الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلطنة النَّاصِر [فرج] الثَّانِيَة على مصر
تقدم ذكر نسبه وَمَا وَقع لَهُ من خلعه وَعوده إِلَى الْملك فِي تَرْجَمَة أَخِيه الْمَنْصُور عبد الْعَزِيز الْمُقدم ذكره، فَلَا حَاجَة للإعادة.
وَلما جلس [الْملك] النَّاصِر [هَذَا] على تخت الْملك ثَانِيًا استفحل أمره، واستبد بِأُمُور المملكة، وَأمْسك جمَاعَة كَثِيرَة من الْأُمَرَاء وحبسهم، [ثمَّ قَتلهمْ] . ثمَّ اشْتغل بِمن خرج عَلَيْهِ من مماليك أَبِيه النواب بالبلاد الشامية مثل: نوروز الحافظي وَشَيخ المحمودي وجكم العوضي [وَغَيرهم] .
وَوَقع لَهُ مَعَهم أُمُور، وتجرد [نَحْو] ثَمَانِي تجاريد إِلَى الْبِلَاد الشامية بسببهم.
وَطَالَ الْأَمر، وتجاوزت الْفِتَن الْحَد، وَخَربَتْ فِي تِلْكَ الْأَيَّام غَالب قرى [الديار المصرية] والبلاد الشامية.
وَصَارَ حكم [الْملك] النَّاصِر [هَذَا] لَا يتَجَاوَز قطيا - فِي غَالب الأحيان - لاسيما لما تسلطن جكم العوضي بحلب تلاشى أمره وضعفت حرمته، إِلَى أَن قتل جكم بآمد تراجع أمره قَلِيلا.
وَمد الْملك النَّاصِر يَده فِي الْقَتْل فِي مماليك أَبِيه، وَأَرَادَ الْإِسْرَاف فِي ذَلِك؛ فَأخذ الْوَالِد يرجعه عَن ذَلِك ويكفه - وَهُوَ يَوْم ذَاك أتابكا - فانكف قَلِيلا؛ لِأَنَّهُ صَار يخوفه عَاقِبَة ذَلِك.
فَلَمَّا أَن ولي الْوَالِد نِيَابَة الشَّام ثَالِث مرّة - على كره مِنْهُ - خلي الجو للْملك النَّاصِر؛ فأسرف فِي الْقَتْل، وأمعن حَتَّى أَنه قَارب من قَتله الْألف.
ثمَّ خرج النَّاصِر بعد ذَلِك مُجَردا إِلَى الْبِلَاد الشامية لقتل نوروز وَشَيخ - الْمُقدم ذكرهمَا - وَقد نفرت [مِنْهُ] الْقُلُوب، وتغيرت الخواطر عَلَيْهِ؛ بِسَبَب إسرافه فِي الْقَتْل.
[قلت] : وَهُوَ مَعْذُور من وَجه وَغير مَعْذُور من وَجه، أما الْوَجْه الأول: فَإِنَّهُ سامحهم فِي أَوَائِل الْأَمر كثيرا، وَعفى عَن أَكْثَرهم الْمرة والمرتين حَتَّى أَن عدوه [الْملك الْمُؤَيد] شيخ قَالَ بعد مَوته: إِن كَانَ الله سبحانه وتعالى يعفوا عَن الْملك النَّاصِر؛ فيعفوا عَنهُ بقتْله للأمير تمراز النَّائِب.
وحكاية تمراز مَعَ النَّاصِر مُطَوَّلَة، لَا تلِيق بِهَذَا الْمُخْتَصر، فَلْتنْظرْ فِي المطولات.
[ذَكرنَاهَا هُنَا لتأييد مَا قُلْنَاهُ] .
وَحكى لي [الْأَمِير جقمق الظَّاهِرِيّ الْحَاجِب] قَالَ: مَا صَبر أحد على عدوه وَعفى عَنهُ مثل النَّاصِر، فَإِنَّهُ لم يقتل وَاحِدًا مِمَّن قتل حَتَّى عصى عَلَيْهِ الْمرة والمرتين وَالثَّالِثَة.
[قلت] : وَلم نر هَذَا وَقع لملك بعده كَائِن من كَانَ - صَالحهمْ وطالحهم - بل كَانَ من خرج عَلَيْهِ [وَاحِد مرّة) لم يبلعه رِيقه - من الْملك الْمُؤَيد إِلَى يَوْمنَا هَذَا -.
