الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثانى فى حسن السياسة، وإقامة المملكة، ويتّصل به الحزم، والعزم، وانتهاز الفرصة، والحلم، والعفو، والعقوبة، والانتقام
فأما ما قيل فى حسن السياسة وإقامة المملكة؛ قالوا: من طلب الرياسة فليصبر على مضض السياسة. ويقال: إذا صحّت السياسة تمّت الرياسة.
كتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجّاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه [بسيرته [1]] فكتب إليه: إنّى أيقظت رأيى وأنمت هواى، وأدنيت السّيد المطاع فى قومه، وولّيت الحرب الحازم فى أمره، وقلّدت الخراج الموفّر لأمانته، وقسمت لكلّ خصم من نفسى قسما، أعطيته حظّا من لطيف عنايتى ونظرى، وصرفت السيف إلى النّطف [2] المسىء، [والثواب الى المحسن البرىء [1]] ؛ فخاف المريب صولة العقاب، وتمسّك المحسن بحظّه [من [1]] الثواب. وقال الوليد بن عبد الملك لأبيه: يا أبت، ما السياسة؟ فقال: هيبة الخاصّة مع صدق مودّتها، واقتياد قلوب العامّة مع الإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع [3] .
وقيل: بلغ بعض الملوك سياسة ملك آخر فكتب اليه: قد بلغت من حسن السياسة مبلغا لم يبلغه ملك فى زمانك، فأفدنى الذى بلغت به ذلك؛ فكتب إليه:
لم أهزل فى أمر و [لا [4]] نهى ولا وعد ولا وعيد، واستكفيت أهل الكفاية وأثبت على
[1] زيادة عن العقد الفريد، ج 1 ص 10
[2]
النطف: المريب.
[3]
فى الأصل:
«أهل الصناعات» والتصويب عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 10) والصنائع جمع صنيعة، يقال: فلان صنيعة فلان إذا اصطنعه وخرّجه وأدّبه وربّاه.
[4]
زيادة عن عيون الأخبار (مجلد 1 ص 10 طبع دار الكتب المصرية) .
العناء لا على الهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، وودّا لم يشبه كذب، وعمّمت القوت، ومنعت الفضول. وقيل: إن أنوشروان كان يوقّع فى عهود الولاة: سس خيار الناس بالمحبّة، وامزج للعامّة الرغبة بالرهبة. ولما قدم سعد العشيرة فى مائة من أولاده على ملك حمير سأله عن صلاح الملك؛ فقال: معدلة شائعة، وهيبة وازعة، ورعيّة طائعة؛ ففى المعدلة حياة الإمام، وفى الهيبة نفى للظّلّام وفى طاعة الرعية حسن التئام. وقال أبو معاذ للمتوكّل: إذا كنتم للناس أهل سياسة فسوسوا كرام الناس بالرفق والبذل، وسوسوا لئام الناس بالذّلّ يصلحوا على الذلّ، إن الذلّ يصلح النّذل. وقال أنوشروان: الناس ثلاث طبقات، تسوسهم [1] ثلاث سياسات، طبقة هم خاصّة الأشراف، تسوسهم باللين والعطف، وطبقة هم خاصّة الأشرار، تسوسهم بالغلظة والعنف، وطبقة هم العامّة، تسوسهم بالشدّة واللين.
وقال معاوية بن أبى سفيان: إنى لا أضع سيفى حيث يكفينى سوطى، [ولا أضع [2]] سوطى حيث يكفينى لسانى، ولو أن بينى وبين العامّة شعرة ما [3] ما انقطعت؛ قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا جذبوها أرخيتها وإذا أرخوها جذبتها.
وقال المأمون: أسوس الملوك من ساس نفسه لرعيّته، فأسقط مواقع حجّتها عنه وقطع مواقع حجّته عنها.
[1] فى الأصل «يسوسهم» بالياء وكذلك بقية الأفعال فى هذه الجملة، وظاهر أن الخطاب هو الذى يستقيم معه اللفظ والمعنى.
[2]
زيادة عن العقد الفريد (ج 1 ص 10) .
[3]
كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 10) وعيون الأخبار (مجلد 1 ص 9) . والكثير فى جواب «لم» المنفى بما عدم اقترانه باللام.
وأما ما قيل فى الحزم والعزم وانتهاز الفرصة؛ قالت الحكماء: أحزم الملوك من قهر جدّه هزله، وغلب رأيه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن كيده. وقيل لبعضهم: ما الحزم؟ فقال: التفكّر فى العواقب.
