الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثالث- ذكر ما تضمّنه التقليد من ولاية القضاء بصريح التسمية.
والرابع- ذكر تقليد البلد الذى عقدت الولاية عليه ليعرف به العمل الذى يستحقّ النظر فيه، ولا تصحّ الولاية مع الجهل به.
فاذا انعقد التقليد تمّت الولاية بهذه الشروط والألفاظ. واحتاج المولّى الى شرط زائد على شروط العقد، وهو إشاعة تقليده فى أهل عمله ليدعنوا بطاعته وينقادوا الى حكمه. وهو شرط فى لزوم الطاعة وليس بشرط فى نفوذ الحكم.
فاذا صحّت عقدا ولزوما بما وصفناه، صحّ فيها نظر المولّى والمولّى [كالوكالة، لأنهما معا استنابة. ولم يلزم المقام عليها من جهة المولّى ولا من جهة المولّى. وكان للمولّى عزله [1]] عنها متى شاء، وللمولّى عزل نفسه متى شاء؛ غير أنّ الأولى بالمولّى ألّا يعزله إلا بعذر، وألّا يعتزل المولّى إلا من عذر؛ لما فى الولاية من حقوق المسلمين. واذا عزل أو اعتزل وجب إظهار العزل كما وجب إظهار التقليد، حتى لا يقدم على إنفاذ حكم ولا يغترّ بالترافع اليه خصم. فإن حكم بعد العلم بعزله لم ينفذ حكمه، وإن حكم غير عالم بعزله كان فى نفوذ حكمه وجهان، كاختلافهما فى عقود التوكيل.
وحيث ذكرنا ما تصح به الولاية وتنعقد به من الألفاظ والشروط، فلنذكر ما يشتمل عليه النظر فى الأحكام.
ذكر ما يشتمل عليه نظر الحاكم المطلق التصرّف من الأحكام
قال الماوردىّ: اذا كانت ولاية القاضى عامّة وهو مطلق التصرّف فى جميع ما تضمّنته، فنظره يشتمل على عشرة أحكام:
[1] التكملة من الأحكام السلطانية.
أحدها- فصل المنازعات وقطع التشاجر والخصومات، إمّا صلحا عن تراض يراعى فيه الجواز، أو إجبارا بحكم باتّ يعتبر فيه الوجوب.
والثانى- استيفاء الحقوق ممن امتنع من القيام بها وإيصالها الى مستحقّها من أحد وجهين: إقرار أو بينة. واختلف فى جواز حكمه فيها بعلمه، فجوّزه مالك والشافعىّ فى أصحّ قوليه؛ وقال أبو حنيفة: يجوز أن يحكم بعلمه فيما علمه فى ولايته، ولا يحكم بما علمه قبلها.
والثالث- ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرّف بجنون أو صغر، والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس، حفظا للأموال على مستحقّيها، وتصحيحا لأحكام العقود فيها.
والرابع- النظر فى الوقوف بحفظ أصولها وتثمير فروعها وقبض غلّتها وصرفها فى سبلها. فإن كان عليها مستحقّ للنظر فيها راعاه، وإن لم يكن تولّاه.
والخامس- تنفيذ الوصايا على شروط الموصى فيما أباحه الشرع ولم يحظره.
فان كانت لمعيّنين كان تنفيذها بالإقباض، وإن كانت فى موصوفين كان تنفيذها أن يتعيّن مستحقّوها بالاجتهاد ويملكوا بالإقباض. فان كان فيها وصىّ راعاه، وإن لم يكن تولّاه.
والسادس- تزويج الأيامى بالأكفاء اذا عدم الأولياء ودعين [1] الى النكاح.
ولم يجعله أبو حنيفة- رحمه الله من حقوق ولاية القاضى، لتجويزه تفرّد الأيّم بعقد النكاح.
[1] كذا فى الأحكام السلطانية طبع مدينة «بن» وهو الذى يناسب المقام. وفى الأصل «ودعون
…
» .
