الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر صفة الوزارة وشروطها
قال أقضى القضاة أبو الحسن علىّ بن محمد بن حبيب الماوردىّ: والوزارة ضربان: وزارة تفويض تجمع بين كفايتى السيف والقلم، ووزارة تنفيذ تختصّ بالرأى والحزم. ولكل واحدة منهما حقوق وشروط.
فأما وزارة التفويض فهى: الاستيلاء على التدبير بالعقد، والحلّ، والتقليد والعزل. فأما العقد فيشتمل على شرطين: تنفيذ [1] وإقدام. [وأما الحلّ [2]] فيشتمل على شرطين: دفاع وحذر. وكلّ شرط من هذه الأربعة الشروط يشتمل على فصول.
فأما الشرط الأول، وهو التنفيذ، فهو أسّ [3] الوزارة وقاعدة النيابة، وهو الأخصّ بكفاية القلم فى مصالح الملك واستقامة الأعمال. ويشتمل على أربعة أقسام:
الأوّل- تنفيذ ما صدرت به أوامر الملك. وعلى الوزير فيها حقّان: أحدهما أن يتصفّحها من زلل فى ابتدائها، ويحرسها من خلل فى أثنائها [4] ؛ ليردّه عن زللها باللطف، ويقوّى عزمه على صوابها بالإحماد. وقد قال أفلاطون: أوّل رياضة الوزير أن يتأمّل أخلاق الملك ومعاملته، فإن كانت شديدة فظّة عامل الناس بدونها، وإن كانت ليّنة مطلقة عاملهم بأقوى منها، ليقرب من العدل فى سعيه. والثانى:
[1] كذا يؤخذ من «قوانين الوزارة» وهو ما يقتضيه سياق التقسيم الآتى. وفى الأصل: «دفاع وإقدام» .
[2]
التكملة عن قوانين الوزارة، ومكانها فى الأصل بياض.
[3]
كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «فالشرط الأول وهو التنفيذ وهو أس
…
الخ» .
[4]
فى الأصل: «فى انتهائها» وما أثبتناه هنا عن قوانين الوزارة، وهو ما يقتضيه المعنى، إذ لا معنى للحراسة فى الانتهاء.
تعجيل إمضائها للوقت المقدّر لها حتى لا يقف فيوحش، [لأن وقوف أوامره يوحش [1]] وهو مندوب للتنفيذ دون الوقوف. وقد قال حكيم الهند: العجلة فى الأمر خرق، وأخرق منه التفريط فى الأمر بعد القدرة عليه. ودرك [2] هذا التنفيذ عائد على الملك دون الوزير.
القسم الثانى- تنفيذ ما اقتضاه رأى الوزير من تدبير المملكة. فعليه فى إمضائه حقّان: أحدهما أن يراعى [3] أولى الأمور فى اجتهاده، وأصوبها فى رأيه، لأنه مندوب لأصلحها ومأخوذ بأصوبها. والثانى أن يطالع الملك به إن جلّ، ويجوز أن يطويه إن قلّ، ليخرج عن الاستبداد المنفّر، ويسلم من الحقد المؤثّر. وقال حكيم الهند: الأحقاد مؤثّرة حيث كانت، وأخوفها ما كان فى أنفس الملوك، لأنهم يدينون بالانتقام ويرون التطلّب بالوتر مكرمة وفخرا. فإن عارضه الملك فى رأيه بعد المطالعة به لم يستوحش من معارضته، لأنه مالك مستنيب، وظانّ مستريب؛ وقابل بين رأيه ومعارضته، واستوضح من الملك أسباب المعارضة بلطف إن خفيت، فإن وضح صوابها توقّف عن رأيه وشكره على استدراك زلله وتلافى خلله وقد منّ عليه ولم يؤنّب. وإن كان الصواب مع الوزير تلطّف فى إيضاح صوابه، وكشف علله وأسبابه. فإن ساعده على إمضائه أمضاه؛ وكان درك تنفيذه عائدا على الوزير دون الملك. وإن لم يساعده عليه توقّف انقيادا لطاعته؛ وكان درك وقوفه عائدا على الملك دون الوزير.
والقسم الثالث- تنفيذ ما صدر عن خلفائه على الأعمال التى فوّضها إلى آرائهم ووكلها إلى اجتهادهم. فإن تفرّدوا بتنفيذها أمضاها لهم ولم يتعقّبها عليهم ما لم
[1] زيادة عن قوانين الوزارة.
[2]
الدّرك: التبعة.
[3]
كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل:«أن يكون» .
يتحقّق زللهم فيها؛ وكان درك تنفيذها عائدا على العمّال دون الوزير. وإن وقفوها على تنفيذ الوزير فعليه فى تنفيذها حقّان: أحدهما أن يستكشف عن أسبابها، ليعلم خطأها من صوابها. والثانى تقوية أيديهم ونفى الارتياب عنهم، فإن ظهور الارتياب مجشّة [1] للقلوب. فإن نفّذها لهم حين لم يتحقّق زللهم فيها كان درك تنفيذها عائدا على الوزير دون العمّال.
والقسم الرابع- تنفيذ أمور الرعايا على ما ألفوه من عادات ومعاملات اختلفوا فيها حين ائتلفوا بها، لأنّ الناس مجبولون على الحاجة إلى أنواع لا يقدر الواحد أن يقوم بجميعها، فخولف بين هممهم لينفرد كلّ قوم بنوع منها فيأتلفوا بها، فيقوم الزرّاع بمزارعهم، ويتشاغل الصنّاع بصنائعهم، ويتوفّر التجّار على متاجرهم.
وعليه فى تنفيذها لهم حقّان: أحدهما ألّا يعارض صنفا منهم فى مطلبه، والثانى ألّا يشاركه فى مكسبه. وربما كان للسلطان رأى فى الاستكثار من أحد الأصناف فينقل إليه من لم يألفه فيختلّ النظام بهم فيما نقلوا عنه وفيما نقلوا إليه. وربما ضنّ السلطان عليهم بمكاسبهم فتعرّض لها أو شاركهم فيها فاتّجر مع التجار وزرع مع الزرّاع.
وهذا وهن فى حقوق السياسة وقدح فى شروط الرياسة من وجهين: أحدهما أنه إذا تعرّض لأمر، قصرت فيه يد من عداه؛ فإن تورك عليه لم ينهض به، وإن شورك فيه ضاق على أهله.
وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما عدل وال اتّجر فى رعيّته»
. والثانى لأن الملوك أشرف الناس منصبا فخصّوا بموادّ السلطنه، لأنها أشرف الموادّ مكسبا. فإن زاحموا العامّة فى رذل [2] مكاسبهم أوهنوا الرعايا ودنّسوا
[1] كذا فى الأصل، والمجشة بكسر الميم: الرحا، من جش الشىء: دقه وكسره، وفى «قوانين الوزارة» :«فإن ظهور الارتياب لخيبة» .
[2]
فى قوانين الوزارة: «فى درك مكاسبهم» .
الممالك؛ وعاد وهنهم عليها فاختلّ نظامها، واعتلّ مرامها.
وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا اتّجر الراعى هلكت الرعيّة»
. وكتب حكيم الروم إلى الإسكندر: أىّ ملك تطنّف [1] نفسه إلى المحقّرات فالموت أكرم له.
فهذا ما اشتمل عليه الشرط الأوّل.
وأما الشرط الثانى من شروط وزارة التفويض، فهو الدفاع. وهو أسّ السلطنة وقانون السياسة والأخصّ بكفاية السيف فى تدبير الملك وضروب المصالح.
ويشتمل على أربعة أقسام: أحدها الدفاع عن الملك من الأولياء، والثانى الدفاع عن المملكة من الأعداء، والثالث دفاع الوزير عن نفسه من الأكفاء، والرابع دفاعه عن الرعية من خوف [2] واختلال.
فالقسم الأول فى دفاعه عن الملك من أوليائه- ويكون بثلاثة أسباب: أحدها أن يقودهم إلى طاعته بالرغبة، ويكفّهم عن معصيته بالرهبة؛ فإن الرغبة والرهبة إذا تواليا على النفس ذلّت لهما وانقادت خوفا وطمعا، وبهما تعبّد الله الخلق فى وعده ووعيده. والثانى أن يقوم بكفايتهم حتى لا ينفروا بالقوّة أو يتفرّقوا بالضعف؛ وكلاهما قدح فى الملك. والثالث أن يحفظهم من الإغواء، ويحرسهم من الإغراء؛ وذلك بأمرين: أحدهما البحث عن أخبارهم حتى يعلم سليمهم من سقيمهم. والثانى بإبعاد المفسدين عنهم حتى لا يتعدّى إليهم فسادهم؛ فإن الكفّ بحسب الكشف.
[1] تطنفت نفسه الى الشىء: أشفت وأشرفت عليه. وفى قوانين الوزارة «تطلعت» بدل «تطنفت» .
[2]
كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «من حزف
…
» وهو تحريف.
والقسم الثانى فى دفاعه عن المملكة من أعدائها- وأعداء الممالك [1] من انفرد بملك أو امتنع بقوّة. وهم ثلاثة أصناف: أكفاء مماثلون، وعظماء متقدّمون، وناجمة منافسون. فأما الأكفاء المماثلون فيدفعون بالمقاربة والمسالمة. وأما العظماء المتقدّمون فيدفعون بالملاطفة والملاينة. وأما الناجمة المنافسون فيدفعون بالسوط والمخاشنة.
والقسم الثالث فى دفاع الوزير عن نفسه من أكفائه- ويكون بعد استصلاح الطرفين: الأعلى وهو الملك، والأدنى وهم الأعوان. وأكفاؤه ثلاثة:
واتر، وموتور، ومنافس.
فأما الواتر- فقد بدأ بشرّه وجاهر بعداوته؛ وكلاهما بغى مؤنس [2] بالنصر عليه. وللوزير فى ترته حقّان: حقّ فى مقابلته على ما قدّم من ترته، وحق فى استدفاع ما جاهر به من عداوته. فأما حقه فى المقابلة، فإن عفا الوزير عنها كان بالفضل جديرا، وإن قابل كان فى المقابلة معذورا. وقد قيل: لذّة العفو أطيب من لذّة التشفى [لأن لذّة العفو يتبعها الحمد ولذة التشفى يعقبها الندم [3]] . قال الشاعر:
فإنّك تلقى فاعل الشّرّ نادما
…
عليه ولم يندم على الخير فاعله
وأما حقّه فى استدفاع شرّه، فقد أيقظته مجاهرته، وأوهن كيده مظاهرته.
وقد قيل فى منثور الحكم: أوهن الأعداء كيدا أظهرهم بعداوته. فاحذر بادرته وادفع [4] عداوته. ودفعها مختلف باختلاف طباعه فى انثنائه بالرغبة وتقويمه بالرهبة.
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وهو ما يقتضيه السياق، فان الكلام فى أعداء المملكة. وفى الأصل:
«وأعداء الملك» .
[2]
مؤنس: يوقع فى القلب أنسا وطمأنينة بالظفر به.
[3]
زيادة عن قوانين الوزارة.
[4]
كان ينبغى أن تكون الجملة «فليحذر
…
وليدفع
…
» لأن الكلام هنا لغائب هو الوزير. لكنها منقولة من قوانين الوزارة- والكلام فيه لمخاطب- من غير تغيير.
وأما الموتور- فقد بودئ بالإساءة فصبر عليها، وجوهر بالعداوة فأخفاها؛ فله ترة مظلوم ووثبة مختلس، فتتوقّى ترة ظلامته بالاستعطاف، ووثبة مخالسته بالاحتراز.
وأما المنافس- فهو طالب رتبة إن نال منها سدادا من عوز ياسر، وإن ضويق فيها نافر. فليرخ [1] الوزير له عنان الأمل، وليخفض [2] له جناح منافسته بالاستنابة والعمل؛ ليندفع بالمياسرة عن المنافرة. وليغالط [3] به الأيام، فإن الساعات تهدم الأعمار، ولا يجعل له فراغا يتشاغل فيه بمساءته، ويجعله عذرا فى السعى على منزلته.
