الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويمكن الإشارةُ هنا، ونحنُ في صَدَدِ هذه السورةِ القصيرةِ إلى دراسةٍ طويلةٍ ومعقّدةٍ ومُكْلِفةٍ جداً توصَّل علماءُ الجيولوجيا من خلالها إلى أن هناك علاقةً متينةً مترابطةً بين الزلازلِ والبراكينِ، فمرةً يكونُ الزلزالُ بسببِ تحرُّكِ الكُتَلِ الملتهِبةِ، وضغطِها على قشرةِ الأرضِ، فيكونُ الزلزالُ نتيجةَ هيجانِ الكتلِ المحمومةِ في باطنِ الأرضِ، ومرةً يكونُ الزلزالُ سبباً للبركانِ، على كلٍّ فهناك علاقةٌ مترابطةٌ بين الزلازلِ والبراكينِ، ثم اكتشفَ العلماءُ أنّ الحِمَمَ في باطنِ الأرضِ لها وزنٌ نوعيٌّ مرتفعٌ جداً، فلمّا قرأَ أحدُهم هذه الآية:{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} ، وقد وُصِفَ ما فيها بالأثقالِ، لأنَّ وزنَها النوعيَّ مرتفعٌ جداً أخَذَتْهُ الدَّهشةُ.
هذا الربطُ بين الزلازل والبراكينِ، في هذه السورةِ القصيرةِ إشارةٌ لطيفةٌ مِن الله عز وجل إلى أنَّ خالقَ الأكوانِ هو الذي أنزلَ القرآنَ، هذه حقيقةٌ صارخةٌ، وهو الذي خَلَقَ مئة ألفِ مليون مجرّةٍ، والذي خَلَقَ هذه المذنباتِ، وتلك الكازراتِ، وهذه الكواكبَ، وهذه النجومَ، فإنَّ خالقَ الأكوانِ هو الذي أنزلَ القرآنَ، فيجبُ أنْ تعلمَ مَن هو المرسِلُ، هذا خطابُ مَن؟ إنه خطابُ اللهِ خالقِ كلِّ شيء، وفضلُ كلامِ اللهِ على خَلْقِه كفضلِ اللهِ على خَلْقِهِ.
إنها نعمةٌ كبرى أنْ تستيقظَ صباحاً، وترى الأرض مستقرَّةً، ولن تعرف هذه النعمةَ إلاّ إذا شهدتَ زلزالاً يكادُ تنفطرُ منه القلوبُ لهولِ الدمار، وقد لفت الله تعالى نظرنا إلى هذا فقال:{أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً} [النمل: 61] ، ولولا هذا الاستقرار ما بقي بناءٌ على وجه الأرض، وما نعم بيتٌ بقرارٍ، وقد قال سبحانه:{والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 12] ، فمِن لوازمِها التصدُّع، الذي هو أداة تخويف، كما قال سبحانه وتعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلَاّ تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59] ، فالطاعةَ الطاعةَ قبلَ الحادثِ العَمِيمِ.
زلزال القاهرة
حين يركبُ الإنسانُ طائرةً قد يشعرُ بالقلقِ، ولا يطمئنُّ قلبُه إلا إذا دَرَجَتْ عجلاتُها على أرضِ المطارِ، فيقول لزميله: حمداً لله على السلامة، وحين يركبُ الإنسانُ البحرَ، ويهيج الموجُ، تضطربُ نفسُه، فلا يطمئنُّ الإنسانُ إلا إذا كان على الأرضِ، ولكن المؤمن لا يطمئنُّ إلا إذا أرادَ اللهُ له السلامةَ، فهذه الأرضُ الثابتةُ المستقرةُ الساكنةُ قد تتحرك مِن تحت أقدامنا بين الفينةِ والأخرى، قال سبحانه وتعالى:{أَءَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] .
قال بعضُ علماءِ الزلازلِ: "لو أنَّ زلزالَ القاهرةِ استمرَّ عشرَ ثوانٍ فقط لدَمَّرَ نصفَ بيوتها، ولَمَاتَ أكثرُ مِن خمسةِ ملايين إنسان"، ولكنَّ اللهَ لطَفَ بهم لطفاً شديداً، فماذا يمنَعُنا مِن عذاب الله؟ اللهمّ إلا رحمته، بيتٌ إسمنتيٌّ عميقُ الأسسِ، شامخُ البنيانِ، ليس فيه ضمانٌ مِن أيِّ خطرٍ إلاّ أنْ يشاءَ اللهُ السلامةَ، فإنْ لم يشأْ زلزلَ الأرضَ مِن تحتِ الأقدامِ.
