الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجبُ أنْ نفهمَ الدينَ هذا الفهمَ العميقَ، فإذا رأيتَ جسراً، وعليه لوحةٌ كُتِبَ عليها:"الحمولةُ القصوى خمسةُ أطنانٍ"، وأنتَ تقودُ شاحنةً حمولتُها سبعةُ أطنانٍ، فإذا أردتَ أنْ تسيرَ على هذا الجسرِ، هل تقول: هل أُخَالَفُ؟ هل هناك مَن يراقبني؟ لا، القضيةُ أعمقُ من ذلك، لنْ يخالِفَك أحدٌ، وإذا مررتَ على هذا الجسرِ فلا بد أنْ تسقطَ في النهرِ، هذه اللوحةُ التي كُتِبَتْ على هذا الجسرِ ليستْ حدّاً لحريتِك، ولكنَّها ضمانٌ لسلامتِك، هكذا ينبغي أنْ يفهمَ المؤمنُ، لذلك حدَّ ربُّنا عز وجل حدوداً، قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] .
كهذا التيارِ الكهربائيِّ العالي تَوَتُّرُهُ، حوْلَ هذا التيارِ ساحةٌ تجذِبُ إليه، إذا كانت المعاصي مِن هذا النوعِ انطبقَتِ الآيةُ الأخرى:{تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] .
فالمسافةُ كبيرةٌ بين: {فَلَا تَعْتَدُوهَا} ، و:{فَلَا تَقْرَبُوهَا} ، فالحدودُ التي مِن شأنِها أنْ تَجذِبَ الإنسانَ إليها لا تقرَبُوها.
قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُواْ الزنى} [الإسراء: 32] ، الزنى خطواتٌ، وقال عز وجل:{تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا} ، أمّا أكل المال الحرامِ، {فَلَا تَعْتَدُوهَا} ، وعلى كلٍّ هي حدودُ سلامتِك، إذا قلنا: حدودُ الله، فهي حدودٌ لسلامتك، وأنْ يرضى اللهُ عنك، وأنْ تستحقَّ عنايةَ اللهِ بك، وأنْ تستحقَّ حفْظَ الله لك، هذه كلُّها ضمنَ حدودِ اللهِ، فإذا كنتَ في طاعةِ الله فأنت في ذمةِ الله، وفي حفظ الله، وفي توفيقه، فلو أننا بحثنا عن كل طاعةٍ، وعن كل معصية لعَرَفْنا أنها تنطوي على خيرٍ ليس له حدودُ، وأنّ المعصيةَ تنطوي على شرٍّ ليس له حدود، ولكنْ على الإنسانَ أنْ يفهمَ، وعليه أنْ يُسَلِّمَ فيما لا يفهمْ.
الحكمة من تذكية الذبيحة
مِن دلائلِ نُبوَةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الموضوعُ العلميُّ، تذكيةُ الذبيحةِ، وبحسبِ توجيهِ النبي صلى الله عليه وسلم هي الذبحُ بطريقةٍ معيَّنةٍ، ويتمُّ ذلك بقطعِ الوريدِ الرئيسيِّ فقط، وأنْ يمتنِعَ الذابحُ عن قطع الرأسِ بالكاملِ، ولم يكن في عصرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا في الجزيرةِ العربيةِ، ولا في مراكزِ الحضاراتِ شرقاً وغرباً مِن معطياتِ العلمِ ما يسمحُ بتعليلِ هذا التوجيهِ، بل ولا في العصورِ التي تَلَتْ عصرَه صلى الله عليه وسلم، إلى أن اكْتُشِفَ أخيراً قَبْلَ بضعةِ عقودٍ من الزمنِ أنَّ القلبَ - قلبَ الإنسان وقلبَ الذبيحةِ - ينبضُ بتنبيهٍ ذاتيٍّ يأتيه من مركزٍ كهربائيٍّ في القلب، ومع هذا المركزِ الأولِ مركزان كهربائيان احتياطيان لهذا المركزِ، يعملُ الثّانِي عندَ تعطُّلِ الأوّلِ، ويعممل الثالثُ عندَ تعطُّلِ الثانِي، ولكنَّ هذا التنبيهَ الذاتيَّ الذي يأتي من القلبِ يُعطِي النبضَ الطبيعيَ (ثمانينَ نبضةً في الدقيقةِ، ليس غير) ، أما حينما يواجهُ الكائنُ خطراً، ويحتاجُ إلى مئةٍ وثمانين نبضةً في الدقيقة لِتُسَرِّعَ الدمَ في الأوعيةِ، وليرتفعَ الجهدُ العضليُّ بزيادةِ إمدادِه بالدمِ فلا بد عندئذٍ مِن أنْ يأتيَ أمرٌ استثنائيٌّ كهربائيٌّ هرمونيٌّ من الغدَّة النخامية في الدماغ إلى الكظرِ، ثم إلى القلبِ، وهذا يقتضي أنْ يبقى رأسُ الدابةِ متّصلاً بجسمِها حتى يُفَعَّلَ الأمرُ الاستثنائيُّ برفعِ النبضِ.
