الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما تشتمل عليه ولاية نظر الحسبة وما يختص بها من الأحكام
ونظر الحسبة يشتمل على فصلين: أحدهما أمر بمعروف، والثانى نهى عن منكر. فأمّا الأمر بالمعروف فينقسم الى ثلاثة أقسام: أحدها ما تعلّق بحقوق الله عز وجل. والثانى ما تعلّق بحقوق الآدمييّن. والثالث ما كان مشتركا بينهما، على ما سنوضح ذلك.
فأما المتعلق بحقوق الله تعالى فضربان:
أحدهما- ما يلزم الأمر به فى الجماعة دون الانفراد، كترك الجمعة فى وطن مسكون؛ فإن كانوا عددا قد اتّفق على انعقاد الجمعة بهم كالأربعين فما زاد، فواجب أن يأخذهم بإقامتها ويأمرهم بفعلها ويؤدّب على الإخلال بها. وإن كانوا عددا قد اختلف فى انعقاد الجمعة بهم، فله ولهم أربعة أحوال:
إحداها- أن يتّفق رأيه ورأى القوم على انعقاد الجمعة بذلك العدد، فواجب عليه أن يأمرهم بإقامتها، وعليهم أن يسارعوا الى أمره بها، ويكون فى تأديبهم على تركها ألين منه فى تأديبهم على ترك ما انعقد الإجماع عليه.
والحال الثانية- أن يتّفق رأيه ورأى القوم على أنّ الجمعة لا تنعقد بهم، فلا يجوز أن يأمرهم بإقامتها ولا بالنهى عنها لو أقيمت.
والحال الثالثة- أن يرى القوم انعقاد الجمعة بهم ولا يراه المحتسب، فلا يجوز له أن يعارضهم فيها: فلا يأمر بإقامتها لأنه لا يراه، ولا ينهى عنها ويمنعهم مما يرونه فرضا عليهم.
والحال الرابعة- أن يرى المحتسب انعقاد الجمعة بهم ولا يراه القوم، فهذا مما فى استمرار تركه تعطيل الجمعة مع تطاول الزمان وبعده وكثرة العدد وزيادته، فهل للمحتسب أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بهذا المعنى، أم لا؟ فقد اختلف الفقهاء فى ذلك على وجهين:
أحدهما- وهو قول أبى سعيد الإصطخرىّ- أنه يجوز له أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بالمصلحة، لئلّا ينشأ الصغير على تركها فيظنّ أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه؛ فقد راعى زياد بن أبيه مثل هذا فى صلاة الناس فى جامعى البصرة والكوفة، فإنهم كانوا اذا صلّوا فى صحبه فرفعوا من السّجود مسحوا جباههم من التّراب، فأمر بإلقاء الحصى فى صحن المسجد، وقال: لست آمن أن يطول الزمان فيظنّ الصغير اذا نشأ أنّ مسح الجبهة من أثر السجود سنّة فى الصلاة.
والوجه الثانى- أنه لا يتعرّض لأمرهم بها، لأنه ليس له حمل الناس على اعتقاده [1] ، ولا أن يأخذهم فى الدين برأيه، مع تسويغ الاجتهاد فيه، وأنّهم يعتقدون أنّ نقصان العدد يمنع من إجزاء الجمعة. فأمّا أمرهم بصلاة العيد فله أن يأمرهم بها.
وهل يكون الأمر بها من الحقوق اللازمة أو من الحقوق الجائزة؟ على وجهين من اختلاف أصحاب الشافعى فيها: هل هى مسنونة أو من فروض الكفاية. فإن قيل:
إنها مسنونة، كان الأمر بها ندبا؛ وإن قيل: إنها من فروض الكفاية، كان الأمر بها حتما. فأمّا صلاة الجماعة فى المساجد وإقامة الأذان فيها للصلوات، فمن شعائر الإسلام وعلامات متعبّداته التى فرّق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين دار الإسلام ودار الشّرك. فإذا أجمع أهل محلّة أو بلد على تعطيل الجماعات فى مساجدهم وترك الأذان
[1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «على انعقاده» وهو تحريف.
فى أوقات صلواتهم، كان المحتسب مندوبا الى أمرهم بالأذان والجماعة فى الصلوات.
وهل ذلك واجب عليه يأثم بتركه، أو مستحبّ له يثاب على فعله. فأمّا من ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس أو ترك الأذان والإقامة لصلاة، فلا اعتراض للمحتسب عليه اذا لم يجعله عادة وإلفا، لأنها من النّدب الذى يسقط بالأعذار، إلا أن يقترن به استرابة أو يجعله إلفا وعادة، ويخاف تعدّى ذلك الى غيره فى الاقتداء به، فيراعى حكم المصلحة فى زجره عمّا استهان به من سنن عبادته. ويكون وعيده على ترك الجماعة معتبرا بشواهد حاله، كالذى
روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد هممت أن آمر أصحابى أن يجمعوا حطبا وآمر بالصلاة فيؤذّن لها وتقام ثم أخالف الى منازل قوم لا يحضرون الصلاة فأحرقّها عليهم»
. وأما ما يأمر به آحاد الناس وأفرادهم، فكتأخير الصلاة حتى يخرج وقتها، فيذكّر بها ويؤمر بفعلها [1] . ويراعى جواب المأمور عنها، فإن قال: تركتها لنسيان، حثّه على فعلها بعد ذكره ولم يؤدّبه. وإن تركها لتوان أدّبه زجرا وأخذه بفعلها جبرا. ولا اعتراض على من أخّرها والوقت باق، لاختلاف الفقهاء فى فضل التأخير. ولكن لو اتّفق أهل بلد على تأخير صلاة الجماعات الى آخر وقتها والمحتسب يرى فضل تعجيلها، فهل له أن يأمرهم بالتعجيل أولا. فمن رأى أنه يأمرهم بذلك، راعى أنّ اعتياد تأخيرها وإطباق جميع الناس عليه مفض الى أن الصغير ينشأ وهو يعتقد أن هذا هو الوقت دون ما قبله؛ ولو عجّلها بعضهم ترك من أخّرها منهم وما يراه من التأخير.
