الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخامس: أن وزير التفويض لا ينعزل إن كفّ وترك، حتى يستعفى ويعفيه الملك منها، لأنه مستودع الأعمال فلزمه ردّها إلى مستحقّها، ووزير التنفيذ يجوز أن ينعزل بعزل نفسه بالكفّ والمتاركة، لأنه لا شىء بيده فيؤخذ بردّه.
والسادس: أن وزير التفويض يفتقر إلى كفاية بالسيف والقلم، لنهوضه بما أوجبهما، ووزارة التنفيذ غير مفتقرة إليهما لقصورها عنهما.
ويعتبر فى وزير التنفيذ ستة أوصاف: وهى الأبّهة والمنّة والهمّة والعفّة والمروءة وجزالة الرأى. وهذه الأوصاف معتبرة فى كل مدبّر ذى رياسة.
ذكر حقوق الوزارة وعهودها ووصايا الوزراء
أما حقوق الوزارة- فهى أن تقلّد لمن اجتمعت فيه ثمانية أوصاف، وهى التى ذكرها الماوردىّ فى قوانين الوزارة، وبيّنها بالنص والتعيين لا بالتعريض والإشارة:
فأحدها: أن يكون بأعباء الوزارة ناهضا، وفى مصالح المملكة راكضا؛ يقدّم حظّ الملك على حظ نفسه ويعلم أن صلاحه مقترن بصلاحه؛ فلن تستقيم أحوال الوزير مع اختلال أحوال الملك، لأن الفروع إنما تستمدّ من أصولها.
والثانى: أن يكون على الكدّ والتعب قادرا، وفى السخط والرضا صابرا؛ لا ينفر ان أوحش، فإن نفوره عطب. وليتوصل إلى راحته بالتعب، والى دعته بالنصب.
وقد قيل: علّة الراحة قلّة الاستراحة. وقال عبد الحميد: أتعب قدمك، فكم تعب قدّمك!. فإن تشاغل الوزير براحته، ومال إلى لذّته، سلبهما بالتنكّر، وعدمهما بالتغيّر.
والثالث: أن يكون لإحسان الملك شاكرا، ولإساءته عاذرا، يشكر على يسير الإحسان، ويعذر على كثير الإساءة، ليستمدّ بالشكر إحسانه، ويستدفع بالعذر إساءته. فإن عدل عنهما، كان منه على ضدّهما. فقد قيل: أحق الناس بالمنع الكفور، وبالصنيعة الشّكور.
والرابع: أن يظهر محاسنه إن خفيت، ويستر مساويه إن ظهرت، لأنه بمحاسنه موسوم وبمساويه مقروف، يشاركه فى حمد محاسنه، ويؤاخذ بذمّ مساويه.
وربما استرسل الملك لثقته بالاحتجاب، فارتكب بالهوى ما يصان عن إذا عته، فكان الوزير أحقّ بستره عليه، لأنه الباب المسلوك منه إليه.
والخامس: أن تخلص نيّته فى طاعته، ويكون سرّه كعلانيته، فإن القلوب جاذبة تملك أعنة الأجساد؛ فإن اتفقا، وإلا فالقلب أغلب، وإلى مراده أجذب.
والقلوب تنمّ على الضمائر فتهتك أستارها وتذيع أسرارها.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فى [1] ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح الجسد وإذا فسدت فسد الجسد ألا وهى القلب»
. والسادس: ألّا يعارض الملك فيمن قرّب واستبطن، ولا يماريه فيمن حطّ ورفع؛ فإنه يتحكّم بقدرته ويأنف من معارضته. فربما انقلب بسطوته إذا عورض، ومال بانتقامه إذا خولف. فبوادر الملك تسبق نذيرها، وتدحض أسيرها؛ فإن سلم من الخطر لم يسلم من الضجر.
[1] كذا فى الأصل وفى قوانين الوزارة. غير أن الأصل لم تذكر به كلمة «الجسد» فى الموضعين، ونصه فى البخارىّ من حديث طويل «ألا وإنّ فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب» وفى النهاية لابن الأثير «إنّ فى ابن آدم مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله» .
والسابع: أن يتقاصر عن مشاكلة الملك فى رتبته، ويقبض نفسه عن مثل هيئته، فلا يلبس مثل ملابسه، ولا يركب مثل مراكبه، ولا يستخدم مثل خدمه؛ فإن الملك يأنف إن موثل، وينتقم إن شوكل، ويرى أن ذلك من أمواله المحتاجة، وحشمته المستباحة. وليقتصر على نظافة لباسه وجسده من غير تصنّع، فإن النظافة من المروءة، والتّصنّع للنساء؛ ليكون بالسلامة محفوظا، وبالحشمة ملحوظا.
