الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما قيل فيمن يعتمد على مشورته وبديهته، ويعتضد بفكرته ورويته
قال بعض الحكماء: عليك بمشورة من حلب أشطر دهره، ومرّت عليه ضروب خيره وشرّه؛ وبلغ من العمر أشدّه، وأورت التجربة زنده. وقيل: استشار زياد رجلا؛ فقال الرجل: حقّ المستشار أن يكون ذا عقل وافر، واختبار متظاهر، ولا أرانى كذلك. قال إبراهيم بن العبّاس:
يمضى الأمور على بديهته
…
وتريه فكرته عواقبها
فيظلّ يصدرها ويوردها
…
فيعمّ حاضرها وغائبها
وإذا الحروب علت بعثت لها
…
رأيا تفلّ به كتائبها
رأيا إذا نبت السيوف مضى
…
قدما بها فسقى مضاربها
وقال آخر:
ألمعىّ يرى بأوّل رأى [1]
…
آخر الأمر من وراء المغيب
لا يروّى ولا يقلّب كفّا
…
وأكفّ الرجال فى تقليب
وقال آخر [2] .
الألمعىّ الذى يظنّ بك الظّ
…
نّ كأن قد رأى وقد سمعا
وكانت العرب تحمد آراء الشيوخ لتقدّمها فى السن، ولأنها لا تتبع حسناتها بالأذى [3] والمنّ، ولما مرّ عليها من التجارب التى عرفت بها عواقب الأمور، حتى
[1] فى ديوان ابن الرومىّ: بأول ظنّ.
[2]
القائل هو أوس بن حجر؛ وهذا البيت من قصيدة له فى الرثاء ذكرها القالى فى أماليه (ج 3 ص 35) مطلعها:
أيّتها النفس أجملى جزعا
…
إن الذى تحذرين قد وقعا
[3]
فى الأصل: «إلا بالأذى
…
» والسياق يقتضى حذف «إلا» .
كأنّها تنظرها عيانا، وطرأ عليها من الحوادث التى أوضحت لها طريق الصواب وبيّنته تبيانا؛ ولما منحته من أصالة رأيها، واستفادته بجميل سعيها. ولذلك قال علىّ ابن أبى طالب رضى الله عنه: رأى الشيخ خير من مشهد [1] الغلام.
ومن أمثالهم «زاحم بعود أودع» [2] . قال بعض الشعراء:
لئن فقدوا الشباب فربّ عقل
…
أفادوه على مرّ الليالى
خبت نار الذكاء فأجّجوها
…
بآراء أحدّ من النّصال
وقد عدل قوم عن ذلك، وسلكوا فى خلافه أوضح الطّرق وأنهج المسالك؛ وقالوا:
بل رأى الشباب هو الرأى الصائب، وفهمهم الفهم الثاقب؛ ونجم سعدهم الطالع، وسحاب جدّهم الهامع؛ وإن لهم من الفطنة أوفر نصيب، وإنّ سهم رأيهم الرائش [3] المصيب؛ وإن عقولهم سليمة من العوارض، وأذهانهم آخذة بحظ وافر من الغوامض.
ولذلك قالت الحكماء: عليكم بآراء الأحداث ومشورة الشبّان، فإن لهم أذهانا تفلّ القواصل [4] ، وتحطّم الذوابل.
وقالوا: آراء الشّباب خضرة نضرة لم يهتصر [5] غصنها هرم، ولا أذوى زهرتها قدم، ولا خبا من ذكائها بطول المدّة ضرم. قال شاعر:
عليكم بآراء الشّباب فإنّها
…
نتائج ما لم يبله قدم العهد
فروع ذكاء تستمدّ من النّهى
…
بأنور فى اللّأواء [6] من قمر السعد
[1] كذا فى عيون الأخبار، وفى الأصل:«من جلد الغلام» .
[2]
كذا فى مجمع الأمثال للميدانى، وفى الأصل:«أو فدع» بزيادة الفاء. والعود: المسنّ من الإبل، أى لا تستعن إلا بأهل السن والتجربة فى الأمور.
[3]
الرّائش: السهم ذو الريش.
[4]
قواصل جمع قاصل، والقاصل:
السيف القطاع.
[5]
يهتصر الغصن: يعطفه ويكسره من غير انفصال.
[6]
اللأواء: الشدة.