[1] مرجع الضمير «الفرد» .
فأمّا الأذان والقنوت فى الصّلوات اذا خالف فيه رأى المحتسب فلا اعتراض له فيه بأمر ولا نهى وإن كان يرى خلافه، اذا كان ما يفعل مسوّغا فى الاجتهاد. وكذلك الطهارة اذا فعلها على وجه سائغ يخالف فيه [1] رأى المحتسب: من إزالة النجاسة بالمائعات، والوضوء بماء تغيّر بالمذرورات الطاهرات، أو الاقتصار على مسح أقلّ الرأس، والعفو عن قدر الدرهم من النّجاسة، فلا اعتراض له فى شىء من ذلك بأمر ولا نهى. وفى اعتراضه عليهم فى الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء وجهان، لما فيه من الإفضاء الى استباحته على كل الأحوال، وأنه ربما آل الى السكر من شربه.
ثم على نظائر هذا المثال تكون أوامره بالعرف فى حقوق الله تعالى.
وأما الأمر بالمعروف فى حقوق الآدميين فضربان: عام وخاص.
فأمّا العام- فكالبلد اذا تعطّل شربه، أو استهدم سوره، أو كان يطرقه بنو السبيل من ذوى الحاجات فكفّوا عن معونتهم، فإن كان فى بيت المال مال، لم يتوجّه عليهم فيه أمر بإصلاح شربهم وبناء سورهم ولا بمعونة بنى السبيل فى الاجتياز بهم؛ لأنها حقوق تلزم بيت المال دونهم؛ وكذلك لو استهدمت مساجدهم وجوامعهم. فأما اذا أعوز بيت المال، كان الأمر ببناء سورهم، وإصلاح شربهم، وعمارة مساجدهم وجوامعهم، ومراعاة بنى السبيل فيهم متوجّها الى كافّة ذوى المكنة منهم ولا يتعيّن أحدهم فى الأمر به. فإن شرع ذوو المكنة فى عمله ومراعاة بنى السبيل، وباشروا القيام به، سقط عن المحتسب حقّ الأمر به. ولا يلزمهم الاستئذان فى مراعاة بنى السبيل، ولا فى بناء ما كان مهدوما. ولكن لو أرادوا هدم ما يريدون بناءه من
[1] فى الأصل: «على وجه سائغ مخالف فيها» وقد أثبتنا ما فى الأحكام السلطانية لوضوح استقامته.
المسترمّ والمستهدم [1] ، لم يكن لهم الإقدام على هدمه إلا باستئذان ولىّ الأمر دون المحتسب، ليأذن لهم فى هدمه بعد تضمينهم القيام بعمارته. هذا فى السّور والجوامع.
وأمّا المساجد المختصرة فلا يستأذنون فيها. وعلى المحتسب أن يأخذهم ببناء ما هدموه، وليس له أن يأخذهم بإتمام ما استأنفوه. فأمّا اذا كفّ ذوو المكنة عن بناء ما استهدم، فإن كان المقام فى البلد ممكنا وكان الشّرب وإن فسد مقنعا، تاركهم وإيّاه. وإن تعذّر المقام فيه، لتعطّل شربه واندحاض سوره، نظر: فإن كان البلد ثغرا يضرّ بدار الإسلام تعطيله، لم يجز لولىّ الأمر أن يفسح فى الانتقال عنه، [وكان حكمه حكم النوازل اذا حدثت: فى قيام كافّة ذوى المكنة به [2]] ، وكان تأثير المحتسب فى مثل هذا إعلام السلطان به وترغيب أهل المكنة فى عمله. وإن لم يكن البلد ثغرا مضرّا بدار الإسلام، كان أمره أيسر وحكمه أخفّ. ولم يكن للمحتسب أن يأخذ أهله جبرا بعمارته، لأن السلطان أحقّ أن يقوم بعمارته. وإن أعوزه المال، فيقول لهم المحتسب:
ما دام عجز السلطان عنه أنتم مخيّرون بين الانتقال عنه أو التزام ما ينصرف فى مصالحه التى يمكن معها دوام استيطانه. فإن أجابوا الى التزام ذلك، كلّف جماعتهم ما تسمح به نفوسهم من غير إجبار، ويقول: ليخرج كلّ واحد منكم ما يسهل عليه وتطيب به نفسه، ومن أعوزه المال أعان بالعمل. حتى اذا اجتمعت كفاية المصلحة أو تعين [3] اجتماعها بضمان كل واحد من أهل المكنة قدرا طاب به نفسا، شرع حينئذ فى عمل المصلحة وأخذ كلّ واحد من الجماعة بما التزم به. وإن عمّت هذه المصلحة،
[1] المسترم: ما دعا الى رمّه وإصلاحه من البناء. والمستهدم: ما يريد أن يتهدم وينقض.
