المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر ما قيل فى العفو - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ٦

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌[تتمة الفن الثاني في الإنسان وما يتعلق به]

- ‌القسم الخامس فى الملك وما يشترط فيه وما يحتاج إليه وما يجب له على الرعيّة وما يجب للرعية عليه

- ‌الباب الأوّل من هذا القسم فى شروط الإمامة الشرعيّة والعرفيّة

- ‌الباب الثانى من القسم الخامس من الفن الثانى فى صفات الملك وأخلاقه وما يفضّل به على غيره، وذكر ما نقل من أقوال الخلفاء والملوك الدالّة على علوّ هممهم وكرم شميهم

- ‌ذكر شىء من الأقوال الصادرة عن الخلفاء والملوك الدالّة على عظم هممهم، وكرم أخلاقهم وشيمهم، وشدّة كيدهم، وقوّة أيدهم

- ‌الباب الثالث من الفن الثانى فيما يجب للملك على الرعايا من الطاعة والنصيحة والتعظيم والتوقير

- ‌الباب الرابع من القسم الخامس من الفن الثانى فى وصايا الملوك

- ‌الباب الخامس من القسم الخامس من الفن الثانى فيما يجب على الملك للرعايا

- ‌ذكر ما قيل فى العدل وثمرته وصفة الإمام العادل

- ‌ذكر ما قيل فى الظلم وسوء عاقبته

- ‌ذكر ما قيل فى حسن السّيرة والرّفق بالرعيّة

- ‌الباب السادس من القسم الخامس من الفن الثانى فى حسن السياسة، وإقامة المملكة، ويتّصل به الحزم، والعزم، وانتهاز الفرصة، والحلم، والعفو، والعقوبة، والانتقام

- ‌ذكر ما قيل فى الحلم

- ‌ذكر أخبار من اشتهر بالحلم واتصف به

- ‌ذكر ما قيل فى العفو

- ‌ذكر ما قيل فى العقوبة والانتقام

- ‌الباب السابع من الفن الثانى

- ‌ذكر ما قيل فى المشورة وإعمال الرأى

- ‌ذكر ما قيل فيمن يعتمد على مشورته وبديهته، ويعتضد بفكرته ورويته

- ‌ذكر ما قيل فيمن نهى عن مشاورته ومعاضدته وأمر بالامتناع من مشايعته ومتابعته

- ‌ذكر ما قيل فى الأناة والرويّة

- ‌ذكر ما قيل فى الاستبداد وترك الاستشارة وكراهة الإشارة

- ‌الباب الثامن من الفن الثانى فى حفظ الأسرار والإذن والحجاب

- ‌ذكر ما قيل فى حفظ الأسرار

- ‌ذكر ما قيل فى الإذن والاستئذان

- ‌ذكر ما قيل فى الحجاب

- ‌ذكر ما قيل فى النهى عن شدّة الحجاب

- ‌الباب التاسع من القسم الخامس من الفن الثانى فى الوزراء وأصحاب الملك

- ‌ذكر ما قيل فى اشتقاق الوزارة وصفة الوزير وما يحتاج إليه

- ‌ذكر صفة الوزارة وشروطها

- ‌ذكر حقوق الملك على وزيره وحقوق الوزير على ملكه

- ‌ذكر وزارة التنفيذ

- ‌ذكر ما تتميز به وزارة التفويض على وزارة التنفيذ وما تختلف فيه

- ‌ذكر حقوق الوزارة وعهودها ووصايا الوزراء

- ‌ذكر ما قيل فى وصايا أصحاب السلطان وصفاتهم

- ‌ذكر ما يحتاج إليه نديم الملك، وما يأخذ به نفسه، وما يلزمه

- ‌ذكر ما ورد فى النهى عن صحبة الملوك والقرب منهم

- ‌الباب العاشر من القسم الخامس من الفن الثانى

- ‌ذكر ما قيل فى قادة الجيوش وشروطهم وأوصافهم ووصاياهم وما يلزمهم

- ‌ذكر ما يقوله قائد الجيش وجنده من حين [1] يشاهد العدوّ الى انفصال الحرب والظفر بعدوّهم