والثامن: أن يستوفى للملك ولا يستوفى عليه، ويتأوّل له ولا يتأول عليه؛ فإن الملك إذا أراد الإنصاف كان عليه أقدر، وإن لم يرده فيد الوزير معه أقصر؛ وإنما أراد الوزير عونا لنفسه ولم يرده عونا عليها. فإن وجد إلى مساعدته سبيلا سارع إليها، وإن خاف ضررها وانتشار الفساد بها تلطّف فى كفّه عنها إن قدر. فإن تعذّر عليه تلطّف فى الخلاص منها؛ ولا يجهر بالمخالفة. سئل بعض حكماء الروم عن أصلح ما عوشر به الملوك، فقال: قلة الخلاف وتخفيف المؤنة. والملوك لا يصحبون [1] إلا على اختيارهم، ولا يتمسّكون إلا بمن وافقهم على آرائهم. وإذا روعيت أحوال الناس وجدوا لا يأتلفون إلا بالموافقة، فكيف الملوك! قال شاعر:
الناس إن وافقتهم عذبوا
…
أو لا فإنّ جناهم مرّ
كم من رياض لا أنيس بها
…
تركت لأنّ طريقها وعر
وأما عهودها ووصاياها- فلم أر فيما طالعته فى هذا المعنى أشمل ولا أكمل ولا أنفع ولا أجمع من كلام لأبى الحسن الماوردىّ؛ فلذلك أوردته بفصّه، وأتيت على أكثر نصّه.
[1] فى الأصل: «لا تصحب» وهو وإن صح الا أنه لا يتناسب مع الضمائر التى بعده.
قال الماوردى: فأما العهود الموقظة فسأقول، وأرجو أن يقترن بالقبول:
اجعل أيها الوزير لله تعالى على سرّك رقيبا يلاحظك من زيغ فى حقه، واجعل لسلطانك على خلوتك رقيبا يكفّك عن تقصير فى أمره؛ ليسلم دينك فى حقوق الله تعالى، وتسلم دنياك فى حقوق سلطانك، فتسعد فى عاجلتك وآجلتك. فإن تنافى اجتماعهما لك فقدّم حقّ الله تعالى على حق الملك. فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته ومن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه [فآثروا [1] ما يبقى على ما يفنى] »
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من التمس رضا الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس»
. قال: حقّ [2] عليك أيها الوزير أن تكون بأمور الناس خبيرا، وإلى أحوالهم متطلّعا، وبهم على نفسك وعليهم مستظهرا، لأنهم من بين من تسوسه أو تستعين به، لتعلم ما فيهم من فضل ونقص وعلم وجهل وخير وشرّ، وتتحرّز من غرور المتشبه [3] وتدليس المتصنّع؛ فتعطى كل واحد حقّه، ولا تقصّر بذى فضل، ولا تعتمد على ذى جهل.
فقد قيل: من الجهل صحبة ذوى الجهل، ومن المحال مجادلة ذوى المحال. وافرق بين الأخيار والأشرار، فإنّ ذا الخير يبنى، وذا الشرّ يهدم. واحذر الكذوب فلن ينصحك من غشّ نفسه؛ ولن ينفعك من ضرّها. ولا تستكفين عاجزا فيضيّع العمل، ولا شرها فيضرّك باحتجانه [4] . ولا تعبأ بمن لا يحافظ على المروءة، فقلما تجد فيه خيرا؛ لزهده فى صيانة النفس وميله إلى خمول القدر. وبعيد ممن أسقط حق
[1] تتمة الحديث عن قوانين الوزارة وعن الجامع الصغير.
[2]
كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «حقيق» وهو غير ملائم لما هنا.
[3]
كذا فى قوانين الوزارة، ولعل المتشبه: من يظهر بغير ما فطر عليه من صفات ومواهب، بأن يظهر مظهر ذى الكفاية والفضل وليس به. وفى الأصل:«المشيه» وهو تحريف.
[4]
احتجن المال: ضمه لنفسه واحتواه.
نفسه أن يقوم بحق غيره، وصعب على من ألف إسقاط التكلف أن يحول عنه.