فإن ساق القضاء إليه حظّا كان له مصطنعا، يرعى له حقوق الاصطناع. فقد قيل:
[من [4]] علامة الإقبال، اصطناع الرجال. فإن صدّه القضاء عن إرادته وعجّزه القدر عن طلبته كفى الوزير منه ما خافه [وقد أحسن [5]] ، ووصل إلى ما أراده [وقد أجمّ [6]] ، وأوجب بإحسانه شكرا، وأقام بإجمامه عذرا، اجتذب بهما قياد منافسه إلى طاعته، وصرفه بهما عن التعرّض لمنافسته. فهنالك يجعله قبلة رجائه؛ إذ لم يحظ بخير إلّا منه، ولم يقض من زمان وطرا إلّا به. وقد قيل فى منثور الحكم: من استصلح الأضداد، بلغ المراد.
[1] الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب.
[2]
الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب.
[3]
الفعل فى الأصل بصيغة الإخبار ووضعناه بصيغة الطلب للغائب لأن سياق الكلام يقتضى ذلك، ولأنه فى قوانين الوزارة المنقول عنه ما هنا بصيغة الطلب، الا أنه لمخاطب.
[4]
زيادة عن قوانين الوزارة.
[5]
زيادة عن «قوانين الوزارة» مع تغيير من الخطاب الى الغيبة لمناسبة السياق، أثبتناها هنا ليتضح بها الكلام. فان قوله:«وأوجب باحسانه الخ» يزداد وضوحا بذكر هذه الزيادة.
[6]
زيادة عن «قوانين الوزارة» مع تغيير من الخطاب الى الغيبة لمناسبة السياق، أثبتناها هنا ليتضح بها الكلام. فان قوله:«وأوجب باحسانه الخ» يزداد وضوحا بذكر هذه الزيادة.
وربما تعرّض لعداوة الوزير من قصّر عن رتبة منافسته. فليعطه [1] من رجائه طرفا، وليقبض [2] من زمامه طرفا، وليختبره [3] فيهما، فسيقف على صلاحه أو فساده. فإن صلح سوعد، وإن فسد بوعد. فقد قال أردشير بن بابك: احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع. وقد قيل فى منثور الحكم: علّة المعاداة، قلّة المبالاة.
والقسم الرابع فى الدفاع عن الرعية من خوف [4] واختلال- فالخوف من نتائج الخرق [5] ، والاختلال من نتائج الإهمال؛ وكلاهما من سوء السّيرة وفساد السياسة، [لتردّدهما بين تفريط وإفراط، وخروجهما عن العدل إلى تقصير أو إسراف [6]] .
وهم قوام الملك المستمدّ، وذخيرة المستعدّ. وليس يستقيم ولن يستقيم ملك فسدت فيه أحوال الرعايا، لأنّه منهم بمنزلة الرأس من الجسد لا ينهض إلا بقوّته ولا يستقلّ إلا بمعونته. وعلى الوزير لهم ثلاثة حقوق:
أحدها أن يعينهم على صلاح معايشهم ووفور مكاسبهم، لتتوفّر بهم موادّه، وتعمر بهم بلاده.
والثانى أن يقتصر منهم على حقوقه، ويحملهم فيها على إنصافه، ليكونوا على الاستكثار أحرص، وفى الطاعة أخلص؛ ولا يكلهم فى مقادير الحقوق الى غيره، ليكونوا له أرجى وعليه أحنى.
[1] فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة.
[2]
فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة.
[3]
فى الأصل: بصيغة المضارع من غير لام الطلب، وحسن السياق يقتضى الطلب كما هو فى قوانين الوزارة.
[4]
كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «من حزف
…
» .
[5]
فى الأصل: «فالحزف من نتائج الخوف» . وبما أثبتناه يستقيم الكلام، فان الخرق يلزمه مجاوزة الحد والخروج عما يقضى به العدل، وهو بهذا المعنى إفراط وإسراف يقابله الاهمال الذى هو التفريط والتقصير. وفى الحق أن خوف الرعية نتيجة لازمة للخرق بهذا المعنى. على أن صورة ما أثبتناه أقرب شىء لصورة الأصل.
[6]
زيادة عن قوانين الوزارة.
والثالث أن يحوطهم بكفّ الأذى عنهم، ومنع الأيدى الغالبة منهم؛ ليكون لهم كالأب الرءوف ويكونوا له كالأولاد البررة؛ فإنّه كافل مسترعى ومسئول مؤاخذ.
ولله عليه فيهم حقّ، وللسلطان عليه فيهم [1] تبعة. فليغتنم الوزير بهم شكر إحسانه، ويجمّل بعدله فيهم آثار سلطانه.
وأما الشرط الثالث من شروط وزارة التفويض وهو الإقدام، فهو فى السياسة أوفى شطريها [2] ، وفى الوزارة أكفى [3] نظريها؛ لظفر الإقدام، وخيبة الإحجام. وقد قيل فى منثور الحكم: بالإقدام تثبت الأقدام. وإنما يجب الإقدام إذا ظهرت أسبابه، وقصدت أبوابه. قال الشاعر:
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه
…
ضللت وإن تقصد إلى الباب تهتدى
ثم يجمع بعدهما بين حزمه وعزمه. فالحزم تدبير الأمور بموجب الرأى، والعزم تنفيذها للوقت المقدّر لها. فإذا تكاملت شروط الإقدام من هذه الوجوه الأربعة- وهى: ظهور أسبابه، وقصد أبوابه، والحزم، والعزم- لم يمنع من الظّفر، إلا عوائق القدر.
والإقدام ينقسم إلى قسمين: أحدهما الإقدام على اجتلاب المنافع، والثانى على دفع المضارّ. فأما الإقدام على اجتلاب المنافع فضربان: أحدهما استضافة ملك، والثانى استزادة موادّ. فأما استضافة الملك فتكون بالحزم والعزم إذا اقترنا برغبة أو رهبة. ولأن تكون بالاغتيال والاحتيال، أولى من أن تكون بالقتال.
وأما استزادة الموادّ فتكون بالعدل والإحسان إذا اقترنا برفق ومياسرة لتكثر بهما العمارة وتتوفّر بهما الزراعة؛ فإنّ الأرض كنوز الملك يستخرجها أعوان متطوّعون يقنعهم
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل «منهم تبعة» .
[2]
فى قوانين الوزارة: «أو فى شرطها» .
[3]
كذا فى قوانين الوزارة، وفى الاصل «أو فى نظريها» .
الكفّ عنهم ويقطعهم العسف بهم. وأما الإقدام على دفع المضارّ فضربان: أحدهما.