- ‌ذكر ما قيل فى المكيدة والخداع فى الحروب وغيرها

- ‌ذكر ما ورد فى الجهاد وفضله وترتيب الجيوش وأسمائها فى القلة والكثرة، وأسماء مواضع القتال، وما قيل فى الحروب والوقائع، وما وصفت به

- ‌وأما ما قيل فى أسماء العساكر فى القلة والكثرة وأسماء مواضع القتال

- ‌ذكر ما ورد فى الغزو فى البحر

- ‌ذكر ما رود فى المرابطة

- ‌ذكر ما قيل فى السلاح وأوصافه

- ‌ما قيل فى السيف من الأسماء والنعوت والأوصاف

- ‌ذكر ما قيل فى تركيب القوس، ومبدإ عملها ومن رمى عنها، ومعنى الرمى

- ‌ذكر ما قيل فى الجنّة

- ‌الباب الحادى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى القضاة والحكام

- ‌ذكر الألفاظ التى تنعقد بها ولاية القضاء، والشروط

- ‌وأما شروطها فأربعة

- ‌ذكر ما يشتمل عليه نظر الحاكم المطلق التصرّف من الأحكام

- ‌ذكر ما يأتيه القاضى ويذره فى حقّ نفسه اذا دعى الى الولاية أو خطبها، وما يلزم الناس من امتثال أمره وطاعته، وما يعتمده فى أمر كاتبه وبطانته وأعوانه وجلوسه لفصل المحاكمات والأقضية

- ‌ذكر شىء مما ورد من التزهيد فى تقلد القضاء والترغيب عنه

- ‌الباب الثانى عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى ولاية المظالم وهى نيابة دار العدل

- ‌ذكر من نظر فى المظالم فى الجاهليّة والإسلام

- ‌ذكر ما يحتاج اليه ولاة المظالم فى جلوسهم لها

- ‌وأما ما يختص بنظر متولى المظالم وتشتمل عليه ولايته فعشرة أقسام:

- ‌ذكر الفرق بين نظر ولاة المظالم ونظر القضاة

- ‌ذكر ما ينبغى أن يعتمده ولاة المظالم عند رفعها إليهم، وما يسلكونه من الأحكام فيها، وما ورد فى مثل ذلك من أخبارهم وأحكامهم فيما سلف من الزمان

- ‌ذكر توقيعات متولى المظالم وما يترتّب عليها من الأحكام

- ‌الباب الثالث عشر من القسم الخامس من الفن الثانى فى نظر الحسبة وأحكامها

- ‌[شروط ناظر الحسبة]

- ‌ذكر الفرق بين المحتسب والمتطوّع

- ‌ذكر أوضاع الحسبة وموافقتها للقضاء وقصورها عنه وزيادتها عليه، وموافقتها لنظر المظالم وقصورها عنه

- ‌وأمّا ما بين الحسبة والمظالم من موافقة ومخالفة

- ‌ذكر ما تشتمل عليه ولاية نظر الحسبة وما يختص بها من الأحكام

الفصل: ‌ذكر ما قيل فى العفو

‌ذكر ما قيل فى العفو

قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

. وقال تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ

. وقال تعالى: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

. وقال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى

. وقال: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ

. وقال تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ العفو لا يزيد العبد إلا عزّا فاعفوا يعزّكم الله»

. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلق فى صعيد واحد حيث يسمعهم الداعى وينفذهم البصر [1] ينادى مناد من تحت العرش ألا من كان له على الله حقّ فليقم فلا يقوم إلا من عفا عن مجرم» . وفى لفظ «ينادى مناد يوم القيامة ألا من كان له أجر على الله فليقم، فيقوم العافون عن الناس»

. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من إمام عفا بعد قدرة إلا قيل له يوم القيامة ادخل الجنّة بغير حساب»

. وقال معاذ بن جبل: لما بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال لى: «يا معاذ ما زال جبريل يوصينى بالعفو فلولا علمى بالله لظننت أنه يوصينى بترك الحدود»

. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عفا عن مظلمة صغيرة أو كبيرة فأجره على الله ومن كان أجره على الله فهو من المقرّبين يوم القيامة» .