وقد قيل فى حكم الهند: ذو المروءة يرتفع بها، وتاركها يهبط؛ والارتقاء صعب والانحطاط هين، كالحجر الثقيل الذى رفعه عسير وحطّه يسير.
وقال بعض البلغاء: أحسن رعاية ذوى الحرمات، وأقبل على أهل المروءات؛ فإن رعاية [ذوى [1]] الحرمة تدلّ على كرم الشيمة، والإقبال على ذوى المروءة يعرب عن شرف الهمة [2] . إختبر أحوال من استكفيته لتعلم عجزه من كفايته، وإحسانه من إساءته؛ فتعمل بما علمت من إقرار الكافى وصرف العاجز، وحمد المحسن وذمّ المسىء. فقد قيل: من استكفى الكفاة، كفى العداة. فإن التبست عليك [أمورهم [3]] أوهنت الكافى وسلّطت العاجز، وأضعت المحسن وأغريت المسىء. ولأن يكون العمل خاليا فتصرف إليه فكرك أولى من أن يباشره عاجز أو خائن فيقبح بهما أثرك.
فاحذر العاجز فإنه مضيّع، وتوقّ الخائن فإنه يكدح لنفسه. قال شاعر:
إذا أنت حمّلت الخؤون أمانة
…
فإنك قد أسندتها شرّ مسند
اقتصر فى أعوانك بحسب حاجتك إليهم. ولا تستكثر منهم لتكثر بهم. فلن يخلو الاستكثار من تنافر يقع به الخلل، أو اتّفاق يستأكل به العمل. وليكن أعوانك وفق أعمالك، فإنه أنظم للشّمل وأجمع للعمل وأبلغ فى الاجتهاد وأبعث على النصح.
قال ابن الرومى:
عدوّك من صديقك مستفاد
…
فلا تستكثرنّ من الصّحاب
فإنّ الداء أكثر ما تراه
…
يكون من الطعام أو الشراب
[1] التكملة عن قوانين الوزارة.
[2]
كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل:«والإقبال على ذوى المروءة يعرف من شرف المروءة» .
[3]
التكملة عن قوانين الوزارة.
فدع عنك الكثير فكم كثير
…
يعاف وكم قليل مستطاب
فما اللّجج الملاح بمرويات
…
وتلقى الرّىّ فى النّطف العذاب
هذّب نفسك من الدنس تتهذب جميع أتباعك. ونزّه نفسك عن الطمع تتنزه جميع خلفائك. وتوقّ الشره فلن يزيدك إلا حرصا إن أجديت، ونقصا إن أكديت [1] ، وهما معرّة ذى الفضل ومضرّة أولى الحزم.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتربت [2] الساعة ولا يزداد الناس فى الدنيا إلا حرصا ولا تزداد منهم إلا بعدا»
. رض نفسك عن الطمع يتنزه جميع عمّالك، وتنتظم بك جميع أعمالك [3] . ولا تكل إلى غيرك ما تختصّ بمباشرته [4] طلبا للدّعة، فتعزل عنه نفسك وتؤثر به غيرك؛ فتكون من وفائه على غدر، ومن نفسك على تقصير. قال بزرجمهر: إن يكن الشغل مجهدة، فإن الفراغ مفسدة. وقال عبد الحميد: ما زانك ما أضاع زمانك، ولا شانك ما أصلح شانك.
اجعل زمان فراغك مصروفا إلى حالتين: إحداهما راحة جسدك وإجمام خاطرك، ليكونا عونا لك على نظرك. والثانية أن تفكر بعد راحة جسدك وإجمام خاطرك فيما قدّمته من أفعالك، وتصرّفت فيه من أعمالك: هل وافقت الصواب
[1] أجدى: أصاب الجدوى وظفر بما يريد. والجدوى: العطية. وأكدى: أخفق ولم يظفر بحاجته، أى ان الشره يزيد صاحبه مع الفوز حرصا، ومع الإخفاق نقصا.
[2]
نصه فى الجامع الصغير: «اقتربت الساعة ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا ولا يزدادون من الله إلا بعدا» . وفى مسند الفردوس للديلمىّ كرواية الاصل إلا أنه يتفق مع رواية الجامع الصغير فى «على الدنيا» بدل «فى الدنيا» .
[3]
كذا فى الاصل والذى فى قوانين الوزارة: «رض نفسك بمشارفة الأعمال يرهبك جميع عمالك وينتظم به جميع أعمالك» .