دفع ما اختلّ من الملك. وله سببان: إهمال أو عجز. والثانى دفع ما نقص من الموادّ.
وله سببان: نفور أو جور. فيحتاج الوزير أن يدفع ضرر كلّ واحد منهما بالضدّ [من سببه، فإن علاج كل داء بضده [1]] من الدواء. فإن كان اختلال الملك من الإهمال أيقظ له عزمه، وإن كان من العجز استعمل فيه حزمه. وإن كان نقص الموادّ من النفور استنجد فيه رهبته، وإن كان من الجور أظهر فيه معدلته. فإن كان حدوث ذلك فى الملك صدر عن الوزير كان مؤاخذا بتفريطه فى الابتداء، ومستدركا لتقصيره فى الانتهاء؛ فيجبر إساءته بإحسانه، ويمحو قبيحه بجميله. وإن كان حدوثه من غيره كانت جريرة الإساءة على من أحدثه، وكان حمد الإحسان للوزير.
وأما الشرط الرابع من شروط وزارة التفويض وهو الحذر- فيتعيّن على الوزير أن يكون حذرا، لأنّ الدهر ثائر بطوارقه، ومنافر بنوائبه، يغدر إن وفى، ويفتك إن هفا. قال عبد الحميد: أصاب الدنيا من حذرها، وأصابت الدنيا من أمنها. وقال عبد الملك بن مروان: احذروا الجديدين، فللأقدار أوقات تغضى عنها الأبصار. فإذا صادفت طوارق الدهر غرّا مسترسلا صار هدفا لسهامه الصوائب، وغرضا لمنافرة الحوادث والنوائب. وقد قال بعض الحكماء: من أعرض عن الحذر والاحتراس، وبنى أمره على غير أساس، زال عنه العزّ واستولى عليه العجز؛ وإن قدّم لطوارقه حذر المتيقّظ، وتلقّاها بعدّة المتحفّظ، ردّ بادرتها بعزم ذى حزم قد حلب أشطر دهره، وقام بواضح عذره. قال بعض الشعراء:
إنّ للدهر صولة فاحذرنها
…
لا تبيتنّ قد أمنت الدّهورا
[1] التكملة عن «قوانين الوزارة» .
ثم هو بعد حذره مستسلم لقضاء لا يردّ؛ وقدر لا يصدّ.
وقد روى عن أبى الدّرداء رضى الله عنه عن رسول الله عليه وسلم أنه قال: «احذروا الدنيا فإنّها أسحر من هاروت وماروت»
. وقيل لبعض الحكماء: من السعيد؟ قال: من اعتبر بأمسه، واستظهر لنفسه. قال بعض الشعراء:
وحذرت من أمر فمرّ بجانبى
…
لم يبكنى ولقيت ما لم أحذر
وللحذر حدّ يقف عنده إن زاد [عليه [1]] صار خورا، كما أن للإقدام حدّا إن زاد عليه صار تهوّرا. والزيادة على الحدود، نقص فى المحدود. ولهما زمان إن خرجا عنه صار الحذر فشلا، والإقدام خرقا. وعيارهما معتبر بحزم العاقل ويقظة الفطن. قال بعض الحكماء: ليعرفك السلطان عند افتتاح التدبير بالحذر، وعند وقوع الأمر بالجدّ.
والحذر يلزم من أربعة أوجه: أحدها الحذر من الله تعالى فيما فرض. والثانى [الحذر [2]] من السلطان فيما فوّض. والثالث الحذر من الزمان فيما اعترض. والرابع الحذر من [غلبة [3]] الأعداء ومكر الدّهاة.
فأما الحذر من الله تعالى- فهو عماد الدّين الباعث على الطاعة. والحذر منه هو الوقوف عند أوامره، والانتهاء عن زواجره؛ فيعمل بطاعته فيما أمر، وينتهى عن معصيته فيما حظر. فلن يرى قليل الحذر إلا متجوّزا فى دينه طائحا فى غلوائه، لا يرى رشدا فى العاجل، وهو على وعيد فى الآجل؛ مع نفور النفوس منه وسراية الذّم فيه.
وقد قيل فى بعض الصحف الأولى: العزّة والقوّة يعظمان القلب، وأفضل منهما خوف الله تعالى؛ لأن من لزم خشية الله لم يخف الوضيعة ولم يحتج إلى ناصر.
وقال علىّ رضى الله عنه: من حاول أمرا بمعصية الله كان أبعد لما رجا، وأقرب لمجىء ما اتّقى.
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[3]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
وأما الحذر من السلطان، فهو وثّاب بقدرته، متحكّم بسطوته، يميل به الهوى فيقطع بالظنّ ويؤاخذ بالارتياب؛ فالثقة به عجز، والاسترسال معه خطر. والحذر منه فى حالتى السّخط والرضا أسلم؛ لأنّه يستذنب إذا ملّ حتى يصير المحسن عنده كالمسىء. فليستخلص [1] رأيه بالنصح، ويستدفع تنكّره بالحذر. وقال بعض الحكماء:
اصحب السلطان بثلاث: الحذر، ورفض الدولة، والاجتهاد فى النصح. والحذر منه يكون بثلاثة أمور: أحدها ألّا يعوّل على الثقة به فى الإدلال والاسترسال، فما جرّت الثقة إلا ندما. وقد قيل: الخرق الدالّة على السلطان، والوثبة قبل الإمكان.
[فاقبض نفسك إذا قدّمك، وتواضع له إذا عظّمك، واحتشمه [2] إذا آنسك، ولن له إذا خاشنك، واصبر على تجنّيه [إذا غالظك [3]] ؛ فهو على التّجنى أقدر، فكن على احتماله أصبر؛ فربّما كانت مجاملته لك مكرا، وتجنّيه عليك غدرا [4]] . فقد قيل فى بعض الصحف الأولى: حبّ الملك وهواه يشبه الطّلّ على العشب. فلا تجعل له فى إظهار تنكّره عذرا؛ فربما اعترف بالحق فوفّى، ورقّ بالصبر فكفّ. وقد قيل فى أمثال كليلة ودمنة: صاحب السلطان كراكب الأسد يخافه الناس وهو لمركوبه أشدّ خوفا.