وعن علىّ بن الحسين أنه قال: إذا [2] كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم أهل الفضل فيقوم ناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقّاهم الملائكة وهم سائرون فيقولون لهم:

[1] فى الأصل: «وينفدهم الصبر» والتصويب عن الإحياء (ج 3 ص 126 طبع المطبعة الميمنية) .

[2]

فى الإحياء أن هذا حديث رواه البيهقىّ فى الشعب من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه.

قال البيهقىّ: فى إسناده ضعف. انظر (ج 8 ص 32) من شرح الإحياء (طبع المطبعة الميمنية) .

ص: 57

أين تريدون؟ فيقولون: الجنة؛ فيقولون لهم: قبل الحساب؟ فيقولون: نعم؛ فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الفضل؛ فيقولون: وما فضلكم؟

فيقولون: كنا إذا جهل علينا حلمنا، وإذا ظلمنا صبرنا، وإذا أسىء إلينا عفونا؛ فيقولون: يحقّ لكم أن تكونوا من أهل الجنّة فنعم أجر العاملين.

وقيل لأبى الدّرداء: من أعزّ الناس؟ فقال: الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزّكم الله تعالى.

قيل: حدّ العفو ترك المكافأة عند القدرة قولا وفعلا. وقيل: هو السكون عند الأحوال المهيّجة للانتقام.

قال الأحنف: إياك وحميّة الأوغاد؛ قيل: وما هى؟ قال: يرون العفو مغرما والتحمّل مغنما.

وقيل لبعضهم: هل لك فى الإنصاف، أو ما هو خير من الإنصاف؟ فقال:

وما هو خير من الإنصاف؟ فقال: العفو.

وقيل: العفو زكاة النفس. وقيل: لذّة العفو أطيب من لذّة التّشفّى؛ لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفّى يلحقها ذمّ الندم.

وقيل للإسكندر: أىّ شىء أنت أسرّ به مما ملكت؟ فقال: مكافأة من أحسن إلىّ بأكثر من إحسانه، وعفوى عمّن أساء بعد قدرتى عليه.

قال أشجع:

يعفو عن الذنب العظ

يم وليس يعجزه انتصاره

صفحا عن الجانى علي

هـ وليس حاط به اقتداره

ص: 58

وقال المتنبّى:

فتى لا تسلب القتلى يداه

ويسلب عفوه الأسرى الوثاقا

وقال قابوس وشمكير [1] : العفو عن المذنب من واجبات الكرم.

وقالوا: العفو يزين حالات من قدر، كما يزين الحلى قبيحات الصّور.

وقال المنصور لولده المهدىّ: لذّة العفو أطيب من لذّة التشفّى، وقد تقدّم ذكر الدليل. وقال الشاعر:

لذّة العفو إن نظرت بعين ال

عدل أشفى من لذّة الإنتقام

هذه تكسب المحامد والأج

ر وهذى تجىء بالآثام

قال عمر بن حبيب العدوىّ [2] : كنت فى وفد أهل البصرة لما قدموا على المنصور يسألونه أن يولّى عليهم قاضيا، فبينا نحن عنده إذ جىء برجل مصفّد بالحديد، يده مغلولة فى عنقه، فوقف بين يديه فساءله طويلا، ثم بسط له نطع وأمر بضرب عنقه، والرجل يحلف وهو يكذّبه، ولم يتكلّم أحد من الجمع، فقمت وكنت أحدثهم سنّا فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أتأذن لى فى الكلام؟ فقال: قل؛ قلت:

يروى عن ابن عمّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من اعتذر إليه أخوه المسلم فلم يقبل لم يرد على الحوض»

، وقد اعتذر إليك فاقبل منه عذره؛ فقال: يا غلام اضرب عنقه؛ قلت:

إن أباك حدّثنى عن جدّك عن ابن عبّاس أنه قال: قال رسول الله صلى الله

[1] فى ابن خلكان (ج 1 ص 606 ما نصه: «الأمير قابوس: الأمير شمس المعالى أبو الحسن قابوس بن أبى طاهر وشمكير بن زيار بن وردان شاه الجيلىّ أمير جرجان وبلاد الجيل وطبرستان.

وهذا موافق تماما لما جاء فى «قاموس الأعلام التركى» لصاحبه «شمس الدين سامى بك» فقد قال تحت عنوان «قابوس: إنه هو الأمير شمس المعالى أبو الحسن بن أبى طاهر وشمكير الجيلى» . وفى الأصل:

«وشمكرى» . وفى اليتيمة للثعالبى (ج 3 ص 288) : «قابوس بن وشمكير......» .

[2]

فى الأصل:

العدى، بدون واو. والتصويب عن الطبرىّ.

ص: 59

عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش ليقم كل من كان له عند الله يد فلا يقوم إلا من عفا عن أخيه المسلم»

، فقال: آلله [1] أبى حدّثك؟ فقلت:

آلله إن أباك حدّثنى عن جدّك عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم؛ فقال أبو جعفر: صدق، حدّثنى أبى عن جدّى عن ابن عباس بهذا؛ [فقال [2]] : يا غلام خلّ له السبيل، وأمر له بجائزة وولّانى قضاء البصرة.

وقيل: أتى المأمون برجل يريد أن يقتله وعلىّ بن موسى الرّضا جالس، فقال ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: أقول: إن الله تعالى لا يزيدك بحسن العفو إلا عزّا؛ فعفا عنه. وكان المأمون مؤثرا للعفو كأنّه غريزة له؛ وهو الذى يقول: لقد حبّب إلىّ العفو حتى إنى أظنّ أنى لا أثاب عليه. وأحضر إلى المأمون رجل قد أذنب، فقال له المأمون: أنت الذى فعلت كذا وكذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أنا الذى أسرف على نفسه واتكل على عفوك؛ فعفا عنه.

قال: ولما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدىّ أمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين يديه قال: ولىّ الثّأر محكّم فى القصاص، والعفو أقرب للتقوى، والقدرة تذهب الحفيظة، ومن مدّ له الاعتذار فى الأمل هجمت به الأناة على التلف، وقد جعل الله كلّ ذنب دون عفوك، فإن صفحت فبكرمك، وإن أخذت فبحقّك؛ قال المأمون:

إنى شاورت أبا إسحاق والعبّاس فى قتلك فأشارا علىّ به؛ قال: أمّا أن يكونا قد نصحاك فى عظم قدر الملك ولما جرت عليه السياسة فقد فعلا، ولكن أبيت أن تستجلب [3] النصر إلا من حيث عوّدك الله، ثم استعبر باكيا؛ فقال له المأمون:

[1] فى حاشية الأمير على المغنى: (ج 1 ص 18 طبع مصر) : أن من معانى الهمزة القسم مثل «آلله لأفعلنّ» نظرا الى أنها الهاء المبدلة من التاء.

[2]

زيادة يقتضيها السياق.

[3]

كذا فى عيون الأخبار ص 100 طبع دار الكتب المصرية. وفى الأصل: «أبيت أن لا تستجلب من حيث الخ» .

