الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً * وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} [نوح: 15-16] .
إنّ تربةَ القمرِ تربةٌ عاكسةٌ للضّوءِ، وهذا مِن حكمةِ اللهِ تعالى، فضَوْءُ القمرِ يُعدُّ جزءاً مِن ثمانية عشر جزءاً مِن ضوء الشّمسِ، وهو تقويمٌ دقيقٌ، جَعَلَهُ اللهُ في كَبِدِ السّماءِ، وجَعَلَ الشّمسَ سَاعةً يوميّةً، فالشّمسُ ساعةٌ، والقمرُ تقويمٌ، قال العليم الخبيرُ:
{هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] .
هذه آياتُ اللهِ الكونيةُ تشهدُ له بالعظمة والوحدانية، وقد نعقتْ بها أبواقُ الغربِ في سنين خلتْ، وهي مبثوثةٌ في القرآنِ منذ أربعةَ عشرَ قرناً، فأين تذهبُ أيُّها الإنسانُ؟ وهل شَردتَ عن التفكُّرِ فيها؟.
معجزة الإسراء والمعراج ليست مستحيلة عقلاً
موضوعٌ دقيقٌ جدّاً متعلّقٌ بالإسراءِ والمعراجِ، والناسُ عادةً أَلِفُوا أنّ لكلّ شيءٍ خاصّةً، أو طبيعةً، أَلِفوا القوانينَ التي قنّنَ اللهُ بها ملكوتَ السماواتِ والأرضِ، فللماءِ خواصُّ، وللنارِ خواصُّ، وللانتقالِ مِن مكانٍ إلى مكانٍ قوانينُ تضبطُ هذا الانتقالَ، الجسمُ له ظروفٌ تتوافقُ معه، وظروف تتناقضُ معه، ولكي نفرِّقَ بين ما هو مستحيلٌ عادةً، وما هو مستحيلٌ عقلاً أَسُوقُ لكم الحقائقَ التاليةَ:
إنّ اللهَ سبحانه حينما جعلَ النارَ تحرِق بِمَشيئتِه في أيّةِ لحظةٍ، هو قادرٌ أنْ يجعلَها لا تَحرقُ، أيُّ شيءٍ له طبيعةٌ خاصّةٌ، أيُّ قانون مادّي، أيّ علاقةٍ ثابتةٍ بين شيئين، هذه مِن خَلْقِ اللهِ عز وجل، واللهُ يخلقُ ما يشاء، فإذا خَلَقَها على شاكلةٍ يُمكنُ أنْ يخلقَها على شاكلةٍ أخرى، فحينما تأتي في القرآنِ الكريمِ بعضُ خوارقِ العاداتِ، كالإسراءِ والمعراجِ، وهو معجزةٌ، فلا ينبغي أنْ نفْهَمَه في ضوءِ القوانينِ التي قنّنها اللهُ سبحانه وتعالى، لأنّ الإسراءَ والمعراجَ خرْقٌ لهذه القوانينِ، ولأنّ الإنسانَ أحياناً يتوهّمُ أنَّ السّببَ وحدَهُ هو الذي يخلقُ النتيجةَ، فإذا اعتقدَ ذلك اعتقاداً جازماً وقَعَ في الشِّرْكِ، فإنّ الذي يخلقُ النتيجةَ ليس هو السّبب، ولكنّه الله سبحانه وتعالى، ولكنّ السّببَ في أيِّ لحظةٍ يُعَطّل أو يُلغَى، فحينما تأتي بعضُ المعجزاتِ على يدِ الأنبياءِ صلواتُ اللهِ عليهم، أو حينما تكونُ بعضُ المعجزاتِ لِنَبيِّنا عليه الصلاة والسلام، فهذا ليس مستحيلاً عقلاً، ولكنّه مستغرب عادةً، وعلماءُ العقيدة فرّقوا بين ما هو مستحيلٌ عادةً، وما هو مستحيلٌ عقلاً، ومثلُ هذا يقال في البحر الذي بين مصر وسيناء، قال تعالى:{فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] ، فرعون مِن ورائِهم، والبحرُ أمامهم، قال تعالى مشيراً إلى موقف موسى عليه السلام:{قَالَ كَلَاّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] .
لقد خَلَقَ اللهُ سبحانه وتعالى طبيعةَ الماءِ سائلةً، وبقُدرته في كلّ لحظةٍ أنْ يصيِّرها جامدةً، فما هي إلا إشارةٌ مِن سيّدنا موسى بِعَصاه حتى شقَّ في البحرِ طريقاً يبساً، هذا إذا فكَّرتَ في آلاء اللهِ، وعرفتَ عظمتَه سبحانه وتعالى، لم ترَ حينئذٍ في خوارقِ العاداتِ شيئاً مستحيلاً عقلاً، بل ربّما كان مستحيلاً عادةً، تماماً كما أَلِفَ الناسُ أنّ النارَ تحرقُ، وأنّ الماءَ سائلٌ، ولكن ربّنا سبحانه وتعالى هو خالقُ القوانينِ، وهو خالقُ طبائعِ الأشياءِ، وهو خالقُ العلاقاتِ الثابتةِ، التي تظنّها أنت ثابتةً، إنّها ليْسَت ثابتةً، فإذا شاء الله لها أن تثبتَ ثبَتَتْ، وإذا شاء لها أن تكون غير ثابتة غيَّرها كيف يشاء، فهو الذي خَلَقَ قوانينَ المكانِ، وهو الذي خَلَقَ قوانينَ الزمانِ، فإذا قرأْتَ في كتبِ السيرةِ أنّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ مِن بيتِه إلى بيتِ المقدسِ، وعادَ إلى بيته في ليلةٍ، فهذا مِن خَرْقِ اللهِ سبحانه وتعالى لِقَوانينِ المكانِ.