[4]
فى قوانين الوزارة: «ما يختص بمباشرتك
…
» .
فيه فتقوّيه وتجعله مثالا تحتذيه، أو نالك فيها زلل فتستدرك منه ما أمكن، وتنتهى عن مثله فى المستقبل. فقد قيل: من فكّر أبصر. وقال بعض البلغاء: من لم يكن له من نفسه واعظ، لم تنفعه المواعظ.
اخفض جناحك لمن علا، ووطّئ كنفك لمن دنا، وتجاف [عن [1]] الكبر تملك من القلوب مودّتها، ومن النفوس مساعدتها. فقد قيل لحكيم الروم: من أضيق الناس طريقا، وأقلّهم صديقا؟ قال: من عاشر الناس بعبوس وجهه، واستطال عليهم بنفسه. ولذلك قيل: التواضع فى الشرف، أشرف من الشرف.
كن شكورا فى النعمة، صبورا فى الشدّة، لا تبطرك السراء، ولا تدهشك الضراء؛ لنتكافأ أحوالك، وتعتدل خصالك؛ فتسلم من طيش البطر وحيرة الدّهش. فقد قال بعض الحكماء: اشتغل بشكر النعمة عن البطر بها. وقيل فى أمثال الهند: العاقل لا يبطر بمنزلة أصابها ولا شرف وإن عظم، كالجبل الذى لا يتزلزل وإن اشتدّت الرياح، والسخيف تبطره أدنى منزلة كالحشيش الذى تحرّكه أدنى ريح.
استدم مودّة وليّك بالإحسان [إليه [2]] ، واستسلّ سخيمة عدوّك بعد الاحتراز منه، وداهن من يجاهرك بعداوتك. فقد قيل لبعض الحكماء: ما الحزم؟ قال: مداجاة الأعداء، ومؤاخاة الأكفاء. ولا تعوّل على التهم والظنون [واطّرح الشك باليقين [3]] .
فقد قيل: لا يفسدك الظن على صديق قد أصلحك اليقين له. قال شاعر:
إذا أنت لم تبرح تظنّ وتقتضى
…
على الظن أردتك الظنون الكواذب
واختبر من اشتبهت حاله عليك، لتعلم معتقده فيك، فتدرى أين تضعه منك؛ فإن الألسن لا تصدق عن القلوب؛ لما يتصنّعه المداجى ويتكلّفه المداهن. وشهادات
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[3]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
القلوب أصدق، ودلائل النفوس أوثق. فإن وقفت بك الحال على الارتياب، اعتقدت المودّة فى ظاهره، وأخذت بالحزم فى باطنه. وإذا أقنعك الإغضاء عن الاختبار فلا تتخطّه، فأكثر الأمور تمشى على التغافل والإغضاء. فقد قال أكثم بن صيفىّ:
من تشدّد نفرّ، ومن تراخى تألّف، والسّرو [1] فى التغافل. ولقلما جوهر المغضى وقوطع المتغافل، مع انعطاف القلوب عليه، وميل النفوس إليه. وهذا من أسباب السعادة وحسن التوفيق.
شاور فى أمورك من تثق منه بثلاث خصال: صواب الرأى، وخلوص النية، وكتمان السرّ. فلا عار عليك أن تستشير من هو دونك إذا كان بالشورى خبيرا؛ فإن لكل ذى عقل ذخيرة من الرأى وحظّا من الصواب، فتزداد برأى غيرك [وإن كان رأيك [2]] جزلا، كما يزداد البحر بموادّه من الأنهار وإن كان غزيرا. وقد يفضل المستشير على المشير؛ ويظفر المشير بالرأى، لأنها ضالّة يظفر بها من وجدها من فاضل ومفضول. وعوّل على استشارة من جرّب الأمور وخبرها، وتقلّب فيها وباشرها، حتى عرف مواردها ومصادرها، فلن يخفى عليه خيرها وشرها، ما لم يوهنه ضعف الهرم.
واعدل عن استشارة من قصد موافقتك متابعة لهواك، أو اعتمد مخالفتك انحرافا عنك، وعوّل على من توخّى الحق لك وعليك. فقد قيل فى قديم الحكم: من التمس الرّخص من الإخوان فى الرأى، ومن الأطبّاء فى المرض، ومن الفقهاء فى الشّبه، أخطأ الرأى، وزاد فى المرض، واحتمل الوزر. ولا تؤاخذ من استشرت بدرك [3] الرأى
[1] فى الأصل «والسرور فى التغافل» وفى «كتاب التاج فى أخلاق الملوك» طبع المطبعة الأميرية ص 57 و 103: «السر والتغافل» فكلمة «السرور» فى الأصل محرفة عن السرو. والسرو: السخاء فى مروءة.