ص: 60

ما يبكيك؟ قال: جذلا إذ كان ذنبى إلى من هذه صفته، ثم قال: إنه وإن كان جرمى بلغ سفك دمى فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلّغانى عفوه، ولى بعد هذا شفعة الإقرار بالذنب وحرمة الأب بعد الأب؛ قال المأمون: لو لم يكن فى حق نسبك ما يبلّغ الصفح عن جرمك لبلّغك إليه حسن تنصّلك. فكان تصويب إبراهيم لرأى أبى إسحاق والعباس ألطف فى طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما. ثم قال المأمون لإسحاق بن العبّاس: لا تحسبنّى أغفلت إجلابك مع ابن المهدىّ وتأييدك لرأيه وإيقادك لناره؛ فقال: والله لإجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من جرمى إليك، ولرحمى أمسّ من أرحامهم، وقد قال [لهم [1]] رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال يوسف لإخوته (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)

، وأنت يا أمير المؤمنين أحقّ وارث لهذه المنّة ومتمثّل بها؛ قال: هيهات! تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك جرم فى إسلامك فى دار خلافتك؛ قال يا أمير المؤمنين، فو الله للمسلم أحقّ بإقالة العثرة وغفران الذنب من الكافر، هذا كتاب الله بينى وبينك، يقول الله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ

الآية [إلى [2]] وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

، فهى للناس يا أمير المؤمنين سنّة دخل فيها المسلم والكافر والشريف والمشروف؛ قال: صدقت، اجلس وريت بك زنادى، وعفا عنه.

وقال أحمد بن أبى دواد: ما رأيت رجلا نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يجب أن يفعله إلا تميم ابن جميل، فإنه كان تغلّب على شاطئ الفرات فظفر به، ووافى به الرسول باب المعتصم فى يوم الموكب فى حين جلوسه للعامّة

[1] زيادة يقتضيها حسن السياق ولعلها سقطت سهوا من الناسخ.

[2]

- هذه الزيادة موجودة فى العقد الفريد.

ص: 61

فأدخل عليه، فما مثل بين يديه دعا بالنّطع والسيف فأحضرا، وجعل تميم بن جميل يصعّد النظر إلى ذلك ولا يقول شيئا، وجعل المعتصم يصعّد النظر فيه ويصوّبه، وكان جسيما وسيما، فرأى أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه من منظره، فقال:

يا تميم، إن كان لك عذر فأت به أو حجّة فأدل بها؛ فقال: أمّا إذ قد أذنت لى يا أمير المؤمنين بالكلام فإنى أقول: الحمد لله الذى أحسن كلّ شىء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، [ثم جعل [1] نسله من سلالة من ماء مهين] ، يا أمير المؤمنين جبر الله بك صدع الدّين، ولأم بك شعث الأمّة، وأخمد بك شهاب الباطل، وأوضح بك سراج الحقّ؛ يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة وكبر الذنب وساء الظنّ، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك وأشبههما بخلافتك، ثم أنشد:

أرى الموت بين السيف والنّطع كامنا

يلاحظنى من حيثما أتلفّت [2]

وأكبر ظنّى أنك اليوم قاتلى

وأىّ امرئ مما قضى الله يفلت!

ومن ذا الذى يدلى بعذر وحجّة

وسيف المنايا بين عينيه مصلت

يعزّ على أبناء تغلب موقف

يسلّ علىّ السيف فيه وأسكت

وما جزعى من أن أموت وإننى

لأعلم أنّ الموت شىء مؤقّت

ولكنّ خلفى صبية قد تركتهم

وأكبادهم من حسرة تتفتّت

كأنى أراهم حين أنعى إليهم

وقد خمشوا تلك الوجوه وصوّتوا

فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة

أذود الردى عنهم وإن متّ موّتوا

وكم قائل: لا يبعد الله داره

وآخر جذلان يسرّ ويشمت

[1]- هذه الزيادة موجودة فى العقد الفريد.

[2]

كذا فى العقد الفريد (ج 1 ص 238. وفى الأصل: من حيث لا

) .

