الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى القضاة والحكام
وحيث ذكرنا الإمام وما يجب له وعليه وقواعد المملكة، فلنذكر القضاة والحكّام.
قال الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً
، وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً
. وقال تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ
. وقال: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
، الى غير ذلك من الآى.
ولا يجوز أن يقلّد القضاء إلا من اجتمع فيه ثمانية شروط، وهى: الذكوريّة، والبلوغ، والعقل، والحرّيّة، والإسلام، والعدالة، وسلامة السمع والبصر، والعلم بأحكام الشريعة. ولكل شرط من هذه الشروط فوائد نشرح ما تلخّص منها إن شاء الله.
أما الذكورية- فلقوله عز وجل: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ
قيل: المراد بالتفضيل هنا العقل والرأى، ولما
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النّساء ناقصات عقل ودين»
، ولنقص النساء عن [رتب [1]] الولايات.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن تقضى المرأة فيما تصحّ فيه شهادتها دون ما لا تصحّ فيه.
وجوّز الطبرىّ قضاءها فى جميع الأحكام. والإجماع يردّ ذلك.
[1] الزيادة عن «الأحكام السلطانية» .
وأما البلوغ- فلأن غير البالغ لا يجرى عليه قلم، ولا يتعلّق بقوله على نفسه حكم، فكان أولى ألّا يتعلّق به على غيره.
وأما العقل-[فهو مجمع على اعتباره، و [1]] لا يكتفى فيه بالعقل الذى يصحّ معه التكليف من العلم بالمدركات الضروريّة، حتى يكون صحيح التمييز جيّد الفطنة بعيدا من السهو والغفلة، ليتوصّل بذكائه الى وضوح ما أشكل، وحلّ ما أبهم وأعضل.
وأما الحرّيّة- فنقص العبد عن ولاية نفسه يمنع من انعقاد ولايته على غيره، ولأن الرّقّ لمّا منع من قبول الشهادة كان أولى أن يمنع من نفوذ الحكم وانعقاد الولاية. وكذلك الحكم فيمن لم تكمل حرّيته كالمدبّر والمكاتب [2] ومن رقّ بعضه.
ولا يمنع الرقّ من الفتيا والرواية.
وأما الإسلام- فلقوله عز وجل: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
. وهو شرط فى قبول الشهادة. ولا يجوز أن يقلّد الكافر القضاء على المسلمين ولا على الكفار. ورأى أبو حنيفة جواز تقليده القضاء بين أهل دينه. وقد جرى العرف فى تقليد الكافر؛ وهو تقليد زعامة ورياسة لا تدخل تحته الأحكام والإلزام بقضائه، ولا يقبل الإمام قوله فيما حكم به بينهم. واذا امتنعوا من تحاكمهم إليه لم يجبروا عليه، وكان حكم الإسلام عليهم أنفذ.
وأما العدالة- فهى معتبرة فى كل ولاية. ومعناها أن يكون الرجل صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفا عن المحارم، متوقّيا للمآثم، بعيدا من الرّيب، مأمونا
[1] لم يظهر الخظ فى الأصل الفتوغرافى، وهذه التكملة من كتاب الأحكام السلطانية.
[2]
المدبر: العبد الذى يعلق سيده عتقه على موته بأن يقول له: أنت حر بعد موتى. والمكاتب:
العبد الذى يكاتب على نفسه بثمنه فاذا أدّاه عتق.
فى حالتى الرضا والغضب، مستعملا لمروءة مثله فى دينه ودنياه. فإذا تكاملت هذه الأوصاف فيه، فهى العدالة التى تجوز بها شهادته وولايته. وإذا لم يكن كذلك فلا تسمع شهادته و [لا [1]] تنفّذ أحكامه.
وأما سلامة السمع والبصر- فليصحّ بها إثبات الحقوق، ويفرّق بها بين الطالب والمطلوب، ويميّز المقرّ من المنكر، ليظهر له الحق من الباطل، والمحقّ من المبطل.
وأما العلم بأحكام الشريعة- فالعلم بها يشتمل على معرفة أصولها وفروعها.
وأصول الأحكام فى الشرع أربعة:
أحدها- علمه بكتاب الله عز وجل على الوجه الذى يصح به معرفة ما تضمّنه من الأحكام ناسخا ومنسوخا، ومحكما ومتشابها، وعموما وخصوصا، ومجملا ومفسّرا.
والثانى- علمه بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله، وطرق مجيئها فى التواتر والآحاد، والصّحة والفساد، وما كان على سبب أو إطلاق.
والثالث- علمه بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه واختلفوا فيه، ليتّبع الإجماع ويجتهد رأيه مع الاختلاف.
والرابع- علمه بالقياس الموجب لردّ الفروع المسكوت عنها الى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها، حتى يجد طريقا الى العلم بأحكام النوازل ويميّز الحقّ من الباطل.
فاذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة فى أحكام الشريعة، صار بها من أهل الاجتهاد فى الدين، وجاز له أن يفتى ويقضى. وإن أخلّ بها أو بشىء منها، خرج من أن
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.
يكون من أهل الاجتهاد، ولم يجز أن يفتى ولا أن يقضى. فان قلّد القضاء فحكم بصواب أو خطإ كان تقليده باطلا، وحكمه وإن وافق الصواب مردودا، وتوجّه الحرج عليه وعلى من قلّده. وجوّز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد، ويستفتى فى أحكامه وقضاياه.
هذا معنى ما قاله أقضى القضاة أبو الحسن على الماوردىّ.
وقال الحسين الحليمىّ فى كتابه المترجم ب «المنهاج» : وينبغى للإمام ألّا يولّى الحكم بين الناس إلا من جمع إلى العلم السكينة والتثبّت، والى الفهم الصبر والحلم، وكان عدلا أمينا نزها عن المطاعم الدنيّة، ورعا عن المطامع الرديّة؛ شديدا قويّا فى ذات الله، متيقّظا متخوّفا من سخط الله؛ ليس بالنّكس الخوّار فلا يهاب، ولا المتعظّم الجبّار فلا ينتاب؛ لكن وسطا خيارا. ولا يدع الإمام مع ذلك أن يديم الفحص عن سيرته، والتعرّف بحالته وطريقته؛ ويقابل منه ما يجب تغييره بعاجل التغيير، وما يجب تقريره بأحسن التقرير؛ ويرزقه من بيت المال- إن لم يجد من يعمل بغير رزق- ما يعلم أنه يكفيه؛ ولا يقصّر به عن كفايته، فيتطّلع الى أموال الناس ويشتغل عن أمورهم بطرف من الاكتساب يجبر به ما نقصه الإمام من كفايته، فتختلّ بذلك القواعد. وإذا رزق [الإمام] القاضى فلا يصيب وراء ذلك من رعيّته شيئا، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من استعملناه على عمل من أعمالنا ورزقناه شيئا فما أصاب بعد ذلك- أو مما سوى ذلك- فهو سحت» . وإن أهدى إليه شىء، لم يكن له قبوله. فإن كان للمهدى قبله خصومة فأهدى ليحكم له أو لئلّا يحكم عليه، فهذا هو الرّشوة، وهو سحت. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّاشى والمرتشى والرائش؛ وهو الذى يمشى بينهما. وإن أهدى اليه المحكوم له بعد الحكم تشكّرا، لا يقبله؛ لأنّ ما فعل كان واجبا عليه.