والثانى من حذره منه أن يساعده على مطالبه، ويوافقه على محابّه [ومآربه [5]] ، ولا يصدّه عن غرض إذا لم يقدح فى دين ولا عرض، ولا يتوقّف عن إجابته
[1] فى الأصل: «فيستخلص
…
» والسياق يقتضى الأمر كما فى «قوانين الوزارة» .
[2]
ورد فى الأساس: «أنا أحتشمك منك أى أستحيى» وفى اللسان وشرح القاموس أحتشم منه وعنه ولا يقال: احتشمه. فعبارة الأصل هاهنا صحيحة على ما فى الأساس.
[3]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[4]
- هذه الجملة التى بين القوسين المربعين نقلها صاحب الأصل عن قوانين الوزارة من غير تغيير فى الضمائر، وعادته فى النقل عنه أن يغير الضمير من الخطاب الى الغيبة، لأن قوانين الوزارة يوجه الكلام لمخاطب، والأصل هنا يوجهه لغائب، كما هو واضح.
[5]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
وإن شغله ما هو أهمّ؛ فإن الملك لا يقيم لوزيره عذرا إذا وجده فى أغراضه مقصّرا، وإن كان على مصالح ملكه متوفّرا؛ فإنّه اتخذه لنفسه ثم لملكه؛ وقد يقدّم حظّ نفسه على مصلحة ملكه، لغلبة الهوى ونازع الشهوة. فليكن متوفّرا على مراده ليسلم اعتقاده له. فإن قدحت أغراضه فى دين أو عرض سلّ الوزير نفسه من وزرها وتحفّظ من شينها [1] بالتلطّف فى كفّه عنها بما يعتاضه بدلا منها، ليسهل عليه إقلاعه عنها. فإن ساعده الملك عليها سلم دينهما، وزال شينهما.
فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله خزائن للخير والشرّ مفاتيحها الرجال فطوبى لمن جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشرّ وويل لمن جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير»
. وقال الشاعر:
ستلقى الذى قدّمت للشّرّ محضرا
…
وأنت بما تأتى من الخير أسعد
وإن أصرّ الملك عليها فليلن [2] الوزير فى متاركته، ويحجم عن مساعدته؛ وهو خداع يتدلّس بالمغالطة ويخفى بالحزم؛ فليستنجد فيه عقله، ويستعمل فيه حزمه؛ ليسلم من تنكّره، ويخلص من وزره.
فقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ من شرار الناس عند الله يوم القيامة عبدا أذهب آخرته بدنيا غيره»
. والثالث من حذره منه أن يذبّ عن نفسه وملكه بما استطاع من مال ونفس؛ فإنّه [عن نفسه [3]] يذبّ، ولها يربّ [4] ؛ فإنّه لا يصلح حاله مع فساد حال ملكه وهو فرع من أصله. وهو [5] يسترسل لثقته به، ويستسلم لتعويله عليه؛ فليقابل ثقته بأمانته، واستسلامه بكفايته، ولا
[1] كذا فى «قوانين الوزارة» ويرجحه ما يأتى من قوله «سلم دينهما وزال شينهما» وفى الأصل «من شبهتها» .
[2]
كذا يؤخذ من «قوانين الوزارة» ، وفى الأصل «فليكن
…
» .
[3]
زيادة من قوانين الوزارة يقتضيها السياق.
[4]
يرب: يصلح.
[5]
الضمير فى «وهو يسترسل
…
» يرجع الى الملك.
يلجئه أن يباشر دفع الخوف والحذر، فيلجئه إلى ما هو أخوف وأحذر؛ لأن الوزير يخاف الملك ويخاف ما يخافه، فيتوالى عليه خوفان، ويتمالأ عليه خطران.
قال شاعر:
إنّ البلاء يطاق غير مضاعف
…
فإذا تضاعف صار غير مطاق
وأما حذره من زمانه، فلأنّه يتقلّب بألوانه، ويخشن بعد ليانه، فيسلب ما أعطى ويفرّق ما جمع.
وقد روى عن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنظروا دور من تسكنون وأرض من تزرعون وفى طرق من تمشون»
. وقال بعض الحكماء: الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها. وقال بعض البلغاء: إن الدنيا تقبل إقبال الطالب، وتدبر إدبار الهارب؛ لا تبقى على حالة، ولا تخلو من استحالة؛ تصلح جانبا بإفساد جانب، وتسرّ صاحبا بمساءة صاحب؛ فالكون فيها على خطر، والثّقة بها على غرر. وقال قيس بن الخطيم:
ومن عادة الأيّام أنّ خطوبها
…
إذا سرّ منها جانب ساء جانب
[والحذر [1]] من الزمان يكون من أربعة أوجه:
أحدها: ألّا يثق بمساعدته، ولا يركن إلى مياسرته، فيغفل عن الحذر والاستعداد، فربّما انعكس فافترس، وغافص [2] فاختلس. وقد قيل: للدهر صروف، لست عنها بمصروف. قال أبو العتاهية:
إنّ الزمان وإن ألا
…
ن لأهله لمخاشن
فخطوبه [3] المتحرّكا
…
ت كأنّهنّ سواكن
[1] فى الأصل بياض، والتكملة عن «قوانين الوزارة» .
[2]
غافصه: فاجأه وأخذه على غرّة منه.
[3]
كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «بخطوبه» .
والثانى: أن ينتهز فرصة مكنته [1] بفعل الجميل، وغرس الصنائع، وإسداء العوارف؛ ليكون ذلك ذخيرة له فى النوائب، وخلفا فى العواقب؛ ولا يلهيه استكفاؤه عن الاستظهار، ولا يمنعه استغناؤه عن الاستكثار. فقد قيل: المرء ابن يومه، فلينتبه من نومه.
وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحّتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك»
. قال سعيد بن سلم:
إنّما الدنيا هبات
…
وعوار مستردّه
شدّة بعد رخاء
…
ورخاء بعد شدّه
والثالث: أن يكفّ نفسه عن القبيح ويقبض يده عن الإساءة، ليكفى رصد التّرات، وغوائل الهفوات؛ فيأمن من وجله، ويسلم من زلله؛ ولا يتطاول بالقدرة فيغفل وهو مطلوب، ويأمن وهو مسلوب.
والرابع: أن يستعدّ لآخرته، ويستظهر لمعاده، ولا يغترّ بالأمل فيخونه الفوت، ولا تلهيه الدنيا فتصدّه عن الآخرة. فقلّ من لا بسها فسلم من تبعاتها؛ لهفوات غرورها، [وعواقب [2] شرورها] .
روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا عجبا كل العجب للمصدّق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور»
. وقيل فى منثور الحكم:
طلاق الدنيا مهر الجنّة.
وأما حذره من أهل الزمان- فلأن الإنسان محسود بالنعمة، مغبوط بالسلامة. والناس على أربعة أطوار متباينة:
[1] المكنة بفتح فكسر: التمكن.
[2]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
أحدها [1]] خيّر عاقل يسالم بخيره، ويساعد بعقله؛ فالظّفر به سعادة، والاستعانة به توفيق. فليجتهد [2] ألّا يفوته وإن كان قليل الوجود، ليحظى بخيره ويسعد بعقله. وقلّ أن يكون الخيّر العاقل إلا متحلّيا بالعلم متزيّنا بالأدب. فإذا أظفره الزمان بمن تكاملت فضائله، وتهدّبت خصائله، فليتّخذه [2] ذخيرة نوائبه، وعدّة شدائده، يجده كفيل صلاحها، وزعيم نجاحها.
والطور الثانى: شرّير جاهل يضرّ بشرّه، ويضلّ بجهله. فليحذر مخالطته، فهى أضر من السّمّ، وأنفذ من السهم. وشرّه بجهله منتشر يضعف إن تورك، ويقوى إن شورك؛ فليكفف شرّه بالإبعاد، ولا يعزّه بالتقريب، فيلحقه ضررى شرّه وجهله.
وضرر الجهل أعمّ من ضرر الشر؛ لأن قانون الشر معلوم، وقانون الجهل غير معلوم.
والطور الثالث: خيّر جاهل يسالم بخيره، ويضل بجهله؛ فليقاربه [3] ، إن شاء، لخيره، ولا يستعمله لجهله؛ ليكون بخيره موسوما، ومن جهله سليما.
والطور الرابع: شرّير عاقل وهو الداهية المكر، يستعمل للخطوب إذا حزبت [4] .
فليكن على حذر من مكره، ويتاركه فى الدّعة على استدفاع لشره.
وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يؤيّد هذا الدّين بالرجل الفاجر»
. ومثل هذا يستكفّ بمعونة تمدّه، ومراعاة ترضيه؛ فإنّه كالسّبع الضارى إن أجعته هاج، وإن أشبعته سكن؛ ليكون مذخورا للحاجة؛ فإن للزمان خطوبا لا تدفع إلا بشرار أهله؛ كما قال حذيفة بن اليمان لرجل: أيسرّك أن تغلب شرّ الناس؟ قال: نعم؛ قال:
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2]
السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر.
[3]
السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر.
[4]
حزبه الأمر: نابه واشتدّ عليه.
إنك لن تغلبه حتى تكون شرّا منه. فيعدّ لخطوب الشرّ إن طرقت؛ فإنّه بها أخبر، وعلى دفعها أقدر، ولأهلها أقهر؛ ف «إنّ الحديد بالحديد يفلح» . فيستكفّ إلى حينها بما يدفع عادية شرّه، ويقطع غائلة مكره، وإن كانت ضراوة الشر أجذب، وطباع النفوس أغلب. فإن وجد الوزير من هذا الداهية فتورا فى همّته، وقصورا فى منّته [1] كانت سراية مكره أنزر، وتأثيره فى الخطوب أيسر. وإن كان عالى الهمّة قوىّ المنّة يتطاول إلى معالى الأمور، كانت سراية مكره أوفر، وتأثيره فى الخطوب أكثر.
فليعطه [2] فى كل حال من أمريه من الحذر والسكون بحسب ما تقتضيه همّته، وتبعث عليه منّته؛ ليكون قانونه معه مستقيما، [ومن دهاء مكره [3] سليما] ؛ لا يناله خور من سرف، ولا استرسال من تقصير؛ فقد جعل الله تعالى لكل شىء قدرا.
فهذا تفصيل ما اشتمل عليه العقد والحلّ.
وأما التقليد والعزل، وهو الشطر الثانى من شروط وزارة التفويض، فالتقليد على ضربين: تقليد تقرير، وتقليد تدبير.
فأما تقليد التقرير، فهو فيما يستأنف إنشاء قواعده، ويبتدأ تقرير رسومه.
وهو على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون فى حاضر يقدر الوزير على مباشرته، فالوزير أخصّ بتقريره، وأحقّ بتنفيذه؛ لأنها أصول مؤبّدة وهى من خواصّ نظره. فإن قلّد عليها واستناب
[1] المنة: القوة.
[2]
السياق يقتضى صيغة الأمر كما فى «قوانين الوزارة» . والفعل فى الأصل مجرد من لام الأمر.
[3]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
فيها، كان تقصيرا منه إن جلّ، ومعذورا فيه إن قلّ. ولم يكن لمن قلّده تنفيذ تقريره إلا عن إذنه، وإلا كان عزلا خفيّا؛ لأنه يصير ملتزما وقد كان ملزما، ومحكّما [1] وقد كان حاكما.
والثانى: أن يكون التقليد فيما بعد عنه ويمكن استئماره [2] فيه، فيجوز أن يستنيب فى تقريره، ويكون موقوفا على إمضاء الوزير وتنفيذه. ولا يجمع المستناب بين الأمرين، ليكون التقليد مقصورا على التقرير، والوزير مختصا بالتنفيذ. فإن جمع المستناب بين التقرير والتنفيذ كان فيه متجوّزّا، إلا أن يؤمر به فيصير الآمر متجوّزا، إلا أن يكون اضطرارا يزول معه حكم الاختيار.
والثالث: أن يكون التقليد [3] فيما بعد عنه ويتعذّر استئماره فيه، فيجوز أن [يستنيب [4] فيه من] يجمع بين تقريره وتنفيذه إذا تكاملت فى المستناب ثلاثة شروط: أحدها الكفاية التى ينهض بها فى التقرير. والثانى الهيبة التى يطاع بها فى التنفيذ. والثالث الأمانة التى يكفّ بها عن الاسترشاء والخيانة، بعد تكامل الشروط المعتبرة فى جميع الولايات، وهى ثلاثة: العقل، والديانة، والمروءة. فلا فسحة فى تقليد من أخلّ ببعضها، لقصوره عن حقها، وخروجه من أهلها؛ وإنما يختلف ما سواها باختلاف الولايات، وإن كانت هذه مستحقّة فى جميعها. وقد قال كسرى أبرويز: من اعتمد على كفاة السوء لم يخل من رأى فاسد وظنّ كاذب وعدوّ غالب. وقد قال بعض الحكماء:
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «لأنه ملزم وقد كان ملزما، ومحكم
…
الخ» .