[2]
وردت هذه الجملة التى بين القوسين فى الأصل هكذا: «وان كان حكمه حكم النوازل اذا حدثت فى قيامه وكافة ذوى المكنة به» وقد اثبتنا ما ورد فى الأحكام السلطانية لاستقامته.
[3]
فى الأحكام السلطانية: «أو يلوح
…
» .
لم يكن للمحتسب أن يتقدّم بالقيام بها حتى يستأذن السلطان فيها، لئلا يصير بالتفرّد مفتاتا [عليه [1]] ، اذ ليست هذه المصلحة من معهود حسبته. فإن قلّت وشقّ استئذان السلطان فيها أو خيف زيادة الضّرر لبعد استئذانه، جاز شروعه فيها من غير استئذان.
هذا أمر العامّ.
فأمّا الخاص- فكالحقوق اذا مطلت والديون اذا أخّرت، فللمحتسب أن يأمر بالخروج منها مع المكنة اذا استعداه أصحاب الحقوق. وليس له أن يحبس عليها، لأن الحبس حكم. وله أن يلازم عليها، لأنّ لصاحب الحقّ أن يلازم. وليس له الأخذ بنفقات الأقارب، لافتقار ذلك الى اجتهاد شرعىّ فيمن يجب له وعليه، الا أن يكون الحاكم قد فرضها فيجوز أن يأخذ بأدائها؛ وكذلك كفالة من تجب كفالته من الصغار لا اعتراض له فيها حتى يحكم بها الحاكم؛ ويجوز حينئذ للمحتسب أن يأمر بالقيام بها على الشروط المستحقّة فيها.
فأمّا قبول الوصايا والودائع، فليس له أن يأمر بها أعيان الناس وآحادهم، ويجوز أن يأمر بها على العموم، حثّا على التعاون بالبرّ والتقوى. ثم على هذا المثال تكون أوامره بالمعروف فى حقوق الآدميين.
وأما الأمر بالمعروف- فيما كان مشتركا بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين كأخذ الأولياء بإنكاح الأيامى من أكفائهن اذا طلبن، وإلزام النساء أحكام العدد اذا فورقن. وله تأديب من خالف فى العدّة من النساء، وليس له تأديب من امتنع من الأولياء. ومن نفى ولدا قد ثبت فراش أمّه ولحوق نسبه، أخذه بأحكام الآباء جبرا
[1] زيادة عن الأحكام السلطانية.
وعزّره على النفى أدبا. ويأخذ السّادة بحقوق العبيد والإماء، وألّا يكلّفوا من الأعمال ما لا يطيقون. وكذلك أرباب البهائم يأخذهم بعلوفتها اذا قصّروا فيها، وألا يستعملوها فيما لا تطيق. ومن أخذ لقيطا فقصّر فى كفالته، أمره أن يقوم بحقوق التقاطه: من التزام كفالته أو تسليمه الى من يلتزمها ويقوم بها. وكذلك واجد الضّوالّ اذا قصّر فيها أخذه بمثل ذلك من القيام بها أو تسليمها الى من يقوم بها، ويكون ضامنا للضالّة بالتقصير ولا يكون به ضامنا للّقيط. واذا سلّم الضالّة الى غيره ضمنها، ولا يضمن اللقيط بالتسليم. ثم على نظائر هذا المثال يكون أمره بالمعروف فى الحقوق المشتركة.
وأما النهى عن المنكرات- فينقسم الى ثلاثة أقسام: أحدها ما كان من حقوق الله تعالى. والثانى ما كان من حقوق الآدميين. والثالث ما كان مشتركا بين الحقّين.
فأما النهى عنها فى حقوق الله تعالى- فعلى ثلاثة أقسام: أحدها ما تعلّق بالعبادات. والثانى ما تعلّق بالمحظورات. والثالث ما تعلّق بالمعاملات.
فأما المتعلق بالعبادات- فكالقاصد مخالفة هيئتها المشروعة، والمتعمّد تغيير أوصافها المسنونة، مثل من يقصد الجهر فى صلاة الإسرار والإسرار فى صلاة الجهر، أو يزيد فى الصلاة أو فى الأذان أذكارا غير مسنونة، فللمحتسب إنكارها وتأديب المعاند فيها اذا لم يقل بما ارتكبه إمام متبوع. وكذلك اذا أخلّ بتطهير جسده أو ثوبه أو موضع صلاته، أنكره عليه اذا تحقّق ذلك منه، ولا يؤاخذه بالتّهم والظنون. وكذلك لو ظنّ برجل أنه يترك الغسل من الجنابة أو يترك الصلاة والصيام، لم يؤاخذه بالتّهم ولم يقابله بالإنكار. لكن يجوز له بالتهمة أن يعظ ويحذّر من عذاب الله تعالى على
إسقاط حقوقه والإخلال بمفروضاته. فإن رآه يأكل فى شهر رمضان لم يقدم على تأديبه إلا بعد سؤاله عن سبب أكله اذا التبست أحواله؛ فربما كان مريضا أو مسافرا. ويلزمه السؤال اذا ظهرت منه أمارات الرّيب. فإن ذكر من الأعذار ما تحتمله حاله، كفّ عن زجره وأمره بإخفاء أكله، لئلا يعرّض نفسه للتّهمة.
ولا يلزمه إحلافه عند الاسترابة بقوله، لأنه موكول الى أمانته. وإن لم يذكر عذرا، جاهر بالإنكار عليه وأدّبه أدب زجر. واذا علم عذره فى الأكل، أنكر عليه المجاهرة به، لتعريض نفسه للتّهمة ولئلا يقتدى به من ذوى الجهالة من لا يميّز حال عذره من غيره.
