الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر من نظر فى المظالم فى الجاهليّة والإسلام
والنظر فى المظالم قديم، كان الفرس يرون ذلك من قواعد الملك وقوانين العدل الذى لا يعمّ الصّلاح إلا بمراعاته، ولا يتمّ التناصف إلا بمباشرته؛ وكانوا ينتصبون لذلك بأنفسهم فى أيّام معلومة لا يمنع عنهم من يقصدهم فيها من ذوى الحاجات وأرباب الضرورات.
وسبب تمسكهم بذلك أنّ أصل قيام دولتهم ردّ المظالم. وذلك أن كيومرث أوّل ملوكهم- وقيل: إنه أوّل ملك ملّك من بنى آدم- كان سبب ملكه أنه لمّا كثر البغى فى الناس وأكل القوىّ الضعيف وفشا الظلم بينهم، اجتمع أكابرهم ورأوا أنه لا يقيم أمرهم إلا ملك يرجعون إليه، وملّكوه؛ على ما نورده- إن شاء الله- فى [فنّ] التاريخ فى أخبار ملوك الفرس.
وكانت قريش فى الجاهلية، حين كثر فيهم الزعماء وانتشرت الرياسات وشاهدوا من التّغالب والتجاذب ما لم يكفّهم عنه سلطان قاهر، عقدوا بينهم حلفا على ردّ المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم. وكان سبب ذلك أنّ رجلا من اليمن من بنى زبيد قدم مكة معتمرا ومعه بضاعة، فاشتراها منه رجل من بنى سهم، قيل: إنه العاص بن وائل، فلواه بحقّه؛ فسأله ماله أو متاعه، فامتنع عليه؛ فقام على الحجر وأنشد بأعلى صوته:
يال قصىّ لمظلوم بضاعته
…
ببطن مكة نائى الدار والنّفر
وأشعث محرم لم تقض حرمته
…
بين المقام [1] وبين الحجر والحجر
أقائم من بنى سهم بذمّتهم
…
أو ذاهب فى ضلال مال معتمر
[1] كذا فى الأغانى (ج 16 ص 64 طبع بولاق) وفى الأصل: «بين الاله
…
» .
وأن قيس بن شيبة [1] السلمى باع متاعا من [2] أبىّ بن خلف فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بنى جمح فلم يجره؛ فقال قيس:
يال قصىّ كيف هذا فى الحرم
…
وحرمة البيت وأخلاق [3] الكرم
أظلم لا يمنع منّى من ظلم
فأجابه العبّاس بن مرداس:
إن كان جارك لم تنفعك [4] ذمّته
…
وقد شربت بكأس الذّلّ أنفاسا
فأت البيوت وكن من أهلها صددا [5]
…
لا تلق ناديهم فحشا ولا باسا
وثمّ كن [6] بفناء البيت معتصما
…
تلق ابن حرب وتلق المرء عبّاسا
قرمى قريش وحلّا فى ذوائبها
…
بالمجد والحزم ما عاشا وما ساسا
ساقى الحجيج، وهذا ياسر فلج [7]
…
والمجد يورث أخماسا وأسداسا
فقام العبّاس وأبو سفيان حتى ردّا عليه ماله. واجتمعت بطون قريش فتحالفوا فى بيت عبد الله بن جدعان على ردّ المظالم بمكة، وألّا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا للمظلوم بحقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم قبل النبوّة وهو ابن خمس وعشرين سنة، فعقدوا حلف الفضول؛
فقال رسول الله صلى الله عليه
[1] كذا فى الأغانى والأحكام السلطانية، وفى الأصل. «قيس بن نشبة
…
» .
[2]
فى الأصل: «على أبىّ
…
» ولكن بقية الكلام تقتضى أن يكون كما أثبتناه نقلا عن الأغانى.
[3]
فى الأحكام السلطانية: «وأحلاف الكرم» .
[4]
فى الأغانى: «لم تنفك ذمته
…
» .
[5]
صددا: قريبا.
[6]
كذا فى الأغانى وفى الأصل «ولا تكن
…
» وهو لا يستقيم به المعنى، وفى الأحكام السلطانية:
«ومن يكن
…
» وآثرنا ما فى الأغانى، لمناسبة تاء الخطاب فى «تلق» كما ورد فى الأصل.
[7]
الفلج بالفتح كالفالج: الفائز، ولعله حرك هاهنا للضرورة.