[2]
الاستثمار: المشاورة.
[3]
كذا فى قوانين الوزارة، والتقليد هو موضوع الكلام، وفى الأصل: «التنفيذ
…
» .
[4]
التكلمة عن «قوانين الوزارة» .
لا تستكفينّ مخدوعا عن عقله؛ والمخدوع [1] من بلغ به قدرا لا يستحقه، أو أثيب ثوابا لا يستوجبه.
وأما تقليد التدبير، فهو النظر فيما استقرّت رسومه، وتمهّدت قواعده. وهو مشترك بين الوزير وبين الناظر فيه؛ لكن [2] يختصّ الوزير بمراعاته، والناظر بمباشرته؛ ليستظهر [3] الوزير بالمراعاة، ولا يتبذّل [4] بالمباشرة. وهو ضربان: أحدهما تدبير الأجناد.
والثانى تدبير الأموال.
فأما تدبير الأجناد، فلا يستغنى الوزير عن تقليد سفير فيه وإن كانوا يلاقونه؛ ليحفظ بالسفير حشمة وزارته ولا يقف أغراض أجناده، وقد انصان عن لغط كلامهم، وجفوة طباعهم. والأغلب على تدبيرهم الرأى والسياسة. فيعتبر فى هذا المختار لهذا التقليد ستة شروط:
أحدها: الهيبة التى تقودهم إلى طاعته، لأنه يقوم بتدبير ذوى سطوة، فيحتاج إلى قوّة الهيبة.
والثانى: أن يكون من ذوى الرأى والسياسة، ليقودهم برأيه إلى الصواب ويقفهم بسياسته على الاستقامة.
والثالث: أن يكون متوصّلا إلى استعطاف القلوب، واجتماع الكلمة، ليسلموا من اختلاف أو منافرة.
[1] كذا فى قوانين الوزارة، وفى الأصل: «فالمخدوع
…
» بالفاء وظاهر أن حسن السياق يقتضى الواو.
[2]
كذا فى «قوانين الوزارة» . وفى الأصل: «لكى يختص
…
» .
[3]
يستظهر: يحتاط ويستوثق.
[4]
فى الأصل «يتبدّل» بالدال. والسياق يقتضى ما وضعناه.
والرابع: أن يكون بينه وبين الأجناد مناسبة فى الطباع ومشاكلة فى الأخلاق يمتزجون [بها [1]] فى الموافقة و [لا [2]] يختلفون [فيها [3]] فى المباينة [4] .
والخامس: أن يكون سليم الباطن صحيح المعتقد؛ لأنه يصير أخصّ بهم، ويصيرون أطوع له.
والسادس: ما اختلف باختلاف الحال، فإن كان فى زمان السلّم اعتبر فيه الأناة والسكون؛ وإن كان فى زمان الحرب اعتبر فيه الإقدام والسّطوة، ليكون مطبوعا على ما يضاهى حال زمانه. فإذا ظفر بمن استكملها- وبعيد أن يظفر به إلا أن يعان بالتوفيق- وجب تقليده، ولزمت مناصفته فى الحقوق التى له وعليه، ليدوم ويستقيم. فقد قيل فى منثور الحكم: من قضيت واجبه، أمنت جانبه.
وأما تدبير الأموال، فالوزير مصون عن مباشرتها، وإنما يحفظ دخلها بالهيبة والاستظهار، ويضبط خرجها بالحاجة والاضطرار. وللتقليد على كل حال [5] منهما شروط.
فشروط التقليد على مباشرة دخلها خمسة:
أحدها: أن يكون مطبوعا على العدل، لينصف وينتصف.
والثانى: أن يكون متديّنا بالأمانة، ليستوفى ويوفّى.
والثالث: أن يكون كافيا، ليضبط بكفايته، ولا يضيع بعجزه.
والرابع: أن يكون خبيرا بعمله يعرف وجوه موادّه، وأسباب زيادته.
[1] زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[2]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[3]
زيادة عن «قوانين الوزارة» .
[4]
فى «قوانين الوزارة» : «
…
فيها بالمباينة» .
[5]
فى قوانين الوزارة: «على كل واحد منهما» .
والخامس: أن يكون رفيقا بمعامليه غير عسوف ولا أخرق. حكى ان الإسكندر كتب إلى معلّمه أرسطاطاليس ليستشيره فى عمّاله؛ فكتب إليه: إنّ من كان له عبيد فأحسن فى سياستهم فولّه الجند، ومن كان له ضيعة فأحسن تدبيرها فولّه الخراج.
وأما شروط التقليد على مباشرة خرجها، بعد الأمانة التى هى مشروطة فى كلّ ولاية، فمعتبرة بأحوال الخرج. وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان راتبا عن رسوم مستقرّة كأرزاق الجيوش والحواشى، فللتقليد عليه شرطان: معرفة مقاديرها، ومعرفة مستحقّيها.
والثانى: ما كان عارضا عن أوامر تقدّمتها والناظر مأمور بها كالصّلات وحوادث النّفقات، فللتقليد عليه شرطان: وقوفها على الأوامر، ومعرفة أغراض [1] الآمر.
والثالث: ما كان عارضا فوّض إلى رأى الناظر ووكل إلى تقريره كالمصالح والنّفقات، فالتقليد عليه أوفى شروطا لوقوفها على اجتهاده وتقديره، فيحتاج مع الأمانة إلى ثلاثة شروط:
أحدها: معرفة وجوه الخرج، حتى لا يتصرف فى غير حقّ.
والثانى: الاقتصاد فيه، حتى لا يفضى إلى سرف ولا تقصير.
والثالث: استصلاح الأثمان والأجور من غير تحيّف [2] ولا غبن.