وأمّا الممتنع من إخراج زكاته، فإن كان من الأموال الظاهرة، فعامل الصّدقة بأخذها [1] منه جبرا أخصّ من المحتسب. وإن كان من الأموال الباطنة، فيحتمل أن يكون المحتسب أخصّ بالإنكار عليه من عامل الصدقة، لأنه لا اعتراض للعامل [2] فى الأموال الباطنة؛ ويحتمل أن يكون العامل بالإنكار عليه أخصّ، لأنه لو دفعها اليه أجزأه. ويكون تأديبه معتبرا بشواهد حاله فى الامتناع من إخراج زكاته. وإن ذكر أنه يخرجها، سرّا وكل الى أمانته فيها. وإن رأى رجلا يتعرّض لمسألة الناس وطلب الصّدقة وعلم أنه غنىّ إما بمال أو عمل، أنكره عليه وأدّبه. ولو رأى عليه آثار الغنى وهو يسأل الناس، أعلمه تحريمها على المستغنى عنها، ولم ينكر عليه، لجواز أن يكون فى الباطن فقيرا. واذا تعرّض للمسألة ذو جلد وقوّة على العمل، زجره وأمره أن يتعرّض للاحتراف بعمله؛ فإن أقام على المسألة عزّره حتى يقلع عنها. واذا دعت
[1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل «يأخذ منه» وهو تحريف.
[2]
فى الأصل: «فانه لا اعتراض على العامل
…
» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
الحال، عند إلحاح من حرّمت عليه [المسألة [1]] بمال أو عمل، أن ينفق على ذى المال جزءا من ماله، ويؤاجر ذا العمل وينفق عليه من أجرته، لم يكن للمحتسب أن يفعل ذلك بنفسه؛ لأن هذا حكم، والحكّام به أحقّ، فيرفع أمره الى الحاكم ليتولّى ذلك أو يأذن فيه. واذا وجد فيمن يتصدّى للعلوم الشرعيّة من ليس من أهلها من فقيه أو واعظ ولم يأمن اغترار الناس به فى سوء تأويل أو تحريف، أنكر عليه التّصدّى لما ليس [هو [2]] من أهله، وأظهر أمره لئلا يغترّ به. وإن أشكل عليه أمره، لم يقدم عليه بالإنكار إلا بعد الاختبار. وكذلك لو ابتدع بعض المنتسبين الى العلم قولا خرق به الإجماع وخالف النصّ وردّ قوله [3] علماء عصره، أنكره عليه وزجره فإن أقلع وتاب، وإلّا فالسلطان بتهذيب الدّين أحقّ. وإذا تفرّد [4] بعض المفسرين لكتاب الله عز وجل بتأويل عدل فيه عن ظاهر التنزيل الى باطن بدعة بتكلّف له أغمض معانيه، أو انفرد بعض الرّواة بأحاديث مناكير تنفر منها النفوس أو يفسد بها التأويل، كان على المحتسب إنكار ذلك والمنع منه. وهذا إنما يصحّ منه إنكاره اذا تميّز عنده الصحيح من الفاسد والحقّ من الباطل. وذلك بأحد وجهين: إما أن يكون بقوّته فى العلم واجتهاده فيه، فلا يخفى ذلك عليه؛ وإمّا باتّفاق علماء الوقت على إنكاره وابتداعه، فيستعدونه فيه، فيعوّل فى الإنكار على أقاويلهم، وفى المنع منه على اتّفاقهم.
وأمّا ما تعلّق بالمحظورات- فهو أن يمنع الناس من مواقف الرّيب ومظانّ لتّهم.
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دع ما يريبك الى
[1] زيادة عن الأحكام السلطانية.
[2]
زيادة عن الأحكام السلطانية.
[3]
فى الأصل: «وردّ قول علماء عصره أنكر
…
» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
[4]
فى الأحكام السلطانية. «واذا تعرّض
…
» .
ما لا يريبك»
. فيقدّم الإنكار، ولا يعجّل بالتأديب قبل الإنذار. وإذا رأى وقفة رجل مع امرأة فى طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الرّيب، لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار، فما يجد الناس بدّا من هذا. وإن كانت الوقفة فى طريق خال، فخلوّ المكان ريبة، فينكرها؛ ولا يعجّل فى التأديب عليهما حذرا من أن تكون ذات محرم.
وليقل: إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الرّيب، وإن كانت أجنبيّة فخف الله تعالى من خلوة تؤدّيك الى معصية الله. وليكن زجره بحسب الأمارات. وليستخبر.
فقد حكى أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بينا هو يطوف بالبيت اذ رأى رجلا يطوف وعلى عنقه امرأة مثل المهاة حسناء جميلة، وهو يقول:
عدت لهذى جملا ذلولا
…
موطّا أتّبع السّهولا
أعدلها بالكفّ أن تميلا
…
أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذاك نائلا جزيلا
فقال له عمر: يا عبد الله، من هذه التى وهبت لها حجّك؟ فقال: امرأتى يا أمير المؤمنين! وإنها حمقاء مرغامه، أكول قامّه، لا يبقى لها خامّه [1] ؛ فقال له:
مالك لا تطلّقها؟ فقال: إنها حسناء لا تفرك، وأمّ صبيان فلا تترك، قال: فشأنك بها. فلم يقدم عمر رضى الله عنه بالإنكار حتى استخبره، فلما انتفت عنه الرّيبة أقرّه على فعله.
