته الثَّانِيَة -.
وَقد تقدم ذكر سلطنته الأولى، وَنسبه، وعمره فِيمَا مضى فِي تِلْكَ التَّرْجَمَة. ولنذكر هُنَا عوده؛ فَنَقُول: لما كَانَ يَوْم الأثنين خَامِس جُمَادَى الْآخِرَة سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَسَبْعمائة وَقع اتِّفَاق الْأُمَرَاء على سلطنته ثَانِيًا، وَذَلِكَ بعد هروب الظَّاهِر برقوق واختفائه، وَبعد أَن ملك الأتابك يلبغا الناصري وتمربغا الأفضلي - الْمَدْعُو منطاش - وَمن كَانَ مَعَهُمَا من الْأُمَرَاء بالديار المصرية من غير قتال وَلَا حِصَار، وَبعد أَن سُئِلَ الناصري بالسلطنة غير مرّة؛ فَلم يقبل وخشي العواقب، وَأجْمع على سلطنة حاجى هَذَا؛ فسلطنه وَغير لقبه.
وَلَا نَعْرِف فِي الْمُلُوك التركية أحدا غير لقبه غَيره، فَكَانَ لقبه أَولا: الصَّالح؛ فَغير فِي سلطنته هَذِه بالمنصور.
وَلما تمّ أمره، صَار الأتابك يلبغا الناصري مُدبر ممالكه، وَجَمِيع أُمُور المملكة فِي يَده.
وَبعد سلطنته بِمدَّة يسيرَة أَخذ الظَّاهِر برقوق من بَيت [أبي] يزِيد بن مُرَاد، وَأخرج إِلَى الكرك، وَحبس بهَا.
وَصفا الْوَقْت للناصري، واستبد بِجَمِيعِ أُمُور المملكة، وَصَارَ منطاش من جملَة أمرائه؛ فَعظم ذَلِك على منطاش؛ فأضمر السوء للناصري، مَعَ قلَّة أَصْحَابه وَعدم شوكته، وساعده على ذَلِك تغير خواطر جمَاعَة من الْعَسْكَر على النصاري.
وَسبب تغير خواطر الْمَذْكُورين: وَهُوَ أَنه صَار الناصري كلما سَأَلَهُ أحد من أَصْحَابه فِي إقطاع حَوَاشِي برقوق أَو غَيرهم يمْتَنع من ذَلِك شَفَقَة على النَّاس؛ فَلم يحسن ذَلِك ببال جمَاعَة مِمَّن حضر إِلَى الديار المصرية صحبته؛ فحقدوا عَلَيْهِ.
وَاتفقَ ركُوب منطاش على الناصري بِجَمَاعَة قَليلَة [جدا] ، يستحى من ذكرهَا قلَّة؛ فَلم يكترث بهم الناصري، وَأرْسل إِلَى قِتَاله جمَاعَة من الْأُمَرَاء؛ فانتصر عَلَيْهِم منطاش. وتكرر ذَلِك غير مرّة، إِلَى أَن نزل الناصري بِنَفسِهِ لقتاله، وانكسر من منطاش، وَأمْسك، وَحبس بثغر الأسكندرية.
وطلع منطاش إِلَى بَاب السلسلة من قلعة الْجَبَل، وَسكن مَكَان الناصري، واستبد بِجَمِيعِ أُمُور المملكة، شامها ومصرها، من غير مُنَازع.
ثمَّ لم يقنع منطاش بذلك، وَأَرَادَ قتل برقوق بالكرك؛ فَأرْسل الشهَاب البريدي بقتْله؛ فَوَقع أُمُور ذَكرنَاهَا مستوفاة فِي مصنفاتنا الْمُقدم ذكرهَا.
وَآل الْأَمر إِلَى خُرُوج برقوق من حبس الكرك؛ واجتماع النَّاس عَلَيْهِ، وغالبهم من كَانَ خرج أَولا - وهم خجداشيته اليلبغاوية - حنقا من منطاش لما مسك الناصري؛ لِأَن برقوق كَانَ يلبغاويا والناصري كَانَ أَيْضا يلبغاويا؛ فَذَهَبت اليلبغاوية أَولا من خجداش لَهُم إِلَى خجداش آخر، وَهُوَ الناصري.