ص: 62

قال: فتبسّم المعتصم وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل! اذهب فقد غفرت لك الهفوة وتركتك للصّبية.

وحكى: أن عبد الملك بن مروان غضب على رجل فهرب منه، فلما ظفر به أمر بقتله؛ فقال له الرجل: إن الله قد فعل ما أحببت من الظفر فافعل ما يحبّه من العفو، فإن الانتقام عدل والتجاوز فضل، والله يحبّ المحسنين؛ فعفا عنه.

وحكى عن محمد بن حميد الطّوسىّ أنه كان يوما على غدائه مع جلسائه إذا بصيحة عظيمة على باب داره، فرفع رأسه وقال لبعض غلمانه: ما هذه الضجّة؟

من كان على الباب فليدخل؛ فخرج الغلام ثم عاد إليه وقال: إن فلانا أخذ وقد أوثق بالحديد والغلمان ينتظرون أمرك فيه؛ فرفع يده من الطعام؛ فقال رجل من جلسائه:

الحمد لله الذى أمكنك من عدوّك، فسبيله أن تسقى الأرض من دمه؛ وأشار كلّ من جلسائه عليه بقتله على صفة اختارها، وهو ساكت؛ ثم قال: يا غلام، فكّ عنه وثاقه ويدخل إلينا مكرّما، فأدخل عليه رجل لادم فيه؛ فلما رآه هشّ إليه ورفع مجلسه وأمر بتجديد الطعام، وبسطه بالكلام ولقّمه حتى انتهى الطعام، ثم أمر له بكسوة حسنة وصلة، وأمر بردّه إلى أهله مكرّما ولم يعاتبه على جرم ولا جناية، ثم التفت إلى جلسائه وقال لهم: إنّ أفضل الأصحاب من حضّ الصاحب على المكارم، ونهاه عن ارتكاب المآثم؛ وحسّن لصاحبه أن يجازى الإحسان بضعفه، والإساءة بصفحه؛ إنا إذا جازينا من أساء الينا بمثل ما أساء فأين موقع الشكر على النعمة فيما أتيح من الظفر! إنه ينبغى لمن حضر مجالس الملوك أن يمسك إلا عن قول سديد وأمر رشيد، فإنّ ذاك أدوم للنعمة وأجمع للألفة؛ إن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ

الآية.

ص: 63

وقيل: بعث بعض الملوك فى رجل وجد عليه فظفر به، فلما مثل بين يديه قال: أيها الأمير، إنّ الغضب شيطان فاستعذ بالله منه، وإنما خلق العفو للمذنب والتجاوز للمسيىء، فلا يضيق علىّ ما يسع الرعيّة من حلمك وعفوك؛ فعفا عنه وأطلق سبيله.

وقال خالد بن عبد الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه: يا أمير المؤمنين، إنّ القدرة تذهب الحفيظة، وأنت تجلّ عن العقوبة، ونحن مقرّون بالذنب، فإن تعف عنّى فأهل ذلك أنت، وإن تعاقبنى فأهل ذلك أنا؛ فعفا عنه.

وقيل: أتى الحجاج بأسرى من الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم فقتلوا، حتى قدّم شابّ منهم فقال: والله يا حجّاج إن كنا أسأنا فى الذنب فما أحسنت فى العفو؛ فقال الحجاج: أفّا لهذه الجيف! أما كان فيهم من يقول مثل هذا! وأمسك عن القتل.

وأتى الحجاج بأسرى فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجّاج عن السّنّة خيرا، فإنّ الله تعالى يقول: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً

، فهذا قول الله تعالى فى كتابه، وقال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:

وما نقتل الأسرى ولكن نفكّهم

إذا أثقل الأعناق حمل القلائد

فقال الحجّاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبرونى ما أخبرنى به هذا المنافق! وأمسك عمن بقى.

ص: 64