واذا جاهر رجل بإظهار الخمر، فإن كان من المسلمين، أراقها وأدّبه؛ وإن كان ذمّيّا أدّب على إظهارها، واختلف فى إراقتها عليه، فذهب أبو حنيفة الى
[1] المرغامة: المغضبة لبعلها. وقامّة: من قمّ ما على الخوان اذا لم يدع عليه شيئا. وخامّة: من خمّ اللحم وغيره اذا تغير وفسد.
أنها [لا [1]] تراق عليه، لأنها عنده من أموالهم المضمونة فى حقوقهم. وذهب الشافعىّ الى إراقتها عليهم، لأنها لا تضمن عنده فى حقّ المسلم ولا الكافر.
وأمّا المجاهرة بإظهار النبيذ، فعند أبى حنيفة أنه من الأموال التى يقرّ المسلمون عليها، فمنع من إراقته [2] ومن التأديب على إظهاره. وعند الشافعىّ أنه ليس بمال كالخمر وليس فى إراقته غرم. فيعتبر ناظر الحسبة شواهد الحال فيه فينهى فيه [3] عن المجاهرة، ويزجر عليه إن كان لمعاقرة، ولا يريقه عليه، إلا أن يأمر بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد، لئلا يتوجّه عليه غرم إن حوكم فيه.
وأمّا السكران اذا تظاهر بسكره وسخف بهجره، ادّبه على السكر والهجر، تعزيرا لا حدّا، لقلة مراقبته وظهور سخفه.
وأما المجاهرة بإظهار الملاهى المحرّمة، فعلى المحتسب أن يفصلها حتى تصير خشبا لتخرج [4] عن حكم الملاهى، ويؤدّب على المجاهرة بها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهى.
وأمّا الّلعب فليس يقصد بها المعاصى، وإنما يقصد بها إلف البنات لتربية الأولاد، ففيها وجه من وجوه التدبير [تقارنه معصية، بتصوير ذوات الأزواج ومشابهة الأصنام؛ فللتمكين منها وجه، وللمنع منها وجه [1]] ؛ وبحسب ما تقتضيه
[1] التكملة عن الأحكام السلطانية.
[2]
فى الأصل «اراقتها» .
[3]
فى الأصل: «فينهى منه» وما أثبتناه عن الأحكام السلطانية.
[4]
فى الأصل: «تخرج
…
» من غير لام، وقد أثبتناها استنادا على الأحكام السلطانية الذى فيه:«لتزول» بدل «تخرج» .
شواهد الأحوال يكون إنكاره وإقراره. وقد كانت عائشة رضى الله عنها فى صغرها تلعب بالبنات بمشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكره عليها.
وأمّا ما لم يظهر من المحظورات [1] ، فليس للمحتسب أن يبحث عنها ولا أن يهتك الأستار فيها؛
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم حدّ الله عليه»
. فإن استتر أقوام لارتكاب محظور يخشى فواته مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلا خلا برجل ليقتله أو امرأة ليزنى بها، فيجوز له فى مثل هذه الحال أن يتجسّس ويقدم على الكشف والبحث، حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات. وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوّعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. وأمّا ما هو دون هذه الرتبة، فلا يجوز التجسّس عليه ولا كشف الأستار عنه. وإن سمع أصوات ملاه منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم، أنكرها خارج الدار ولم يهجم عليها بالدخول.
وأمّا ما تعلّق بالمعاملات المنكرة، كالرّبا والبيوع الفاسدة وما منع الشرع منه مع تراضى المتعاقدين به اذا كان متّفقا على حظره، فعلى والى الحسبة إنكاره والمنع منه والزجر عليه. وامره بالتأديب مختلف بحسب الأحوال وشدّة الحظر.
فأما ما اختلف الفقهاء فى حظره وإباحته، فلا مدخل له فى إنكاره، إلا أن يكون مما يضعف الخلاف فيه وكان ذريعة [الى محظور متّفق عليه- كربا النّقدين:
الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة الى ربا النّساء المتّفق على تحريمه- فهل يدخل فى إنكاره، أم لا. وكذلك فى عقود الأنكحة ينكر منها ما اتّفق الفقهاء على حظرها،
[1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل:«وأما ما لم يظهر بالمحظورات» .
ولا يتعرّض لما اختلف فيه، إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه وكان ذريعة الى محظور متفق عليه، كالمتعة فربما صارت ذريعة الى استباحة الزنا، ففى إنكاره لها وجهان.
ومما يتعلّق بالمعاملات غشّ المبيعات وتدليس الأثمان، فينكره ويمنع منه ويؤدّب عليه بحسب الحال فيه؛
فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس منّا من غشّ» وفى لفظ: «من غشّنا فليس منّا»
. فإن كان هذا الغشّ تدليسا على المشترى وهو مما يخفى عليه، فهو أغلظ الغشوش تحريما وأعظمها مأثما، والإنكار عليه أغلظ والتأديب أشدّ. وإن كان مما لا يخفى على المشترى، كان أخفّ مأثما وألين إنكارا.
وينظر فى المشترى: فإن كان اشتراه ليبيعه من [1] غيره، توجه الإنكار على البائع لغشّه، وعلى المشترى لابتياعه؛ لأنه قد يبيعه من لم [2] يعلم بغشه؛ وإن كان المشترى اشتراه ليستعمله، خرج من جملة الإنكار، واختص الإنكار بالبائع وحده. وكذلك فى تدليس الأثمان.
ويمنع من تصرية [3] المواشى وتحفيل ضروعها عند البيع، للنّهى عنه وأنه نوع من التدليس.