فَلَمَّا وثب على الْأَمر غير خجداشهم - وَهُوَ منطاش الأشرفي - عظم عَلَيْهِم ذَلِك، وأنضم غالبهم على برقوق لما خرج من حبس الكرك. ولسان حَالهم يَقُول [فِي ذَلِك] :
(وَمَا من حبه أحنو عَلَيْهِ
…
وَلَكِن بغض قوم آخَرين)
.
وَاسْتمرّ أَمر برقوق يَنْمُو وَأمر منطاش يضمحل، إِلَى أَن خرج منطاش بِالْملكِ الْمَنْصُور [هَذَا] إِلَى الْبِلَاد الشامية لقِتَال برقوق.
وَوَقع المصاف بَينهم بِمَنْزِلَة شقحب، انتصر برقوق - وإنهزم منطاش إِلَى دمشق - وَاسْتولى على الْمَنْصُور هَذَا والخليفة [والقضاة] و [على] العصائب السُّلْطَانِيَّة، وَعَاد بِالْجَمِيعِ إِلَى الديار المصرية بعد أُمُور صدرت بَينه وَبَين منطاش.
وَاسْتمرّ منطاش بالبلاد الشامية، إِلَى أَن أخرج الظَّاهِر برقوق الناصري من سجن الأسكندرية، وندبه لقِتَال منطاش.
وَوَقع بعد ذَلِك أُمُور، إِلَى أَن قتل برقوق الناصري بقلعة حلب) .
ثمَّ ظفر بمنطاش من عِنْد نعير بعد سِنِين، وَقَتله أَيْضا - وَقد ذكرنَا هَذَا كُله مُجملا فِي تاريخنا ((النُّجُوم الزاهرة)) [ومفصلا فِي ((المنهل الصافي)) فِي تَرْجَمَة الظَّاهِر برقوق][كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاء والسلاطين على حِدته] ؛ لِأَنَّهُ مُرَتّب على الْحُرُوف. وَمن أَرَادَ الْعلم بذلك؛ فَعَلَيهِ بمطالعتهما؛ ففيهما الْغَرَض بِزِيَادَة -[إِن شَاءَ الله تَعَالَى]-.
ثمَّ سَار برقوق بِالْملكِ الْمَنْصُور هَذَا وَجَمِيع العساكر إِلَى الديار المصرية حَتَّى دَخلهَا فِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع عشر صفر سنة إثنتين وَتِسْعين وَسَبْعمائة.
وَلما دخل برقوق إِلَى الديار المصرية فرشت الشقق الْحَرِير تَحت حوافر فرسه؛ فَتنحّى برقوق عَنْهَا، وَمَشى الْمَنْصُور عَلَيْهَا؛ فَحسن ذَلِك ببال النَّاس كثيرا.
وطلع برقوق إِلَى القلعة، وَعَاد إِلَى ملكه.
وخلع الْمَنْصُور هَذَا، وَلزِمَ دَاره بقلعة الْجَبَل مبجلا، إِلَى أَن مَاتَ بعد أَن أقعد، وتكسح فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء تَاسِع عشر شَوَّال سنة أَرْبَعَة عشر وَثَمَانمِائَة عَن بضع وَأَرْبَعين سنة. وَدفن بتربة جدته خوند بركَة أم الْأَشْرَف شعْبَان.
فَكَانَت مُدَّة [مملكة الْمَنْصُور] فِي سلطنته الثَّانِيَة ثَمَانِيَة أشهر وَنَحْو سِتَّة عشر يَوْمًا تخمينا - أَعنِي من يَوْم أجلسه الناصري على تخت الْملك إِلَى يَوْم طلع برقوق إِلَى [قلعة الْجَبَل] وَجلسَ على تخت الْملك -.