وأما العزل فضربان:
أحدهما: ما كان عن غير سبب فهو خارج عن السياسة؛ لأن للأفعال والأقوال أسبابا إذا تجرّدت عنها [1] صار الفعل عبثا والكلام لغوا لا يقتضيه رأى حصيف، ولا توجبه سياسة لبيب. وقد قيل: العزل أحد الطّلاقين. فكما أنه لا يحسن الطلاق بغير سبب، كذلك لا يحسن العزل بغير سبب. وإذا لم يثق الناظر باستدامة نظره مع الاستقامة، عدل عنها إلى النظر لنفسه، فعاد الوهن على عمله.
وما يكون هذا العزل إلا عن فشل أو ملل.
والضرب الثانى: أن يكون العزل لسبب دعا إليه. وأسبابه تكون من ثمانية أوجه:
أحدها: أن يكون سببه خيانة ظهرت منه، فالعزل لها من حقوق السياسة مع استرجاع الخيانة والمقابلة عليها بالزواجر المقوّمة. ولا يؤاخذ فيها بالظنون والتّهم.
فقد قيل: من يخن يهن.
والوجه الثانى: أن يكون سببه عجزه وقصور كفايته، فالعمل بالعجز [مضاع [2]] ؛ وهو نقص فى العاجز وإن لم يكن ذنبا له؛ فلا يجوز فى السياسة إقراره على العمل الذى عجز عنه. ثم روعى عجزه بعد عزله، فإن كان لثقل ما تقلّده من العمل جاز أن يقلّد ما هو أسهل، وإن كان لقصور منّته وضعف حزمه لم يكن أهلا لتقليد ولا عمل.
[1] كذا فى الأصل. والذى يؤخذ من كتب اللغة أن «تجرّد» يتعدّى ب «من» .
[2]
التكملة عن «قوانين الوزارة» .
والوجه الثالث: أن يكون سببه اختلال العمل من عسفه أو خرقه. فهذا السبب زائد على الكفاية، وخارج عن السياسة. والوزير المقلّد فيه بين خيارين:
إما أن يعزله بغيره، وإما أن بكفّه عن عسفه وخرقه. ويجوز أن يكون مرصدا لتقليد ما تدعو [1] السياسة فيه الى العسف لمن شاقّ ونافر. فقد قيل: لكلّ بناء أساس، ولكلّ تربة غراس.
والوجه الرابع: أن يكون سببه انتشار العمل به من لينه وقلّة هيبته. فهذا السبب موهن للسياسة. والوزير فيه بين خيارين: إما أن يعزله بمن هو أقوى وأهيب، وإما أن يضمّ إليه من تتكامل به القوّة والهيبة. وخياره فيه معتبر بالأصلح. ويجوز أن يقلّد بعد صرفه ما لا يستضرّ فيه بضعفه.
والوجه الخامس: أن يكون سببه فضل كفايته وظهور الحاجة إليه فيما هو أكبر من عمله. فهذا أحمد وجوه العزل وليس بعزل فى الحقيقة، وإنما هو نقل من عمل إلى ما هو أجلّ منه، فصار بهذا العزل زائد الرتبة. وقد قال بعض البلغاء:
الناس فى العمل رجلان: رجل يجلّ به العمل لفضله ورياسته؛ ورجل يجلّ بالعمل لتقصيره ودناءته، فمن جلّ به العمل ازداد تواضعا وبشرا، ومن جلّ بالعمل ازداد ترفّعا وكبرا.
والوجه السادس: أن يكون سببه وجود من هو أكفأ [2] منه. فيراعى حال الأكفأ، فإن كان فضل كفايته مؤثّرا فى زيادة العمل به كان عزل الناظر به من لوازم
[1] كذا فى قوانين الوزارة. وفى الأصل: «ما تدعو إليه السياسة فيه
…
الخ» وظاهر أن كلمة «إليه» مقحمة لغير حاجة.
[2]
استعمال «أكفأ» بمعنى أكثر اضطلاعا بالأمر، من الخطأ المشهور، وكذلك كفء وأكفاء فى هذا المعنى، وانما الصواب لغة فى كل هذا: أكفى، وكاف، وكفاة، من الكفاية التى هى الاضطلاع بالأمر وحسن القيام به.
السياسة ولم يسغ فيها إقراره على عمله؛ وإن لم يؤثّر فى زيادة العمل كان عزل الناظر من طريق الأولى فى تقديم الأكفاء وتخيّر الأعوان، وإن جاز فى السياسة إقرار الناظر على عمله لنهوضه به.
والوجه السابع: أن يكون سببه أن يخطب عمله من الكفاة من يبذل زيادة فيه. فلا يجوز عزله ببذل الزيادة حتى يكشف عن سببها، فربما تخرّص [1] بها الباذل لرغبة فى العمل، أو لعداوة فى العامل. فإن لم يظهر لها بعد الكشف موجب لم يجز فى السياسة عزله بهذا البذل الكاذب؛ وكان الباذل جديرا بالإبعاد لابتدائه بالإدغال [2] .
فإن ظهر موجب الزيادة لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون لتقصير الناظر؛ فيجب عزله. والوزير بعد عزله بين خيارين: إما أن يقلّد الباذل أو غيره من الكفاة. والثانى أن يكون موجبها فضل كفاية الباذل؛ فيجب عزله بالباذل دون غيره. والثالث أن يكون سببها عسف الباذل وخرقه، فلا يجوز فى السياسة عزل الناظر ولا تقريب الباذل، فربما مال إلى الزيادة من تغاضى عن العدل، فعزل وقلّد فصار هو العاسف المجازف.
والوجه الثامن: أن يكون سببه أن الناظر مؤتمن، فيخطب عمله ضامن. فتضمين الأعمال خارج عن قوانين السياسة العادلة، لأن المؤتمن عليها إذا كان كافيا استوفى ما وجب، وكفّ عما لم يجب؛ وهذا هو العدل. والضامن إن ضمنها بمثل ارتفاعها لم يؤثر، وإن ضمنها بأكثر منه تحكّم فى عمله، وكان بين عسف أو هرب، لأنه ضمن ليغنم لا ليغرم. وحكى أن المأمون عزم على تضمين السّواد، وعنده عبيد الله
[1] تخرص: افترى وكذب. وفى الأصل «فربما تحرص
…
» ، وفى قوانين الوزارة «فربما يخرجه
…
» . وما وضعناه يظهر أنه المناسب للسياق. فلعل ما فى الأصل يكون محرفا عنه.
[2]
الإدغال هنا: الوشاية والخيانة.