إنَّ نبضَاتِ القلبِ الاستثنائيةَ بعدَ الذبحِ - مِن خلالِ وجودِ علاقةٍ بين المخِّ والقلبِ - تدفعُ الدمَ كلَّه إلى خارجِ الجسم، فيصيرُ الحيوانُ المذبوحُ طاهراً ورديَّ اللون، ومعلومٌ أنَّ مهمّةَ القلبِ عندَ ذبحِ الحيوانِ هي إخراجُ الدمِ كلِّه من جسم الدابّةِ، والنبضُ الطبيعيُّ لا يكفِي لإخراجِ الدمِ كلِّه مِن جسمِ الذبيحةِ، فإذَا قُطِعَ رأسُ الذبيحةِ بالكاملِ حُرِمَ القلبُ من التنبيه الاستثنائي الكهربائي الهرموني الذي يُسْهِمُ في إخراج الدم كلِّه مِن الذبيحةِ، عندئذ يبقى دمُ الدابَّةِ فيها، ولا يخفى ما في ذلك مِن أذىً يصيبُ آكِلِي هذه الذبيحةِ، فإذا بقيَ دمُ الدابّةِ فيها كان خطراً على صحّةِ الإنسانِ، لأنّ الدمَ في أثناءِ حياةِ الدابّةِ يُصفَّى عن طريقِ الرئتين والكليتين والتعرقِ، أما بعدَ الذبح فيصبحُ الدمُ بيئةً صالحةً لنموِّ الجراثيمِ الفتّاكةِ، حيث تسري الحموضُ السامَّةُ التي تؤذِي الإنسان بسبب وجودِها في جسم الحيوانِ، وبهذا يتسمَّمُ اللحمُ كلُّه، وبوجودِ حمضِ البولِ في الدمِ، وبوجودِ الدمِ في اللحمِ يسري هذا كلُّه إلى آكلِ هذه الذبيحةِ، فإذا أكلَ الإنسانُ هذا اللحمَ فإنه يعاني من آلامٍ في المفاصلِ، لأن حمضَ البولِ يترسَّبُ في تلك المفاصلِ ولذلك فتذكيةُ الذبيحةِ تطهيرُها بخروجِ الدمِ منها، ولا يخرجُ الدمُ كلُّه مِن الذبيحةِ إلا إذا بَقِيَ الرأسُ متّصلاً بالذبيحة.
مَن أنبأَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بهذه الحقائقِ التي اكتُشِفَتْ قبَلَ حينٍ، حيثُ أَمَرَ أصحابَه بقطعِ أوداجِ الدابّةِ دونَ قطعِ رأسِها، كما تفعلُ معظمُ المسالخِ في العالَمِ غير الإسلاميِّ؟
إنّ هذا الحديث الشريف مِن دلائلِ نبوَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. إنَّ كلَّ شيءٍ حرَّمهُ اللهُ علينا إنما حرَّمه لأنّه عليمٌ خبير، قال تعالى:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] ، ولأنه خَلَقَنَا، وهو أعلمُ بما ينفعنا، فمَن خَالَفَ أمْرَ اللهِ عز وجل فعليه أنْ يدفعَ الثمنَ.
ومِن سننِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إنهارُ الدمِ، وفريُ الأوداجِ، إذْ لا بدَّ أنْ يخرجَ هذا الدمُ الذي يحملُ كلَّ عواملِ المرضِ من جسمِ الدابَّةِ، فقد قال العلماءُ:"إنّ الدابَّةَ التي تحتجزُ الدمَ في أنسجتِها يميلُ لونُها إلى اللونِ الأزرقِ، وإذا بقيَ هذا الدمُ في النسيجِ العضليِّ تحلَّلَ، وخَرجَتْ منه حموضٌ تؤدِّي إلى تيبُّسِ اللحمِ وتصلُّبِه، وبعد ساعاتٍ ثلاثٍ تنفردُ الجراثيمُ الهوائيةُ واللاهوائيةُ بإفسادِ هذه النُّسُجِ اللحميةِ التي بقيَ الدمُ فيها، وهذا التفاعلُ تنتجُ عنه مركباتٌ كريهةُ الرائحةِ، سامّةُ التأثيرِ، وينتفخُ اللحمُ بالغازاتِ المتولِّدةِ".
لذلك حينما علَّمنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه لا بدَّ من ذبحِ الدابةِ مِن أوداجِها، فمِن أجل أنْ يخرجَ الدمُ من جسمِها، ويبقَى اللحمُ طاهراً طيِّباً.
من هُنا كانت حكمةُ ربِّنا عز وجل بأنْ حَرَّمَ علينا أكلَ المنخنقةِ، والموقوذةِ، والمترديةِ، والنطيحةِ، وما أَكَلَ السَّبُعُ، ففي هذه الحالاتِ كلِّها يبقى الدمُ في بدنِ الدابةِ، والدمُ فيه كلُّ عواملِ المَرَض، وعواملِ التفسخِ، وعواملِ التصلبِ، وعواملِ الانتفاخِ، فلا بدَّ أنْ يكونَ اللحمُ مذبوحاً بالطريقةِ الشرعيةِ.