لقد كذَّبتْه قريشٌ، وطالبتْه أنْ يصفَ المسجدَ الأقصى فوصَفَهُ، وكأنّه يشاهدهُ، لأنّه شاهدهُ حقيقةً، ولعلّهم يظنّون أنّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام سمِعَ هذا الوصفَ مِن غيره، فنَقَله إليهم، فطالبوه أنْ يصفَ لهم ما رآه في الطريقِ، فوصفَ لهم قافلةً، وسمّى أسماءَ أصحابِها، ولمّا جاءت القافلةُ إلى مكّة، وسألوا أفرادَها، جاءَت إجابتُهم مطابقةً تماماً لِوَصف النبيِّ عليه الصلاة والسلام، لذلك فإنّ حدَثَ الإسراءِ مستدَلٌّ عليه بآيات محكمةٍ، صريحةِ الدلالة، وبأحاديث صحيحة صريحةٍ، وهو من المعلوم من الدين بالضرورةِ.
إنّ أحداثَ الإسراءِ والمعراجِ من الزاويةِ العلميّةِ ممْكنةٌ عقلاً، وغيرُ ممْكنةٍ عادةً، والناسُ أحياناً يخْلطون بين العادةِ والعقلِ، فهؤلاء الذين ما عرفوا الله، وما عرفوا قدرتهُ، وما عرفوا معنى قولِه تعالى:{كُن فَيَكُونُ} ، وما عرفوا أنّ الزمانَ مِن خلقِهِ، وقد يُلغى، وأنّ المكانَ مِن خلقهِ، وقد يُلغى، ما عرفوا هذه الحقيقةَ، أحياناً ينْكرون أنْ يقعَ الإسراءُ والمعراجُ، وبعضُهم يقرُّ بالإسراءِ، وينكرُ المعراجَ، وكلاهما ثابتٌ، لأنّ هذا الكونِ بِرُمّتِه، وبِمَجرّاتِه، وبكلّ أفلاكِه، وبأرضِهِ وسمائِه وُجِدَ من عَدمٍ، فهلْ يستطيعُ عقلُك فهْمَ هذه القضيّةِ، كُنْ فَيَكُونُ، كان اللهُ، ولم يكن شيءٌ معه، فأيُّهما أعظمُ؛ أن يوجد هذا الكونُ كلُّه مِن عدَمٍ، أم أنْ ينتقلَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام بقُدرةِ الله، لا بقُدرته؟ فالفعلُ هنا (أسْرَى) ، وليس (سَرَى) ، الفعل (أسْرَى) مُتَعَدٍّ، طفلٌ صغير ضعيف، أيُعْقَلُ أنْ يصعدَ إلى قمّةِ جبلِ همالايا؟! لا يُعقلُ، ولكن إذا حُمِلَ، وأُخِذ، وصُعِدَ به، حينئذٍ يُعْقل، فربّنا عز وجل يقول:{سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ، فهو انتقلَ بِقُدرةِ اللهِ مِن مكّةَ إلى بيتِ المقدسِ، وانتقلَ إلى السماءِ بقُدرة الله، إذاً فقدرةُ اللهِ لا يحُدّها شيءٌ، وهي تتعلّق بكلّ شيء، فالإسراءُ والمعراج ممكنٌ عقلاً، ممتَنِعٌ عادةً، ولم يأْلَف الناسُ ذلك وقْتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أما الآن فقد انتقل الإنسانُ مِن الأرضِ إلى القمرِ في ثلاثة أيّام، وكانت سرعةُ مركبتِه أربعين ألف ميل في الساعة، فما كان مستحيلاً وقْت النبيِّ صلى الله عليه وسلم أصبح الآن على يَدَيِ البشر ممكناً، فكلّ شيءٍ ممكنٌ عقلاً، ولكنّه ليس ممكناً عادةً، هذه النقطة قد تغيب عن أذهان بعض الناس، لكن أريد أن أُعقّب تعقيباً قصيراً، وهو أنّ الإنسان كلّما نما عقلهُ، وكلّما دقَّت مدركاتهُ يرى أنّ الكون بِوَضْعِهِ الراهن من دون خرْقٍ لِنَواميسه هو المعجزة، أليسَ الكونُ معجزةً؟