ومما هو عمدة نظره المنع من التطفيف والبخس فى المكاييل والموازين والصّنجات [4]، لوعيد الله تعالى عليه بقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ
[1] فى الأصل وفى نسخة من الأحكام السلطانية يشير اليها هامش التى بأيدينا: «ليبيعه على غيره» .
وقد أثبتناه ما فى النسخة التى بأيدينا لأنه هو الذى يقتضيه المقام.
[2]
فى الأصل: «قد يبيعه على من
…
» .
[3]
مصدر صرّى الناقة أو الشاة اذا حبس اللبن فى ضرعها ليكثر.
[4]
الصنجة والسنجة والسين أفصح: ما يوزن به كالأوقية والرطل، وجمعها صنجات كما أثبتنا استنادا الى ما فى الأحكام السلطانية وهو الوارد فى كتب اللغة، وفى الأصل:«الصنوج» .
يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
. وليكن الأدب عليه أظهر، والمعاقبة فيه أكثر. ويجوز له اذا استراب بموازين السّوقة ومكاييلهم أن يختبرها ويعايرها [1] .
ولو كان على ما عايره منها طابع معروف بين العامّة لا يتعاملون إلا به، كان أحوط وأسلم. فإن فعل ذلك وتعامل قوم بغير ما طبع عليه طابعه، توجّه الإنكار عليهم إن كان مبخوسا، من وجهين: أحدهما مخالفته فى العدول عن مطبوعه؛ وإنكاره لذلك من الحقوق السلطانية. والثانى للبخس والتطفيف؛ وإنكاره من الحقوق الشرعية.
وإن كان ما تعاملوا به من غير المطبوع سليما من بخس ونقص، فإنكاره لمجرّد حق السلطنة للمخالفة. وإن زوّر قوم على طابعه، كالبهرج على طابع الدنانير والدراهم، فإن قرن التزوير بغشّ، كان التأديب مستحقّا من الوجهين، وهو أغلظ وأشدّ؛ وإن سلم من الغش كان الإنكار لحق السلطنة خاصّة.
واذا اتّسع البلد حتى احتاج أهله الى عدّة من الكيّالين والوزّانين والنّقّاد، تخيّرهم ناظر الحسبة، ومنع أن ينتدب لذلك إلا من ارتضاه من الأمناء الثّقات. وكانت أجورهم من بيت المال إن اتّسع لها، فإن ضاق عنها قدّرها لهم، حتى لا تجرى [بينهم فيها [2]] استزادة أو نقصان، فيكون ذلك ذريعة الى الممايلة أو التّحيّف فى مكيل أو موزون. فإن ظهر من أحد ممن اختاره للكيل والوزن تحيّف فى تطفيف أو ممايلة فى زيادة، أدبّ وأخرج منهم ومنع من أن يتعرّض للوساطة بين الناس. وكذلك القول فى اختيار الدلّالين، يقرّ منهم الأمناء ويمنع الخونة.
واذا وقع فى تطفيف تخاصم، جاز أن ينظر المحتسب فيه إن لم يقترن به تجاحد وتناكر، فإن أفضى الى تجاحد وتناكر، كان القضاة أحق بالنظر فيه من ولاة الحسبة،
[1] فى الأصل: «ويعتبرها» ، والتصويب عن الأحكام السلطانية.
[2]
زيادة عن الأحكام السلطانية.
لأنهم أحق بالأحكام، وكان التأديب فيه الى المحتسب. فإن ولّاه الحاكم جاز، لاتّصاله بحكمه.
ومما ينكره المحتسب فى العموم ولا ينكره فى الخصوص والآحاد، التّبايع بما لم يألفه أهل البلد من المكاييل والأوزان التى لا تعرف فيه وإن كانت معروفة فى غيره.
فإن تراضى بذلك اثنان، لم يعترض عليهما بالإنكار والمنع، ويمنع من عموم التعامل بها، لأنه قد يعاملهم فيها من لا يعرفها فيصير مغرورا.
هذا ما يتعلّق بالنهى فى حقوق الله تعالى.
وأما النهى فى حقوق الآدميين المحضة- مثل أن يتعدّى رجل فى حد لجاره، أو حريم لداره، أو وضع أجذاع على جداره، فلا اعتراض للمحتسب فيه ما لم يستعده الجار، لأنه حقّ يخصّه يصحّ منه العفو عنه والمطالبة به؛ فإن خاصمه فيه الى المحتسب، نظر فيه، ما لم يكن بينهما تنازع وتناكر، وأخذ المتعدّى بإزالة تعدّيه؛ وكان تأديبه عليه بحسب شواهد الحال. فإن تنازعا كان الحاكم بالنظر فيه أحقّ. ولو أقرّ الجار جاره على تعدّيه وعفا عن مطالبته بهدم ما تعدّى فيه ثم عاد وطالب بذلك، كان ذلك له، وأخذ المتعدّى بعد العفو عنه بهدم ما بناه. وإن كان قد ابتدأ البناء ووضع الأجذاع بإذن الجار ثم رجع الجار فى إذنه، لم يؤخذ البانى بهدمه. وإن انتشرت أغصان شجرة الى دار جاره، كان للجار أن يستعدى المحتسب حتى يعديه على صاحب الشجرة، ليأخذه بإزالة ما انتشر من أغصانها فى داره؛ ولا تأديب عليه لأن انتشارها ليس من فعله. ولو انتشرت عروق الشجرة تحت الارض حتى دخلت فى قرار أرض الجار، لم يؤخذ بقلعها ولم يمنع الجار من التصرّف
فى قرار أرضه وإن قطعها. واذا نصب المالك تنّورا فى داره فتأذّى الجار بدخانه، لم يعترض عليه ولم يمنع منه. وكذلك لو نصب فى داره رحى أو وضع فيها حدّادين أو قصّارين، لم يمنع منه. واذا تعدّى مستأجر على أجير فى نقصان أجره أو زيادة عمل، كفّه عن تعدّيه؛ وكان الإنكار عليه معتبرا بشواهد حاله. ولو قصّر الأجير فى حق المستأجر فنقصه من العمل أو استزاده فى الأجرة، منعه منه وأنكره عليه اذا تخاصما اليه؛ فإن اختلفا وتناكرا، كان الحاكم بالنظر بينهما أحقّ.