وَأما الْوَجْه الثَّانِي، فَإِن الْإِقْدَام على قتل النَّفس أَمر كَبِير يَنْبَغِي للْملك وَغَيره التَّحَرُّز مِنْهُ والتحري فِيهِ، والتجاوز عَن الْقَتْل إِلَى غَيره من: الْحَبْس، وَالنَّفْي، والإرداع وَغير ذَلِك.
وَلما خرج [الْملك] النَّاصِر إِلَى الْبِلَاد الشامية فِي سنة أَرْبَعَة عشر وَثَمَانمِائَة - وَكَانَ الْوَالِد يَوْم ذَاك النائباً على دمشق وَهُوَ متوعك فِي مرض مَوته - وَتقدم جاليش الْملك النَّاصِر من الْأُمَرَاء إِلَى الشَّام أَمَامه، وَدخل الجاليش [الْمَذْكُور إِلَى دمشق] قبل السُّلْطَان، وَسلم الْأُمَرَاء على الْوَالِد، وأعلموه بِالْخرُوجِ على النَّاصِر؛ فنهاهم عَن ذَلِك فِي الْبَاطِن؛ فَلم ينْتَهوا، وتوجهوا بتمامهم إِلَى شيخ ونوروز؛ فَعِنْدَ ذَلِك أَخذ أَمر النَّاصِر فِي انحطاط، وَعظم أَمر الْأُمَرَاء، وتكاثر عَددهمْ حَتَّى جَاوز عدَّة من كَانَ مَعَ نوروز وَشَيخ زِيَادَة على عشْرين مقدم [ألف] . كل وَاحِد [مِنْهُم] يَقُول فِي نَفسه: أَنه أعظم من شيخ ونوروز، وَأَن الْأَمر لَا يصير إِلَّا إِلَيْهِ، مثل: بكتمر جلق نَائِب الشَّام، وسيدي الْكَبِير قرقماس، وسودون المحمدي، وشاهين الأفرم أَمِير سلَاح، وطوغان الْحسنى الدوادار الْكَبِير فِي آخَرين.
وَدخل [الْملك] النَّاصِر إِلَى دمشق، وَدخل للوالد غير مرّة يعودهُ؛ فَنَهَاهُ الْوَالِد عَن ملاقاتهم وقتالهم؛ فَلم ينْتَه، وَلَا اكترث بِمن تسحب من عسكره. وَخرج لقتالهم؛ فجبن الْجَمِيع عَن مصاففته وقتاله، وصاروا ينتقلون من بلد إِلَى أُخْرَى، وَهُوَ فِي إثرهم سوقا، وعساكره متقطعة خَلفه، إِلَى أَن وافاهم وَقت الْعَصْر من يَوْم الأثنين ثَالِث عشر محرم سنة خَمْسَة عشر وَثَمَانمِائَة باللجون، وَهُوَ سَكرَان لَا يعي من شدَّة السكر.
وَكَانَ الْأُمَرَاء قد نزلُوا وأراحوا خيولهم ورجالهم، وَفِي ظنهم أَن النَّاصِر يتمهل [ليلته] عَن قِتَالهمْ ويلقاهم من الْغَد، فَإِذا جنهم اللَّيْل سَارُوا من وَادي عارة إِلَى جِهَة الرملة، وَلَا يقاتلوه أبدا؛ لرعب كَانَ قد سكن فِي قُلُوبهم مِنْهُ، وَأَيْضًا لشدَّة بأسه وفرط شجاعته، مَعَ معرفتهم بِكَثْرَة جمعهم وباختلاف عَسْكَر النَّاصِر عَلَيْهِ. وَمَعَ هَذَا جبن الْجَمِيع عَن لِقَائِه وقتاله؛ فحالما وصل النَّاصِر إِلَى اللجون ركب وصف عساكره، وَقد كلت [خيوله وَرِجَاله] من السُّوق أَيَّامًا كَثِيرَة؛ فَكَلمهُ الأتابك دمرداش المحمدي فِي الرَّاحَة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَفِي الْقِتَال من الْغَد، وألح عَلَيْهِ، وساعده فِي ذَلِك فتح الله كَاتب السِّرّ؛ فَلم يلْتَفت إِلَى كَلَامهمَا وَقَالَ: أَنا لي سِنِين أنْتَظر هَذَا الْيَوْم مَتى مَا ثَبت اللَّيْلَة هربوا الْجَمِيع فِي اللَّيْل، وَمَشى عَلَيْهِم؛ فحالما صاففهم عصى عَلَيْهِ [من أمرائه] الْأَمِير قجق بِجَمِيعِ مماليكه وَطَلَبه. وتداول [ذَلِك] من جمَاعَة كَثِيرَة، وَهُوَ مَعَ ذَلِك مصر على اللِّقَاء.