[2]
التكملة عن قوانين الوزارة.
[3]
الدرك: التبعة.
إن زلّ، فما عليه إلا الاجتهاد وإن حجزته الأقدار عن الظّفر. فقد قيل فى منثور الحكم: من كثر صوابه لم يطّرح لقليل الخطأ.
اختر لأسرارك من تثق بدينه وكتمانه، وتسلم من إذاعته وإدلاله، ولو قدرت ألّا تودع سرك غيرك، كان أولى بك وأسلم لك؛ لأنك فيها بين خطر أو حذر.
وقد قيل فى منثور الحكم: انفرد بسرك ولا تودعه حازما فيزلّ، ولا جاهلا فيخون.
تثبّت فيما لا تقدر على استدراكه؛ فقلّما تعقب العجلة إلا ندما.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تأنّى أصاب أو كاد ومن عجل أخطأ أو كاد»
. وقيل فى حكمة آل داود: من كان ذا تؤدة وصف بالحكمة.
وقدّم ما قدرت عليه من المعروف، فقلما يعقب الريث إلا فواتا؛ فإن للقدرة غاية، ولنفوذ الأمر نهاية [1] ، فاغتنمها فى مكنتك تسعد بما قدّمته، ويسعد بك من أعنته.
قال علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه: انتهزوا الفرصة فإنها تمرّ مرّ السحاب.
وقال بعض الحكماء: من أخّر الفرصة عن وقتها، فليكن على ثقة من فوتها.
واحذر قبول المدح من المتملّقين، فإن النّفاق مركوز فى طباعهم، ويداجونك بهيّن عليهم [2] ؛ فإن نفّقوا عليك غششت نفسك، وداهنت حسّك؛ وأنت أعرف بنفسك من غيرك فيما تستحق به حمدا أو ذمّا. فناصح نفسك بما فيها، فإنك أعلم بمحاسنها ومساويها. فقد قيل فيما أنزل الله تعالى من الكتب السالفة: «عجب لمن قيل فيه الخير وليس فيه كيف يفرح! وعجب لمن قيل فيه الشر وهو فيه كيف
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «ولنفوذ القدر
…
» .
[2]
كذا فى قوانين الوزارة. ولعل المراد بالهين عليهم: المدح الذى لا يكلفهم شيئا. وفى الأصل:
«ويد اخوتك تهون عليهم» وهو ظاهر التحريف.
يغضب!» . وقال بعض البلغاء: من أظهر شكرك فيما لم تأت إليه فاحذره أن يكفر نعمك فيما أسديت إليه. ففوّض مدحك إلى أفعالك، فإنها تمدحك بصدق إن أحسنت، وتذمّك بحقّ إن أسأت. ولا تغترّ بمخادعة اللسان الكذوب. فقد قيل: أبصر الناس من أحاط بذنوبه، ووقف على عيوبه. وكتب حكيم الروم إلى الإسكندر: لا ترغب فى الكرامة التى تنالها من الناس كرها، ولكن فى التى تستحقّها بحسن الأثر وصواب التدبير.
اعتمد بنظرك إحماد سلطانك وشكر رعيتك، تكن أيّامك سعيدة، وأفعالك محمودة، والناس بك مسرورين، ولك أعوانا مساعدين؛ ويبقى بعدك [فى الدنيا [1]] جميل أثرك، وفى الآخرة جزيل أجرك. واستعذ بالله من صدّها فتعدل بك إلى ضدّها، فإن الولايات كالمحكّ تظهر جواهر أربابها، فمنهم نازل مرذول ومنهم صاعد مقبول.
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحسنوا جوار نعم الله فقلما زالت عن قوم فعادت إليهم»
. وتعرّض رجل ليحيى بن خالد وهو على الجسر بكتاب وسأله أن يختمه؛ فقال: يا غلام اختم كتابه ما دام الطين رطبا، ثم أنشد:
إذا هبّت رياحك فاغتنمها
…
وجد فلكلّ [2] خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها
…
فما تدرى السكون متى يكون
إذا نلت من سلطانك حظّا، وأوجبت عليه بخدمتك حقّا، فلا تستوفه، ودع لنفسك بقيّة يدّخرها لك ويراها حقا من حقوقك، ويكون كفيل أدائها إليك. فإن استوفيتها برئ وصرت إلى غاية ليس بعدها إلا النقصان. قال الشاعر:
إذا تمّ أمر بدا نقصه
…
توقّع زوالا إذا قيل تمّ
[1] زيادة من قوانين الوزارة.