ومما يؤخذ ولاة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع فى الأسواق ثلاثة أصناف:
منهم من يراعى عمله فى الوفور والتقصير، ومنهم من يراعى حاله فى الأمانة والخيانة، ومنهم من يراعى عمله فى الجودة والرّداءة.
فأمّا من يراعى عمله فى الوفور والتقصير فكالطبّ والتعليم، لأن الطب إقدام على النفوس يفضى التقصير فيه الى تلف أو سقم. وللمعلمين من الطرائق التى ينشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنه بعد الكبر عسيرا [1] ، فيقرّ منهم من توفّر علمه وحسنت طريقته، ويمنع من قصّر وأساء من التّصدّى لما تفسد به النفوس وتخبث به الآداب.
وأما من يراعى حاله فى الأمانة والخيانة، فمثل الصّاغة والحاكة والقصّارين والصبّاغين، لأنهم ربما هربوا بأموال الناس، فيراعى أهل الثقة والأمانة منهم فيقرّهم ويبعد من ظهرت خيانته، ويشهر أمره، لئلا يغترّ به من لا يعرفه. وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخصّ بالنظر فى أحوال هؤلاء من ولاة الحسبة؛ وهو الأشبه، لأن الخيانة تابعة للسّرقة.
[1] عبارة الأصل: «والمعلمين من الطرائق التى ينشأ الصغار عليها فيكون نقلهم عنه
…
» وفيها تحريف واضح. والتصويب عن الأحكام السلطانية.
وأمّا من يراعى عمله فى الجودة والرداءة فهو مما ينفرد بالنظر فيه ولاة الحسبة. ولهم أن ينكروا عليهم فى العموم فساد العمل ورداءته وان لم يكن فيه مستعد؛ وأما فى عمل مخصوص اعتمد الصانع فيه الفساد والتدليس، فاذا استعداه الخصم، قابل عليه بالإنكار والزجر، وإن تعلّق بذلك غرم روعى حال الغرم، فإن افتقر الى تقدير أو تقويم، لم يكن للمحتسب أن ينظر فيه، لافتقاره الى اجتهاد حكمىّ؛ وكان القاضى بالنظر فيه أحقّ. وإن لم يفتقر الى تقدير ولا تقويم واستحقّ فيه المثل الذى لا اجتهاد فيه ولا تنازع، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم والتأديب.
ولا يجوز أن يسعّر على الناس الأقوات ولا غيرها فى رخص ولا غلاء؛ وأجازه مالك- رحمه الله فى الأقوات مع الغلاء.
وأما النهى فى الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فكالمنع من الإشراف على منازل الناس. ولا يلزم من علىّ بناءه أن يستر سطحه، وإنما يلزمه ألّا يشرف على غيره. ويمنع أهل الذمة من تعلية أبنيتهم على أبنية المسلمين. فإن ملكوا أبنية عالية أقرّوا عليها ومنعوا من الإشراف منها على المسلمين وأهل الذمة.
ويأخذ أهل الذمة بما شرط فى ذمتهم [1] من لبس الغيار والمخالفة فى الهيئة وترك المجاهرة بقولهم فى عزير والمسيح. ويمنع عنهم من تعرّض لهم من المسلمين بسبّ أو أذى، ويؤدّب عليه من خالف فيه.
[1] كذا فى الأحكام السلطانية، وفى الأصل:«من ذمتهم» .
وإذا كان فى أئمة المساجد السّابلة والجوامع الحافلة [1] من يطيل الصلاة حتى يعجز الضعفاء وينقطع بها ذوو الحاجات، أنكر ذلك؛ فقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين أطال الصلاة بقومه: «أفتّان أنت يا معاذ»
. فإن أقام على الإطالة ولم يمتنع منها، لم يجز أن يؤدّبه عليها، ولكن يستبدل به من يخفّفها.
وإذا كان فى القضاة من يحجب الخصوم اذا قصدوه، ويمتنع من النظر بينهم اذا تحاكموا اليه، حتى تقف الاحكام ويتضرّر الخصوم، فللمحتسب أن يأخذه، مع ارتفاع الأعذار، بما ندب له من النظر بين المتحاكمين وفصل القضاء بين المتنازعين، ولا يمنع علوّ رتبته من إنكار ما قصّر فيه.
واذا كان فى سادة العبيد من يستعملهم فيما لا يطيقون الدوام عليه، كان منعهم والانكار عليهم موقوفا على استعداء العبيد، فاذا استعدوه منع حينئذ وزجر.