فَلَمَّا رأى الْأُمَرَاء أَمرهم فِي زِيَادَة، وعسكرهم فِي نمو، قوي بذلك قلبهم، وتصادم الْفَرِيقَانِ؛ فَلم يثبت عَسْكَر النَّاصِر وانكسر.
وَانْهَزَمَ النَّاصِر إِلَى نَحْو دمشق فِي نفر قَلِيل [نَحْو] الثَّلَاثَة، وَدخل [دمشق] فِي آخر لَيْلَة الْأَرْبَعَاء خَامِس عشر الْمحرم [الْمُقدم ذكره] .
وَمَات الْوَالِد -[رحمه الله]- فِي ذَلِك الْيَوْم وَدفن بتربة تنم الْحسنى نَائِب الشَّام.
وَاسْتولى الْأُمَرَاء بعد الْوَقْعَة على الْخَلِيفَة والقضاة والعصائب السُّلْطَانِيَّة، وَسَارُوا يُرِيدُونَ دمشق؛ فتهيأ النَّاصِر لقتالهم ثَانِيًا، وَقد قوي أمره ببرك الْوَالِد ومماليكه وخيوله وسلاحه؛ لِأَن النَّاصِر استولى على جَمِيع مَا كَانَ للوالد، حَتَّى أَنه لم يدع لنا شَيْئا يُسَاوِي الدِّينَار الْوَاحِد.
ثمَّ وَقع للناصر مَعَ الْأُمَرَاء أُمُور وحروب طَالَتْ أَيَّامًا كَثِيرَة؛ فسلطنوا الْأُمَرَاء الْخَلِيفَة الْعَبَّاس، وخلعوا النَّاصِر من الْملك.
كل ذَلِك وَهُوَ مُجْتَهد فِي قِتَالهمْ بِالْمَدِينَةِ ثمَّ بالقلعة، إِلَى أَن أَخذ بالأمان فِي لَيْلَة الأثنين حادي عشر صفر سنة خمس عشرَة وَثَمَانمِائَة؛ فَأخذ وَقيد، وَحبس بقلعة دمشق، إِلَى أَن قتل بأيدي المشاعلية بالسكاكين فِي لَيْلَة السبت سادس عشر صفر، ثمَّ ألْقى على مزبلة وَهُوَ عاري الْبدن وَالنَّاس تمر بِهِ، حَتَّى حمل بعد أَيَّام، وَغسل وكفن، وَدفن بمقبرة بَاب الفراديس بمرج الدحداح.
قلت: هَذَا لقلَّة إنصاف أعدائه - مماليك أَبِيه - وَعدم مروءتهم؛ وَهُوَ أَن الرجل إِذا كَانَ فِي نَفسه من عدوه ثمَّ ظفر بِهِ؛ فأعظم مَا يجازيه بِالْقَتْلِ، ثمَّ يُكرمهُ بِالْغسْلِ والكفن والدفن؛ فَلم يَفْعَلُوا هَؤُلَاءِ مَعَ النَّاصِر ذَلِك، بل لَو أمكنهم إحراقه لحرقوه، وَلَعَلَّ هَذَا يَنْفَعهُ عِنْد الله تَعَالَى.
وَكَانَ [الْملك] النَّاصِر كَرِيمًا، شجاعا مقداما، مُسْرِفًا على نَفسه، منهمك فِي اللَّذَّات، وَفِيه خفَّة وجبروت وإقدام.
وَكَانَت مدَّته فِي السلطنة أَولا وآخرا من يَوْم تسلطن بعد موت أَبِيه إِلَى أَن خلع بأَخيه عبد الْعَزِيز سِتّ سِنِين وَخَمْسَة أشهر وَعشرَة أَيَّام.
وَمُدَّة سلطنته الثَّانِيَة إِلَى يَوْم خلع بالخليفة الْعَبَّاس سِتّ سِنِين وَعشرَة أشهر سَوَاء؛ فَجَمِيع أَيَّامه فِي الْملك ثَلَاث عشرَة سنة وَثَلَاثَة أشهر وَأحد عشر يَوْمًا.
وعاش بعد ذَلِك أَيَّامًا فِي الْحصار، وَقتل رحمه الله [تَعَالَى]-.