وقال عبد الملك بن مروان لابنه الوليد: يا بنىّ، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن يملك الرعيّة أو تملكه الرعيّة إلّا حزم أو توان. وقالوا: ينبغى للعاقل ألّا يستصغر شيئا من الخطأ والزّلل، فإنّ من استصغر الصغير يوشك أن يقع فى الكبير، فقد رأينا الملك يؤتى من العدوّ المحتقر، ورأينا الصّحّة تؤتى من الداء اليسير، ورأينا الأنهار تنبثق من الجداول الصغار. وقال مسلمة بن عبد الملك: ما أخذت أمرا قطّ بحزم فلمت نفسى فيه وإن كانت العاقبة علىّ، ولا أخذت أمرا قطّ وضعيّت الحزم فيه فحمدت نفسى وإن كانت العاقبة لى. وقال عبد الملك لعمر بن عبد العزيز:
ما العزيمة فى الأمر؟ فقال: إصداره إذا أورد بالحزم؛ قال: وهل بينهما فرق؟
قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ليست تكون عزيمة ما لم يكن
…
معها من الحزم المشيّد رافد
وقيل لملك سلب ملكه: ما الذى سلبك ملكك؟ فقال: [دفع شغل [1]] اليوم إلى غد، والتماس عدّة بتضييع عدد، واستكفاء كلّ مخدوع عن [2] عقله. والمخدوع [عن عقله [1]] : من بلغ قدرا لا يستحقّه أو أثيب ثوابا لا يستوجبه. وفى كتب للهند:
الحازم يحذر عدوّه على كل حال، يحذر المواثبة إن قرب، والمغارة [3] إن بعد، والكمين
[1] زيادة من العقد الفريد (ج 1 ص 18) .
[2]
فى الأصل: «من عقله» .
[3]
كذ فى الأصل، ولعله «المغاورة» بمعنى الإعارة.
إن انكشف، والاستطراد إن ولّى. وقال صاحب كتاب كليلة ودمنة: إذا عرف الملك أنّ رجلا يساوى به فى المنزلة والرأى والهمّة والمال واتّبع فليصرعه، فإن لم يفعل فهو المصروع. وقيل: من لم يقدّمه حزمه أخّره عجزه. وقيل: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.
قال البحترىّ:
فتى لم يضيّع وجه حزم ولم يبت
…
يلاحظ أعجاز الأمور تعقّبا
ومثله قول آخر:
وخير الأمر ما استقبلت منه
…
وليس بأن تتبّعه اتّباعا
وقيل: من لم ينظر فى العواقب فقد تعرّض لحادثات النوائب. قال الشاعر:
ومن ترك العواقب مهملات
…
فأيسر سعيه أبدا تبار
وقال صاحب كتاب كليلة ودمنة: رأس الحزم للملك معرفته بأصحابه وإنزالهم منازلهم واتهام بعضهم على بعض، فإنه إن وجد بعضهم إلى هلاك بعض سبيلا أو إلى تهجين بلاء المبلين وإحسان المحسنين والتغطية على إساءة المسيئين، سارعوا الى ذلك، واستحالوا [1] محاسن أمور المملكة، وهجّنوا محاسن رأيه؛ ولم يبرح منهم حاسد قد أفسد ناصحا، وكاذب قد اتّهم أمينا، ومحتال قد أغضب بريئا. وليس ينبغى للملك أن يفسد أهل الثقة فى نفسه بغير أمر يعرفه، بل ينبغى فى فضل حلمه وبسطة علمه الحيطة على رأيه فيهم، والمحاماة على حرمتهم وذمامهم، وألّا يرتاح [2] إلى إفسادهم، فلم يزل جهّال الناس يحسدون علماءهم، وجبناؤهم شجعانهم، ولئامهم كرماءهم، وفجّارهم أبرارهم، وشرارهم خيارهم.
[1] كذا فى الأصل. ولعله: «أحالوا» بمعنى غيّروا.
[2]
فى الأصل «ألا يريح» ولعل الصواب ما وضعناه.
وقال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: انتهزوا هذه الفرص فإنها تمرّ مرّ السّحاب، ولا تطلبوا أثرا بعد عين.
وكتب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد، وقد بلغه عنه تلكّؤ فى بيعته:
أما بعد، فإنى أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك كتابى فاعتمد أيّهما شئت والسلام.
وكتب عبد الله بن طاهر الخراسانىّ إلى الحسن بن عمر التّغلبىّ [1] : أما بعد، فإنه بلغنى من قطع الفسقة الطريق [ما بلغنى [2]] ، فلا الطريق تحمى، ولا اللصوص تكفى، ولا الرعية ترضى، وتطمع بعد هذا فى الزيادة! إنك لمنفسح الأمل! وايم الله لتكفينّ من قبلك أو لأوجّهنّ إليك رجالا لا تعرف مرّة من جشم، ولا عديّا من رهم [3] . ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
وكتب الحجاج بن يوسف إلى قتيبة بن مسلم والى خراسان: أما بعد، فإن وكيع ابن حسّان [4] كان بالبصرة [منه [5]] ما كان، ثم صار لصّا بسجستان، ثم صار إلى خراسان، فإذا أتاك كتابى هذا فاهدم بناءه واحلل لواءه. وكان على شرطة قتيبة فعزله وولّى الضّبىّ.
[1] فى الأصل: الثعلبى وهو تحريف إذ هو الحسن بن أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب العدوى التغلبى. انظر ابن الأثير طبع أوربا ج 7 ص 127 و 172.
[2]
زيادة يقتضيها السياق وفى العقد الفريد «ما بلغ» (ج 1 ص 20) .
[3]
كذا فى العقد الفريد «رهم» بالراء وهو بطن من بطون العرب وفى الأصل: «دهم» .
[4]
فى الأصل: «حيّان» والتصويب عن العقد الفريد والطبرىّ.
[5]
زيادة يقتضيها المقام.