[2]
فى قوانين الوزارة: «فإن لكل
…
» .
واعلم أنك مرصد لحوائج الناس، لأنّ بيدك أزمّة الأمور وإليك غاية الطلب، فكن عليها صبورا، تكن بقضائها مشكورا؛ ولا تضجر على طالبها وقد أمّلك، ولا تنفر عليه إذا راجعك؛ فما يجد الناس من سؤالك بدّا. ولخير دهرك أن ترى مرجوّا.
قال أبو بكر بن دريد:
لا تدخلنّك ضجرة من سائل
…
فلخير دهرك أن ترى مسئولا
لا تجهن بالردّ وجه مؤمّل
…
فبقاء عزّك أن ترى مأمولا
واعلم بأنك عن قليل صائر
…
خبرا فكن خبرا يروق جميلا
وقد قيل فى الصحف الأولى: القلب الضيق لا تحسن به الرياسة، والرجل اللئيم لا يحسن به الغنى. ولئن كانت الحوائج كالمغارم لمن استثقلها فهى مغانم لمن وفّق لها.
روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما عظمت [1] نعمة الله على عبد إلا عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل مؤنة الناس عرّض تلك النعمة للزوال»
. واذا جعلت الوزارة غايات الأمور إليك، وحوائج الناس واقفة عليك، والقدرة لك مساعدة، لانبساط يدك ونفوذ أمرك، صرت بالتوقّف والإعراض مخلّا بحقوق نظرك، وآسفا على فوات مكنتك. فقد قال بهرام جور فى عهده الى ملوك فارس: إنكم بمكان لا مصرف للناس عن حوائجهم إليكم، فلتتّسع صدوركم كاتّساع سلطانكم. قال علىّ بن الجهم:
إذا جدّد الله لى نعمة
…
شكرت ولم يرنى جاحدا
[1] كذا فى الأصل وقوانين الوزارة. ونصه فى الجامع الصغير: «ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتدّت عليه مؤنة الناس فمن لم يحتمل تلك المؤنة للناس فقد عرض تلك النعمة للزوال»
ولم يزل الله بالعائدات
…
على من يعود [1] بها عائدا
أيا جامع المال وفّرته
…
لغيرك إذ لم تكن خالدا!
فإن قلت أجمعه للبنين
…
فقد يسبق الولد الوالدا
وإن قلت أخشى صروف الزمان
…
فكن فى تصاريفه واحدا
فاجعل يومك أسعد من أمسك، وصلاح الناس عندك كصلاح نفسك. ومل إلى اجتذاب القلوب بالاستعطاف، وإلى استمالة النفوس بالإنصاف، تجدهم كنزا فى شدائدك، وحرزا فى نوائبك.
احذر دعوة المظلوم وتوقّها، ورقّ لها إن واجهك بها، ولا تبعثك العزّة على البطش فتزداد ببطشك ظلما، وبعزتك بغيا. وحسبك بمنصور عليك الله ناصره منك.
كن عن الشهوات [2] عزوفا تنفكّ من أسرها، فإنّ من قهرته الشهوة كان لها عبدا، ومن استعبدته ذلّ بها.
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن أشفق من النار لها عن الشهوات»
. وقيل لبعض حكماء الروم: ما الملك الأعظم؟ قال: أن يغلب الإنسان شهوته.
وكن بالزمان خبيرا تسلم من عثرته؛ فإنّ الاغترار به مرد. وقدم لمعادك ليبقى عليك ما ذخرته، فلن تجد إلا ما قدّمته؛ وإنك لتجازى بما صنعت. واستقلّ الدنيا تجد فى نفسك عزّا، فترضى اذا سخطت، وتسرّ اذا حزنت؛ فلن يذلّ إلا طالبها، ولن يحزن إلا صاحبها. فقد قال بعض الحكماء: ليكن طلبك الدنيا اضطرارا،
[1] فى قوانين الوزارة: «على من يجود بها عائدا» .
[2]
فى الأصل وقوانين الوزارة: «كن للشهوات عزوفا» وعزف وما اشتق منه يتعدى الى المعمول بالحرف «عن» .