الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلطنة الْملك النَّاصِر مُحَمَّد [بن قلاوون] الثَّالِثَة
قد تقدم كَيْفيَّة خلع [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد هَذَا من الْملك أَولا وَثَانِيا، وَكَيف كَانَ [ابْتِدَاء] تحركه من الكرك لطلب ملكه - أَعنِي لما صَار بيبرس الجاشنكير يُكَرر الطّلب مِنْهُ لما كَانَ مَعَه من الْأَمْوَال والمماليك [وَغَيرهَا] بالكرك -.
وَزَاد عَلَيْهِ فِي ذَلِك، حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْوُثُوب ومكاتبته لنواب الممالك؛ فكاتبهم وأطاعوه بعد أُمُور ذَكرنَاهَا فِي غير هَذَا الْمُخْتَصر.
وَلَا زَالَ أمره يَنْمُو والأقدار تساعده، إِلَى أَن سَار بِجَمِيعِ عَسَاكِر الْبِلَاد الشامية حَتَّى نزل بالريدانية - خَارج الْقَاهِرَة - فِي لَيْلَة عيد الْفطر من سنة تسع وَسَبْعمائة.
وطلع إِلَى قلعة الْجَبَل فِي اللَّيْل، وَأصْبح جلس على سَرِير الْملك، وجددت لَهُ الْبيعَة ثَالِثا.
وَهَذِه سلطنته الثَّالِثَة الَّتِي عظم أمره فِيهَا، ورتب فِيهَا هَذِه التراتيب الهائلة من أَرْبَاب الْوَظَائِف، وخدمة الإيوان وَالْقصر الأبلق، ونزول سرياقوس والميادين، وَعمر فِيهَا تِلْكَ العمائر الْعَظِيمَة من الْقُصُور، والبلاد، والجسور، والقناطر.
وَكَذَلِكَ جَمِيع مماليكه وأمرائه صَار كل مِنْهُم يعمر جِهَة، حَتَّى أَنه زيد فِي مباني الديار المصرية فِي أَيَّامه مِقْدَار نصفهَا - حَسْبَمَا بَينا ذَلِك كُله فِي ((النُّجُوم الزاهرة)) وَأَيْضًا فِي تَرْجَمته فِي تاريخنا ((المنهل الصافي)) .
وَلما تمّ أَمر [الْملك] النَّاصِر مُحَمَّد -[فِي هَذِه الْمرة]- أمسك فِي يَوْم وَاحِد ثَلَاثِينَ أَمِيرا من أَعْيَان الْأُمَرَاء، وَكَثِيرًا من غَيرهم، [ثمَّ أَمر مماليكه وَأَعْطَاهُمْ، وأغدق عَلَيْهِم، وَأقَام لَهُ شَوْكَة وحاشية عَظِيمَة] .
وَولى مَمْلُوكه تنكز الحسامي نِيَابَة الشَّام دفْعَة وَاحِدَة؛ فَأَقَامَ عَلَيْهَا [مَا يزِيد] على ثَلَاثِينَ سنة.
وطالت أَيَّام [الْملك] النَّاصِر فِي هَذِه السلطنة [الثَّالِثَة] زِيَادَة على ثَلَاثِينَ سنة - حَسْبَمَا يَأْتِي ذكره - وأطاعته الْبِلَاد والعباد، وَعظم أمره فِي الْملك، حَتَّى جَاوز فِي العظمة والعساكر كل ملك كَانَ قبله وَبعده إِلَى يَوْمنَا هَذَا.
قلت: وَهُوَ أجل مُلُوك مصر وأعظمهم قدرا، وأطولهم مُدَّة، وَأَحْسَنهمْ سياسة، وَأَكْثَرهم دهاء وَمَعْرِفَة، وأغزرهم عقلا، وَأَكْثَرهم هَيْبَة، وأصوبهم حدسا، وأجودهم رَأيا، وأفضلهم تدبيرا، وأضخمهم رئاسة، وأوسعهم إطلاعا فِي الْأُمُور والعواقب، وأجلدهم صبرا، وأثبتهم مصافا، وأغدقهم عَطاء، وأجلهم بركا وسلاحا، وَأَكْثَرهم مماليكا وحشما وخدما، وأقناهم خيلا وجمالا وبغالا، وأمدهم نَسْلًا وعقبا؛ فَإِنَّهُ تسلطن [بِمصْر] من وَلَده لصلبه ثَمَانِيَة نفر، وَتمّ الْملك فِي نَسْله ومماليك أَوْلَاده ومماليكهم إِلَى يَوْمنَا هَذَا، بل إِلَى أَن تَزُول دولة التّرْك.
ومصداق مَا قُلْنَاهُ: النّظر فِيمَا لَهُ من المآثر بالديار المصرية والبلاد الشامية وَغَيرهَا بِسَائِر بِلَاد الله تَعَالَى، وَفِي ذَلِك كِفَايَة لمن لَهُ عقل وذوق، وَيَكْفِي الْوَاقِف على هَذَا الْمُخْتَصر مَا ذَكرْنَاهُ من الإيجاز من محاسنه، وَلَو أردنَا الإطناب لطال الشَّرْح فِي ذَلِك وَخرج هَذَا الْمُخْتَصر عَن كَيْفيَّة المختصرات.
[قلت] : ودام الْملك النَّاصِر [مُحَمَّد] هَذَا فِي ملك مصر، إِلَى أَن مرض فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة.
وَلزِمَ الْفراش، إِلَى أَن مَاتَ بقلعة الْجَبَل فِي آخر يَوْم الْأَرْبَعَاء الْعشْرين من ذِي الْحجَّة [الْمَذْكُورَة] من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة.
وتسلطن بعده ابْنه [الْملك] الْمَنْصُور أَبُو بكر.
وَكَانَت مُدَّة سلطنة [الْملك] النَّاصِر هَذِه - الثَّالِثَة - على مصر تقَارب إثنتين وَثَلَاثِينَ سنة. وَلَا نعلم من طَالَتْ مدَّته من مُلُوك التّرْك بِمصْر مثل ذَلِك. إنتهى -[رَحمَه الله تَعَالَى]-.