وسلم ذاكرا للحال: «لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول أما لو دعيت اليه [فى الإسلام [1]] لأجبت وما أحبّ أنّ لى به حمر النّعم وأنّى نقضته وما يزيده الإسلام إلا شدّة»
. وقال بعض قريش فى هذا الحلف:
تيم بن مرة إن سألت وهاشم
…
وزهرة الخير فى دار ابن جدعان
متحالفين على النّدى ما غرّدت
…
ورقاء فى فنن من الأفنان [2]
فهذا كان أصل ذلك وسببه فى الجاهلية.
وأمّا فى الإسلام-
فقد نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المظالم فى الشّرب الذى تنازعه الزّبير بن العوّام ورجل من الأنصار فى شراج [3] الحرّة فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وقال:«اسق يا زبير ثم أرسل الى جارك» ، فقال له الأنصارىّ: أن كان ابن عمتك! فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
«اسق ثم احتبس حتى يرجع [4] الماء الى الجدر»
، فقال الزّبير: والله إنّ هذه الآية
[1] زيادة من الكامل لابن الأثير ونهاية ابن الأثير وغيرهما، وفى الأغانى وكتاب «ما يعوّل عليه فى المضاف والمضاف اليه» (نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية رقم 78 أدب م) :«اليوم» .
[2]
فى الأغانى: «ورقاء فى فنن من جزع كتمان» وسياق الأغانى للبيتين يدل على أنهما موضوعان من غير خبير بالشعر. قال: «قال وحدّثنى محمد بن الحسن عن عيسى بن يزيد بن دأب قال: أهل حلف الفضول: هاشم وزهرة وتيم، قال فقيل له: فهل لذلك شاهد من الشعر؟ قال نعم، قال أنشدنى بعض أهل العلم قول بعض الشعراء- ثم ذكر البيتين على ما ذكرنا من روايته فى البيت الثانى، ثم قال- فقيل له وأين كتمان؟ فقال: واد بنجران. فجاء ببيتين مضطربين مختلفى النصفين
…
» .
[3]
انشراج: جمع شرج بالفتح، وهو مسيل الماء من الحرة الى السهل.
[4]
فى اللسان (مادة شرج) : «
…
فقال يا زبير احبس الماء حتى يبلغ الجدر» .
أنزلت فى ذلك (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ)
. وقد قيل فى هذا الحديث إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الزبير أوّلا الى الاقتصار على بعض حقّه على طريق التوسّط والصّلح، فلمّا لم يرض الأنصارىّ بذلك وقال ما قال، استوفى النبىّ صلى الله عليه وسلم للزبير حقّه. ويصحّح هذا القول ما جاء فى آخر الحديث:
«فاستوعى [1] له حقّه» يعنى للزبير.
ثم لم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة رضى الله عنهم أحد، وإنما كانت المنازعات تجرى بين الناس فيفصلها حكم القضاء. فإن تجوّز من جفاة الأعراب متجوّز، ثناه الوعظ إن تدبّره، وقاده العنف إن أبى وامتنع، فاقتصروا على حكم القضاء، لانقياد الناس اليه والتزامهم بأحكامه. ثم انتشر الأمر بعد ذلك وتجاهر الناس بالظلم والتغالب، ولم يكفّهم زواجر المواعظ، فاحتاجوا فى ردع [2] المتغلّبين وإنصاف المظلومين من الظالمين الى النظر فى المظالم؛ فكان أوّل من انفرد للمظالم وجعل لها يوما مخصوصا يجلس فيه للناس وينظر فى قصصهم ويتأمّلها عبد الملك ابن مروان، فكان اذا وقف فيها على مشكل ردّه الى قاضيه أبى إدريس الأودىّ فنفّذ فيها أحكامه، فكان عبد الملك هو الآمر وأبو إدريس هو المباشر. ثم زاد جور الولاة وظلم العتاة واغتصاب الأموال فى دولة بنى أميّة، الى أن أفضت الخلافة الى عمر بن عبد العزيز- رحمه الله فانتصب بنفسه للنظر فى المظالم، وراعى السنن العادلة، وردّ مظالم بنى أميّة على أهلها؛ فقيل له- وقد شدّد عليهم فيها وأغلظ-: إنا نخاف عليك، من ردّها، العواقب؛ فقال: كل ما أتقّيه وأخافه دون