والسابع- إقامة الحدود على مستحقّيها، فإن كان من حقوق الله تعالى تفرّد باستيفائه من غير طالب اذا ثبت بإقرار أو بيّنة؛ وإن كان من حقوق الآدميين كان موقوفا على طلب مستحقّه. وقال أبو حنيفة: لا يستوفيهما معا إلا بخصم مطالب.
والثامن- النظر فى مصالح عمله من الكفّ عن التّعدّى فى الطّرقات والأفنية، وإخراج ما لا يستحقّ من الأجنحة والأبنية؛ وله أن يتفرّد بالنظر فيها وإن لم يحضره خصم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له النظر فيها إلا بحضور خصم مستعد. وهى من حقوق الله تعالى التى يستوى فيها المستعدى والمستعدى إليه، فكان تفرّد الولاة بها أخصّ.
التاسع- تصفّح شهوده وأمنائه، واختيار النائبين عنه من خلفائه فى إقرارهم والتعويل عليهم مع ظهور السّلامة والاستقامة، وصرفهم والاستبدال بهم مع ظهور الجرح والخيانة [1] . ومن ضعف منهم عمّا يعانيه، كان مولّيه بين خيارين يأتى أصلحهما:
إما أن يستبدل به من هو أقوى منه وأكفى، وإما أن يضمّ اليه من يكون اجتماعهما عليه أنفذ وأمضى.
والعاشر- التسوية فى الحكم بين القوىّ والضعيف، والعدل فى القضاء بين المشروف والشريف؛ ولا يتّبع هواه فى تقصير بحق أو ممايلة لمبطل. قال الله تعالى:
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ.
[1] كذا فى الأحكام السلطانية. وفى الأصل: «والجناية» .
وقد استوفى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فى عهده الى أبى موسى الأشعرىّ شروط القضاء وبيّن أحكام التقليد حين ولّاه القضاء، قال:
أما بعد، فإنّ القضاء فريضة محكمة وسنّة متّبعة. فافهم إذا أدلى اليك. [وأنفذ اذا تبيّن لك [1]] فإنه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له. وآس [2] بين الناس فى وجهك وعدلك ومجلسك، حتّى لا يطمع شريف فى حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك. البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر. والصّلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا.
ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن لرجع الى الحق؛ فإنّ الحق قديم، ومراجعة الحقّ خير من التّمادى فى الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج فى صدرك مما ليس فى كتاب ولا سنّة. ثم اعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور بنظائرها. واجعل لمن ادّعى حقّا غائبا أو بيّنة أمدا ينتهى اليه؛ فإن أحضر بينة أخذت له بحقّه، وإلّا استحللت القضية عليه؛ فان ذلك أنفى للشكّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا فى حد، أو مجرّبا عليه شهادة زور، أو ظنينا فى ولاء أو نسب. فإن الله قد تولّى منكم السرائر ودرأ بالبينات والأيمان [3] ؛ وإياك والغلق [4] والضّجر والتأففّ بالخصوم، فإنّ استقرار الحق فى مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر. والسلام.
[1] التكملة من صبح الأعشى (ج 10 ص 193 طبع المطبعة الأميرية بالقاهرة) .
[2]
آس بين الناس: أى سوّ بينهم واجعل كل واحد منهم أسوة خصمه، أى حاله مثل حاله.
[3]
كذا فى صبح الأعشى. وفى الأصل «فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان ورد البينات» . وفيه تحريف. وورد فى المصدر الذى نقل عنه الأصل وهو الأحكام السلطانية: «فإن الله عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات» . وفى البيان والتبيين للجاحظ (ج 2 ص 24 طبع مطبعة الفتوح الأدبية بمصر) : «فإن الله قد تولى منكم السرائر ودرأ عنكم بالشبهات» .
[4]
الغلق: ضيق الصدر وقلة الصبر.