وان كان فى أرباب المواشى من يستعملها فيما لا تطيق الدوام عليه، أنكره المحتسب عليهم ومنعهم منه وإن لم يكن فيه مستعد اليه. فإن ادّعى المالك احتمال البهيمة لما يستعملها فيه، جاز للمحتسب أن ينظر فيه، لأنه وإن افتقر الى اجتهاد فهو عرف يرجع فيه الى عرف الناس، وليس باجتهاد شرعىّ. وللمحتسب الاجتهاد فى العرف.
واذا استعداه العبد من امتناع سيّده من كسوته ونفقته، جاز له أن يأمره بهما [2] ويأخذه بالتزامهما. ولو استعداه من تقصير سيّده فيهما، لم يكن له فى ذلك نظر ولا إلزام؛ [لأنه يحتاج فى التقدير الى اجتهاد شرعىّ، ولا يحتاج فى الزام [3]] الأصل الى اجتهاد شرعىّ، لأن التقدير غير منصوص عليه [ولزومه منصوص عليه [4]] .
[1] فى الأصل «والجوامع الحفلة» .
[2]
فى الأصل «بها» بضمير المفرد.
[3]
التكملة من الأحكام السلطانية.
[4]
التكملة من الأحكام السلطانية.
وللمحتسب أن يمنع أرباب السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف منه غرقها.
وكذلك يمنعهم من المسير عند اشتداد الريح. واذا حمل فيها الرجال والنساء، حجز بينهم بحائل. واذا اتّسعت السفن، نصب للنساء مخارج للبراز لئلا يتبرّجن عند الحاجة.
واذا كان فى أهل الأسواق من يختصّ بمعاملة النساء، راعى المحتسب سيرته وأمانته، فإذا تحقّقها منه، أقرّه على معاملتهن. وإن ظهرت منه الرّيبة وبان عليه الفجور، منعه من معاملتهن، وأدّبه على التعرّض لهن. وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخصّ بإنكار هذا والمنع منه من ولاة الحسبة، لأنه من توابع الزنا. وينظر والى الحسبة فى مقاعد الأسواق، فيقرّ منها ما لا ضرر على المارّة فيه، ويمنع ما استضرّوا به. ولا يقف منعه على الاستعداء اليه.
واذا بنى قوم فى طريق سابل، منع منه وإن اتّسع له الطريق، ويأخذهم بهدم ما بنوه ولو كان المبنىّ مسجدا؛ لأن مرافق الطّرق للسلوك لا للأبنية. واذا وضع الناس الأمتعة وآلات الأبنية فى مسالك الشوارع والأسواق ارتفاقا لينقلوه حالا بعد حال، مكّنوا منه إن لم يستضرّ به المارّة، ومنعوا منه إن استضرّوا به. وكذلك القول فى إخراج الأجنحة والسوابيط [1] ومجارى المياه وآبار الحشوش [2] ، يقرّ ما لم يضرّ، ويمنع ما ضرّ. ويجتهد المحتسب رأيه فيما ضرّ وما لم يضر، لأنه من الاجتهاد العرفىّ [دون الشرعىّ. والفرق بين الاجتهادين أنّ الاجتهاد الشرعىّ ما روعى فيه أصل ثبت حكمه بالشرع، والاجتهاد العرفىّ ما روعى فيه أصل ثبت حكمه بالعرف. ويوضح الفرق بينهما بتمييز ما يسوغ فيه اجتهاد المحتسب مما هو ممنوع من الاجتهاد [3] فيه] .
[1] السوابيط: جمع ساباط، والساباط: سقيفة بين دارين.
[2]
الحشوش: جمع حش مثلث الحاء، والحش: البستان. يطلق على بيت الخلاء كما هنا لما كان من عادتهم من التغوّط فى البساتين.
[3]
زيادة عن الأحكام السلطانية.
ولناظر الحسبة أن يمنع من ينقل الموتى من قبورهم إذا دفنوا فى ملك أو مباح، إلا من أرض مغصوبة، فيكون لمالكها أن يأخذ من دفنهم فيها بنقلهم منها.
واختلف فى جواز نقلهم من أرض قد لحقها سيل أو ندى، فجوّزه الزّبيرىّ وأباه غيره. ويمنع من خصاء الآدميين وغيرهم. ويؤدّب عليه؛ وإن استحقّ فيه قود أو دية استوفاه لمستحقّه ما لم يكن فيه تناكر وتنازع. ويمنع من خضاب الشّيب بالسواد إلا لمجاهد فى سبيل الله تعالى. ويؤدّب من يصبغ [1] به [للنساء] . ولا يمنع من الخضاب بالحنّاء والكتم [2] . ويمنع من التكسّب بالكهانة، ويؤدّب عليه الآخذ والمعطى.
وهذا فصل يطول شرحه، لأن المنكرات لا ينحصر عددها فتستوفى. وفيما تقدّم منها كفاية؛ والأحوال تؤخذ بنظائرها وأشباهها، فلا نطوّل بسردها.
وفقنا الله وإياك لصالح العمل، وجنّبنا موارد الخطأ ومصادر الزلل؛ وأعان كلّ وال على ما ولّاه، وكلّ راع على ما استرعاه، بمنّه وكرمه ولطفه.
[1] فى الأصل: «تصنع به» وهو تحريف، والتصويب والزيادة عن الأحكام السلطانية.
[2]
الكتم بالتحريك: من نبات الجبال، ورقه كورق الآس يخضب به مدقوقا وله ثمر كثمر الفلفل.
كمل الجزء السادس من كتاب «نهاية الأرب فى فنون الأدب» يتلوه- إن شاء الله تعالى- فى الجزء السابع الباب الرابع عشر من القسم الخامس من الفنّ الثانى فى الكتابة وما تفرّع منها