ثمة عمارةٌ تزيدُ على أربعة عشرَ طابقاً أصبحتْ ركاماً، وكأنّها إسمنتٌ مطحونٌ، بأساسِها، وبأشخاصِها، وبآلاتِها الكهربائيةِ، وبتزييناتِها، وبفُرُشِها، إنّها موعظةٌ بليغةٌ، آياتٌ كثيرةٌ يجب أنْ نقفَ عندَها.
يمكن أنْ يُفَسَّرَ الزلزالُ تفسيراً علمياً، يقول علماءُ الزلازلِ:"تتصادمُ القشرةُ الأرضيةُ وتُضغَطُ، وفي بعضِ الحالاتِ يكونُ الضغطُ شديداً فتُزَاحُ القشرةُ عن مثيلتِها، فيحدثُ الزلزالُ".
هذا التفسيرُ العلميُّ للزلزالِ هل يُلْغِي التفسيرَ الدينيَّ الإلهيَّ؟ لا واللهِ، مَن هو مُسَبِّبُ الأسبابِ؟ إنه اللهُ عز وجل، هذا الذي يرفضُ التفسيرَ الدينيَّ للزلزالِ تنطبقُ عليه الآيةُ الكريمةُ:{إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلاه إِلَاّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]، وينطبقُ عليه قولُه سبحانه:{وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [الطور: 44] .
هناك تفسيرٌ علميٌّ جغرافي للزلزالِ، لا مجالَ لتفصيله هنا، حركةٌ في باطن الأرض، تموُّجات في القشرةِ الأرضيةِ، ضغطٌ شديدٌ، تصدُّعٌ في السطوحِ، زلزالٌ أفقيٌّ، زلزالٌ عموديٌّ، زلزالٌ له موجاتٌ واسعةٌ، تُقاسُ بمقياسِ رِخْتَر كما هو معلومٌ، لكنَّ التفسيرَ العلميَّ للزلزالِ لا ينفي التفسيرَ الدينيَّ له، دقِّقوا في هذه الآيةِ، قال الله تعالى:{قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65]، وقال سبحانه:{وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .
لقد لَطفَ اللهُ عز وجل لطفاً شديداً بأهل مصرَ، إذْ وقعَ زلزالٌ في الصينِ في عامِ (1556) أَوْدَى بحياة ثمانمئة وثلاثين ألفَ قتيلٍ، وذَهَبَ ضحيةَ زلزالٍ في الهند ِ ثلاثمئة ألفِ قتيلٍ، إنها أعدادٌ كبيرةٌ جداً، لكنّ اللهَ سبحانه وتعالى لَطَفَ، ونبَّهَنَا ولوَّحَ لنا بالعَصَا، لأنّ اللهَ يقول:{وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} [الإسراء: 58] .
إنّ كلَّ قريةٍ فسدتْ، وخرجَتْ نساؤُها كاسياتٍ عارياتٍ، وأُكِلَ الرِّبا، وضُيِّعتِ الحقوق، إذا ارْتُكِبَتْ هذه المعاصي، وأُكِل الحقُّ، فالعاقبةُ وخيمةُ الوبالِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ خِيَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ سُمَحَاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ شُورَى بَيْنَكُمِ، فَظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِهَا، وَإِذَا كَانَ أُمَرَاؤُكُمْ شِرَارَكُمْ، وَأَغْنِيَاؤُكُمْ بُخَلاءَكُمْ، وَأُمُورُكُمْ إِلَى نِسَائِكُمْ، فَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا".
لذلك يقولُ عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، وقوله:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ} أيْ: هذا مستحيلٌ، وليس هذا مِن شأنِه سبحانه، وهو القائلُ:{وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} [الكهف: 59] .
إذاً لنْ يَسلَمَ الإنسانُ إلا في حالةٍ واحدةٍ؛ أنْ يشاءَ اللهُ له السلامةَ، ولن يطمئنَّ الإنسانُ إلا في حالةٍ واحدةٍ؛ أنْ يشاءَ اللهُ له الأمنَ، قال تعالى:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولائك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 81-82] ، لذلك وجَب علينا أن نلوذَ باللهِ عز وجل، ونعودَ إليه، فالسعيدُ مَن اتَّعَظَ بغيره، والشقيُّ لا يتَّعظُ إلا بنفسِه، والخسائرُ التي وقعتْ لا تُذْكَرُ أمام الزلازلِ الكبيرةِ، وهذا تلويحٌ بالعصا، قال الله تعالى:{وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ * واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 54-55] .